فـــــي الــــــــذكــــــــــرى الــــســـــادســـــــة للـــــثـــــــورة الـــســـــــوريـــــــــة مراجعة نقدية للتجرية : عوامل الضعف والقوة والقصور والانحراف والاصلاح

محمد خليفة

مدخل عام : العوامل التي ولدت الثورة

======================

 يتطلب تحديد سمات الثورة السورية المرور أولا على (العوامل) التي ساهمت في تحديدها وما ترتب عليها من تدخلات خارجية ، وهي تنقسم ثلاثة أقسام :

أولا – عوامل عامة :

1 – الموقع الجغرافي المهم الذي تتمتعسورية بسبب اطلالتها على البحر المتوسط , والذي وضعها على طرق التجارة الاقتصادية الرئيسية عبر التاريخ وقربها من الامبرطوريات الكبرى , كالبيزنطية والرومانية والفارسية والعثمانية . أما في التاريخ المعاصر فقد اضيف لأهميتها الجغرافية إنشاء الاستعمار الاوروبي للكيان الصهيوني في فلسطين التي تمثل جنوب سورية التاريخية , محاذاة هذا الكيان لسورية الحالي

2 – عامل ديمغرافي: ناتج عن تعدد المكونات الطائفية والعرقية فيها ساعد الدول الاستعمارية الاقليمية والاجنبية على توظيفه لخلق توترات عرقية وفتن دينية فيها وفي الدول المجاورة كتركيا والعراق , استغلتها ايران لاشباع اطماعها التاريخية للتمدد الى المتوسط ، اضافة لأطماع اسرائيل في الجولان ولبنان .

3 – اكتشاف النفط والغاز مؤخرا في مياهها الاقليمية بين بانياس وطرطوس بكميات ضخمة تناهز مخزون الكويت النفطي .

ثانيا – عوامل داخلية :

وهي عوامل اجتماعية وسياسية واقتصادية خلقت جذور الثورة: تمثلت في نظام حكم أمني مارس اقصى مستويات الطغيان السياسي والتمييز الطائفي , والفساد والإفساد الممنهج للمجتمع، فنهب بواسطة مؤسسته العسكرية والمخابراتية القطاع العام، وقاسم التجار أرباحهم، وأجبرهم على “مشاركته” في أعمالهم ومداخيلهم ، فاستولى بذلك على الرأسمال الوطني, وأقحمه في ممارسة القهر الاقتصادي, وأدت هذه السياسة لتخريب الاقتصاد ، ونهب القطاع العام وبيعه أو تسليمه لأشخاص نافذين في السلطة, فترعرعت طبقة من الطفيليين واللصوص تتسلط على التجار وتتحكم بالتجارة .وابتكر ما يسمى نظام (السوق الاجتماعي) كأكبر كذبة اشتراكية ,.كما احدث اهماله للريف كارثة للاصلاح الزراعي وسبب أكبر هجرة للفلاحين من الريف الى المدينة , خلقت منهم أحزمة بؤس تحيط بالمدن ، الأمر الذي عمّق اسباب الثورة في الارياف , وهيأ لانفجارها فيه اكثر من المدن .

 كما خربت الطغمة الحاكمة النظام التعليمي بتسييسه وأدلجته وتبعيثه بوسائل عديدة ، كتمييزها بين الطلاب العاديين والطلاب المنخرطين في منظمة (الشبيبة) بمنح هؤلاء 15 درجة استثنائية على مجاميعهم في امتحانات الثانوية العامة , منحهم ميزة تفوق مزيفة على حساب الطلاب المجدين . كما فتحت الطغمة الباب لجامعات المفاضلة الخاصة ، أو التعليم الموازي بغرض جني الارباح من الطلاب الراغبين في متابعة تعليمهم وأغلقت بوجوههم الجامعة الحكومية المجانية . وسببت سياسة تبعيث الجهاز التربوي إنهاء خدمات كثيرين لمجرد انهم ليسوا اعضاء في حزب البعث الحاكم ، فأدى ذلك الى تخريب العملية التعليمية والتربوية والثقافية .

