
لا تزيّد في قول من يقول إن خوفها من سورية هو ما يجعلُ إسرائيل تواظب على الاعتداء شبه اليومي على كل ما تبقّى من مقدّراتٍ عسكريةٍ في الأراضي السورية، وعلى ترويع الشعب في التوغّلات البريّة في الجنوب. أمّا سورية التي تُخيف، والمؤشَّر إليها هنا، فلا حاجة إلى تنويهٍ بأنها ليست التي نرى، ليست الحُطام المستضعَف الذي أورثه نظام الأسد الساقط للحكم الراهن، وإنما سورية التي تعرف إسرائيل، كما الجميع، أن شعبَها يتطلّع إلى قيامتها، عندما تُصبح وطناً مُعافى لكل أبنائه، مسلّحاً بإرادتهم أحراراً، وقد اهتدوا إلى النظام السياسي الذي يريدون، والذي ينهضُ على العدل، وعلى الإجماع الوطني بأن قوّة سورية في قوّتهم، أصحاب قرارٍ يشاركون في صوْغه، عندما يتمثّلون في كل مؤسّسات السلطة والحكم والإدارة والتسيير، وعندما يتوطّن في كل سوريٍّ شعورُه، حقّاً، بأنه ينتسبُ إلى بلدٍ له، لا إلى عائلةٍ أو جماعةٍ أو طبقةٍ أو عصابة.
سورية هذه تُخيف إسرائيل، فمواطنوها يعتنقون عداء دولة القتل والاحتلال، وليس من واحدٍ فيهم على استعدادٍ للتفريط بشيءٍ من أرض الجولان المحتلة، ولا لمغادرة ارتباطِه العضوي والعروبي مع فلسطين قضيةً أولى للأمة. سورية الناهضة، وقد استردّها شعبُها من عائلة الاستبداد والفساد التي احتلّتها طويلاً، وزاولت أطناناً من الدجل في القومية والعروبة، هذه سورية التي تتحسّب منها إسرائيل، ولن تكفّ عن اقتراف كل ما قد يؤخّر وصول الشعب السوري إليها، أو يقطع طريقَه إليها، أو يُشعر هذا الشعب باستحالتِها. والذي صار أن أبناء هذا البلد الذي استحقّ وصفه بلد العروبة النابض هزموا ما كان الظنّ أنه من المستحيلات، عندما أنجزوا فجر 8 ديسمبر (2024) استقلالاً ثالثاً لبلدهم، بعد إعلانها دولةً مستقلّة في 1920، ثم مع جلاء الاحتلال الفرنسي عنها في 1946.
ليس من استعارات المجاز أن يُقال إن نهوض سورية دولةً منيعةً، مستقرّةً، حرّةً، من شروط نهوض الأمة العربية كلها. وليس خيالاً تجود به قريحة شاعرٍ أن يُؤكَّدَ أن العرب ينتظرون سورية التي يُحسَب لها مائة حساب، وهي التي يعدّها المعتدون الباغون في دولة الاحتلال، منذ سنواتٍ، ساحةً مستباحةً لسلاح الطيران الإسرائيلي. وإذا كان هذا المشتهى ليس منظوراً بعد، فلا يعني أنه ليس خياراً في مقدّمة أولويات السوريين، وهم يخوضون، في المقطع المعايَن من انعطافتهم الصعبة، في نقاشٍ عسيرٍ، يبحثون فيه عن كل ما يُسعف بلدهم ويأخُذُه من رثاثة ما هو عليه إلى الأفق الذي ما قامت الثورة إلا نشداناً له. وهذا مطمئنٌ، فتعطّل دواليبُ التاريخ في مفصلٍ ما لن يكون قدراً أبديّاً مسلّماً به.
وإذا رأى من يرى في كل هذا القول رغائبيّة ظاهرةً فله هذا، فأولُ عتبةٍ يوقَف عليها لإنجاز أيِّ مرغوبٍ فيه أن يكون مرغوباً فيه حقّاً. وما يجوس في خواطرنا بشأن سورية المنتظرة، غير البعيدة إن شاء الله، غزير، ليس العبور إليه هيّناً، لكن حماية البلد من الذئب الإسرائيلي لا يجوز أن تُغمَض العيون عنه هدفاً لا تؤخّره أولوياتٌ معلومة، تتعلق بعيش السوري وحقوقه في عدالةٍ اجتماعيةٍ وكرامةٍ في مسكنه ورزقه وتعليمه وطبابته. ولا يجوز أن يُعدّ هذا الهدف نافلاً، وأن يُحسَب الحديث فيه انصرافاً عن ضروراتٍ أشدّ إلحاحاً، فلسنا هنا أمام مفاضلاتٍ تُزاحم واحدةٌ أخرى. إنما الأمر أن إسرائيل لن تجعل السوري يطمئن إلى دعةٍ وأمنٍ وأمانٍ في بلده. ولهذا لا عظة ولا مدرسيّة في التذكير بما لا يحتاج أيّ تذكير، وموجزُه أن السوري الذي تقوى بلدُه به هو الرهان الأول في عملية المواجهة المحتومة مع دولة الاحتلال والعدوان. وبداهةً، بوجود قيادةٍ ذات مخيّلةٍ وقدراتٍ خاصةٍ في الابتكار والإبداع، في مسيرة بحثها عن معادلاتٍ توازي بين وجوب هذه المواجهة وتجنيب السوريين أعباءً ليس في مكنتهم احتمالها، سيما في غضون الثقيل الباهظ من الإكراهات الضاغطة عليهم.
هو قدر سورية الذي سيّجتها به مواريث التاريخ والجغرافيا جعلها في الموقع المتقدّم في معركة المصير مع العدو الإسرائيلي الذي يرتعش من سورية القوية المعافاة، ولهذا لا ينفكّ يضرب فيها بارتجاف الخائف، لا بثقة المطمئن إلى دوام ضعفِها الذي ستُغادره، قريباً إن شاء الله، حماها الله وحمى ناسها.
المصدر: العربي الجديد
سورية وطن لجميع شعبه، سورية دولة المواطنة وبنظام ديمقراطي، الشعب عندما يجد بقيادته تطلعاته لغدٍ مشرق، هذه هي سورية التي تخيف الكيان الص يوني، وليس سورية بنظام إستبدادي طائفي.