ثالثا – العامل الخارجية :

 اهمها شرارة (الربيع العربي) ونجاح الثورات في أربع دول عربية خلال اسابيع قليلة ، فانكسر جدار الخوف وشجع جماهيرنا على التمرد ضد النظام الاستبدادي ,وحرض جماهيرنا على تفجير غضبها المكبوت طول نصف قرن .

هذه العوامل مجتمعة ساهمت في تحديد السمات الاولى للثورة وتمثلت بما يلي :

في المرحلة الأولى :

——————

  1 – الطبيعة الشعبية , أي مشاركة القطاعات والشرائح والفئات الشعبية من كل الطبقات والطوائف واستقلاليتها عن الاحزاب والمنظمات .

2 – الطبيعة الوطنية إذ عبرت عن كل المكونات الاجتماعية , ومثلت ردا على نظام استبدادي اعتمد الطائفية منهجا له واتخذ من الأقليات ( الطائفية والعرقية ) رهائن في يديه بدعوى حمايتها من الأكثرية , وتعبئتهم في حربه ضد الثورة , وبقدر ما كان النظام يحاول جر الثورة للهويات الطائفية والعرقية ، كان الشعب يرد بشعارات تتمسك بالوحدة الوطنية والسلمية وبهوية الثورة (ثورة حرية وكرامة) شاركت فيها الاكثرية والأقليات على حد سواء , بدون النظر للنسب نظرة حسابية . وفي وقت لاحق نجح النظام في استمالة (الاقليات) نتيجة تأثرها ب( ثقافة الفوبيا) التي كرسها عبر خمسين عاما .

3 – الطبيعة السلمية : اتسمت الثورة طوال سنتها الاولى بالطابع السلمي , وكان أحد ابرز شعاراتها ( حرية حرية ، سلمية سلمية ) وبقيت كذلك حتى بدأ النظام بطشه فأطلقت هتافها الحاسم ( الشعب يريد إسقاط النظام ) .

  في المرحلة الثانية :

——————

 1 – الانتقال للسلاح : عندما اتسع نطاق الاحتجاجات بدأ النظام يقنص المتظاهرين ويمنهج القتل وبدأ عداد الشهداء يدور، وانتشر (جيش الشبيحة) يدوس هامات المتظاهرين السلميين ، ويغتصب النساء وينهب ممتلكات المواطنين ويخطف ويقتل بشكل ممنهج ، تطبيقا لشعاره( الأسد أو نحرق البلد ) الامر الذي دفع الناس للدفاع عن انفسهم وأعراضهم ، ومهد لانتقال الثورة نحو استخدام السلاح كرد فعل طبيعي وحيد على جرائم النظام .

2 – النظام عسكر الثورة : الشعب السوري اعزل ولا يتوفر السلاح له حتى المرخص إلا بصعوبة خارقة , ولذلك يجب أن نسأل : كيف انتشر السلاح ؟ ومن أين حصل المحتجون عليه ؟ . وبحسب شهادات الناشطين يكمن الجواب في أمرين سعى لهما النظام , ويشكلان وجهين لسياسة واحدة : الامعان في اذلال المتظاهرين من ناحية , ورمي السلاح لهم بطرق ماكرة من ناحية ثانية ، مما خلق الدافع لتلقفه واستعماله دفاعا عن النفس . ومن الواضح أن النظام اراد عسكرة الثورة, لأن سلميتها تناقض مصلحته , بينما عسكرتها تمكنه من اتهامها بأنها مؤامرة كونية تنفذها عصابات ارهابية مسلحة .

3 – الانشقاقات العسكرية : مع تصاعد البطش وقتل المتظاهرين وحاضنتهم الاجتماعية بواسطة الجيش والاستخبارات والشبيحة بدأت حالة التمرد والرفض تسري بين رجال الجيش لكيلا يشاركوا في قتل شعبهم , ولم يكن امامهم سوى الانشقاق عن وحداتهم تاركين أسلحتهم , ومع تزايد المنشقين تكونت ظاهرة العسكريين المنشقين .

4 – ظهور الانقسام الطائفي : عندما تجذر الحراك الشعبي , وأيقن النظام عجزه عن اخماده سعى لاستخدام سلاحه الخفي , أي التقسيم الطائفي , وتعبئة الاقليات , وخاصة العلوية ضد بقية الشعب . وكانت حمص هي المختبر الاساسي للفتنة حيث ظهرت عشرات الادلة على اصراره على تقسيم الناس طائفيا وزرع الفتنة والمخاوف والتمييز بين السنة والعلويين .

5 – التدخل الخارجي ( الايراني – الشيعي) : استعان النظام بقوات حزب اللات اللبناني وجهازه الاعلامي يبث سموم الكراهية والحقد والمذهبية بين السوريين , وسعى جاهدا لتحويل الصراع الى فتنة شيعية – سنية وفتح الابواب لإيران لتتدخل بكل امكاناتها العسكرية والبشرية والدعائية , وسمح لها أن تحضر اكثر من 70 الف مقاتل شيعي من العراق وباكستان وافغانستان واليمن وتبدأ مخططا واسعا لتغيير ديمغرافي في بعض المدن كحمص ودمشق وريفها , وخلق واقع سكاني جديد يرفع كثافة الشيعة ويقلل نسبة السنة. وعمل مع حلفائه على نسج تحالف بين الاقليات العلوية والشيعية والدرزية والمسيحية لتعزيز قوته وفرض هيمنته على ( سورية المفيدة ) أي مشروع التقسيم كخيار بديل اذا فشل في استعادة سلطته على كامل سورية. ولا شك أن النظام نجح بتدويل الصراع واقحام ايران في اتونه , وتعميق الفتنة السنية الشيعية .

6 – اسلمة الثورة : على اثر استفحال الدور الايراني الشيعي في قتل الشعب السوري وخاصة المكون السني ظهرت ردود افعال خارجية في العالم العربي والاسلامي واستقطبت منظمات سنية متطرفة تزعم الدفاع عن الاسلام السني . وبذلك تكرست هوية الصراع سنيا – شيعيا أو سنيا – نصيريا وظهرت ( فصائل أو جيوش اسلامية) بدعم وتمويل إقليميين , مما اوجد فاصلا كبيرا بين قوى الثورة الشعبية والقوى التي ركبت موجتها حتى صادرتها وحرفتها عن منطلقاتها .

 تحولات الثورة :

==========

 انطبعت الثورة السورية بعد سنة من انطلاقها بطابع اسلامي جنى على طابعها الوطني الديمقراطي . وكان لهذا التحول أسباب عديدة وترتبت عليه نتائج غاية في الأهمية والخطورة , وحتى نفهم آلية هذا التحول لا بد من فهم البيئة الدينية والايديلوجية والحركية لتيارات الاسلام السياسي . ومدى تقبلها للمفاهيم السياسية المعاصرة كالحرية والدولة المدنية والديموقراطية مثلا .

 لذا ينبغي التمييز بين القضايا العقيدية للاسلام والقضايا الفكرية الحديثة وعدم الخلط بينهما, كما ينبغي قبل كل شيء التأكيد على المكانة الروحية والوجدانية للاسلام كدين تعتنقه وتطبقه غالبية الشعب السوري ممثلا بالمكون السني بلا أدلجة , وتمييزه عن التيارات والمدارس الايديولوجية والحركية المتفرعة عن ( الاسلام السياسي ) .

ويمكن القول إن أكثر الفصائل الاسلامية المسلحة التي ظهرت في سورية بعد الثورة بلا خلفية ايديولوجية وتنظيمية , بل تتشكل من الوافدين الجدد الذين اجتذبتهم الثورة وما فرضته من خيارات روحية وسياسيه على المجتمع .

إن غلبة الطابع الاسلامي على الثورة على ما عداه أملته طبيعة الظروف الاستثنائية القسرية التي مرت بها الثورة المسلحة ، ما يعني ان هذه الظاهرة مرشحة للتطور, كنتيجة لدخول الريف بقوة في الثورة المسلحة وضآلة دور المدن الرئيسية حيث فرض ثوار الريف نمطا من ثقافتهم الدينية المميزة التي تعكس طبيعة مجتمعهم وثقافتهم الفلاحية والبدوية من جهة, ويتواءم مع الثورة المسلحة من جهة اخرى، وهو مايفسر بروز دور السلفيين, بينما بقي الاتجاه الاسلامي في المدن مترددا في موقفه من الثورة, بعضه متحالف مع النظام وأغلبه محسوب على الاتجاه الصوفي .

 وفيما يلي بعض الامثلة الرئيسية :

– التيار الاجتماعي الحاضن لحركة الاخوان المسلمين : كان منزويا وخاملا بتأثير الصراع المرير مع نظام الاسد الاب في السبعينات والثمانينات والذي ترك آثارا وخيمة عليه وعلى قاعدته , وأدت لانطوائه ولانحساره عن العمل السياسي الشعبي ، كما ادت لانقسامات داخلية وشيخوخة قياداته التاريخية وتراجع قدرته على استقطاب عنصر الشباب . إلا أن هذه الحالة شهدت تغيرا جذريا بعد اشتعال الثورة , إذ فجرت نشاطا حيويا داخل الجماعة ودفعتها الى تثويرعلاقاتها مع منظمات المجتمع المدني , وبناء وحدات عسكرية مقاتلة .

– (فيلق الشام ) جماعة سلفية صاعدة ومؤثره لم تكن معروفة قبل الثورة , إذ أن طبيعة النظام العلمانية حالت دون انتشار (السلفية) كما ادى التزاوج بين النظام والحركة الصوفية الى قمع للسلفية وإضعافها. أما بعد الثورة فالسلفية انتعشت وظهرت للعلن , وملأت فراغا عبر العمل المسلح مستفيدة من الدعم المالي الكبير من سلفيي الخارج لكن افكارهم لم ترق الى بناء هوية ايديلوجية واضحة.

– (السلفية الشامية) لابد من تمييزها عن السلفيات التقليدية . فهي تمتاز بطابع توافقي عقلاني منفتح مقارنة بالسلفيات التقليدية التي تتجنب العمل السياسي , أو السلفية الجهادية التي تدعو لاحياء (الخلافة) .

– (القاعدة ) مثلت إحدى ابرز الاشكاليات في الثورة السورية ، فالنظام استثمرها لاثارة الذعر من شبح الاصولية الجهادية العالمية ، في حين أن الدول الغربية تذرعت بها لتبرر ترددها في تسليح المعارضة ، فيما ارتبكت الفصائل المسلحة وتناقضت مواقفها بين مؤيد لها بسبب فعاليتها القتالية , وبين متخوف من دورها بسبب خطورة أجندتها على الثورة , وارتباطاتها الخارجية .وفي كل الاحوال شكلت الثورة بيئة خصبة لنموها قبل أن تنقسم بين (النصرة) الموالية للتنظيم العالمي, و(تنظيم الدولة الاسلامية) – داعش بقيادة البغدادي الذي أعلن الخلافة وتحالف معه اكثر من فصيل سلفي متطرف كجند الاقصى , وجند الخلافة , وجماعة الامام البخاري , وجماعة التركمانستان .. إلخ .

– الصوفيه والعسكرة . من المعروف ان الطرق الصوفية كانت متجذرة في المجتمع السوري تاريخيا ولها حضور ونشاط واسعان في الاوساط الدينية , وبين الفقهاء وأئمة المساجد ، بالرغم من انها لم تنشىء حركة تنظيمية , ولم تنخرط في العمل السياسي , وانما احتفظت بطابعها الفكري والعقائدي . وعندما انفجرت الثورة انحاز بعض اعلام وجماعات الصوفية الى صف النظام وانحاز بعض آخر للثورة , بل إن بعضهم انخرط في العمل الجهادي المسلح كأفراد لا كجماعات , ويلاحظ غيابهم الكامل عن ساحة القتال كجماعة . وظل الطابع العام للجماعات الصوفية مدنيا , فاغلب اتباعها في المدن الرئيسية كدمشق وحلب ،وتحظى بقبول جيد , مايعزز احتمال تجدد دورها مستقبلا .

 كل ما سبق يضعنا امام اجندات وأهداف اسلامية متباينة في رؤياتها للثورة بشقيها السلمي والمسلح . ويمكن تقسيم الاجندات المشار اليها بشكل رئيسي الى :

 أجندة اخوانية : أظهرت الحرص على اسقاط النظام , وعملت على اعادة بناء وترميم مؤسساتها كجماعة , وتعزيز دورها السياسي والمركزي , وحرصت على طرح لخطاب ديموقراطي وتأكيدها على ضمان الحريات وحقوق الاقليات , ولكن الشكوك ظلت تحوط طرحها وتظلل صدقيته .

 أجندة سلفية : جميع فصائلها تتوافق على مبدأ تطبيق الشريعة الاسلامية خلال مسيرة الثورة , كما شددت على اقامة دولة ونظام يطبقان الشريعة الاسلامية بعد النصر , وأظهرت تجاربها في ممارسة السلطة على المواطنين خلال السنوات الخمس الماضية اشكالا وصورا من التعسف في تطبيق الاحكام الدينية بشكل عشوائي فيه الكثير من الجور والظلم والتعسف والفساد الأمر الذي نفر الناس منهم وألقى ظلالا من الشك على مصداقيتهم , لا سيما تجاه الحريات الفردية والقوانين الوضعية واحترام حقوق الانسان والحريات الكاملة . وتتجنب هذه الفصائل الافصاح عن قبولها بالنظام الديموقراطي وما اذا كانت تقبل الاحتكام لنظام الانتخابات العامة الدورية وتشكيل مجالس نيابية

 أجندة قاعدية : هدفها كسابقتها السلفية اقامة دولة خلافة اسلامية . ويتفق الفصيلان المنبثقان عن القاعدة ( النصرة وداعش ) في نظرتهما الى الصراع في سورية نظرة محض عقائدية وطائفية .

كان لهذه الاجندات دور مباشر وحاسم بتحويل الثورة الى صراع مسلح وترسيخ منهجية العسكرة بديلا عن السلمية , وترسيخ (المشروع الديني ) بديلا عن النظام الاستبدادي , الامر الذي خلق آلية النزوع الى انتماءات ما قبل الدولة , وما قبل الحداثة , وتسبب بنكوص الثورة من المدنية الى مجتمع القبيلة والطائفة , وغيرها من التشكيلات التي تتميز باحادية التفكير والعقيدة والرأي والعرق بالتزامها بأوامر قائد واحد وولاء افرادها لها لا للدولة والوطن ايمانا منهم بضرورة حماية القبيلة في مواجهة الآخر أو أي منطقة جغرافية اخرى أو جماعة ,وكان من شأن ذلك أن تصدرت (القبيل)ة واجهة الثورة. وكان هذا الوضع سببا اساسيا في نشوء ظاهرة( الفصائلية) والشرزمة والعجز عن تحقيق الوحدة , والارتداد من القانون الى العرف .

أما في المدينة التي تتميز بتنوع بشري كبير مقارنة بمجتمع القبيلة كمكون احادي بدأ التحول من القانون الى العرف ومن السلمية الى العسكرة يحدث اضطرابات متعددة الاشكال وعميقة الآثار , اذ كانت المناطق الخارجة عن سيطرة النظام تحكم نفسها بنفسها وفق الاعراف السائدة في كل منها بينما تتضمن العودة الى العرف العودة بالضرورة الى الشريعة الاسلامية , فعادت فعلا للظهور كقانون رئيسي ناظم للحياة للفرد وللجماعة , وبدأت الهيئات والمحاكم الشرعية تتولى وظيفة القضاء .واذا كان بعضها يمكن اعتباره هيئة قضائية حقيقية الا أن بعضها الاخر لا يمكن اعطاؤه هذه الصفة على الاطلاق .

وأخيرا لا بد من الاشارة الى ان الارتداد من الحداثة الى القبلية طغى واتسع بسبب تلك الاجندات المتخلفة حتى أفرز حالة تتناقض جوهريا مع الثورة وتقتلها مبدأ ومنهجا وغاية. فقد انطلقت الثورة بتنوعاتها وتناقضاتها كحركة حداثوية جذرية , تستهدف الانتماء الى عصرها, وتحقيق مشروعها الذي يلبي تطلعات السوريين بعد اسقاط النظام, لكن الحركات الارتدادية الى الدين والعنف حدثت كرد طبيعي على عنف النظام وتطرفه وأدت للنكوص من المدينة الى القبيلة ومن القانون الى العرف , وهذه الارتدادات وضعت الغالبية المسلمة من شعب سورية امام اشكالية وجودية تتمثل في أن المسلم المعاصر ينظر الى تاريخه الاسلامي المضيء ويقارنه بواقع المسلمين المتخلف اليوم فيسأل نفسه : ماذا فعلنا بانفسنا ..؟ وماذا فعل بنا الاخرون ..؟!

 لقد أصبح (العصر الذهبي) المأمول في الفكر السلفي هو (الماضي المفقود) , على عكس الحداثة التي تراه في المستقبل الموعود .

 لقد كانت الثورة انفتاحا اجتماعيا افقيا واسع النطاق حطمت كافة الحواجز العمودية ، ففيها اجتمع غنيها بفقيرها والمتعلم مع الامي والمتدين مع الملحد، والمحافظ مع المتحرر اجتمعوا في ساحة واحدة وهتفوا بصوت واحد ويطلبون مطالب موحدة, إلا أن التحول من السلمية الى العسكرة ونهج (الاسلام السياسي) شكل ارتدادا عن الثورة نفسها , ويبدو أن السياسات الدولية لعبت دورا مباشرا في هذا التحول وعملت على استنزاف واطالة امد الحرب ,وتحويل سورية ساحة جذب لكل التيارات الاسلامية المتطرفة وتجميعها فيها لأغراض مختلفة , وهكذا أصبحت سمة الثورة البارزة الحرب الطائفية والاهلية , وتراجعت صورة الثورة التي انطلقت في البداية لأسباب واقعية ومعيشية استهدفت تحقيق غايات اجتماعية , لكنها تحولت ثورة دينية هدفها تحقيق غايات عقائدية وغيبية مما أدى في المحصلة لانتكاسة الثورة , وخاصة الثورة المسلحة .

رؤية جديدة للنتائج :

============

لقد أدت التحولات السابقة خلال سنوات الثورة الست الماضية الى مجموعة من النتائج العضوية التالية :

أولا – تشرذم الفصائل المسلحة : إذ ظهرت فصائل كثيرة تختلف في هوياتها وأجنداتها وأهدافها وولاءاتها , يمكننا الاشارة الى أهمها :

آ- فصائل تتبنى أيديولوجيات اسلاموية متشددة , ولها أجندات غير وطنية عابرة للحدود [ داعش – جبهة النصرة – لواء خالد بن الوليد – جند الأقصى – نور الدين الزنكي .. إلخ ] .

 ب – فصائل ذات أجندات إسلامية محلية أو وطنية [ أحرار الشام – جيش الإسلام – فيلق الرحمن .. إلخ] .

ج – فصائل محسوبة على الجيش السوري الحر [ جيش العزة – جيش النصر- مجموعة فإستقم كما أمرت , المجلس العسكري في حوران .. إلخ ]

د – فصائل محلية مرتهنة للممول وتقاتل كمرتزقة [ جيش ثوار سوريا (عفرين _تل رفعت) – قوات النخبة – جيش العشائر.. إلخ ]. اضافة لفصائل ارتبطت بحزب الاتحاد الديمقراطي والإدارة الذاتية أو قوات سوريا الديمقراطية كما تم تسميتها مثل [ YPG -الأشايس – وحدات حماية المرأة – قوات الصناديد – جيش الثوار – كتائب شمس الشمال – ..الخ ] .

 لقد خلقت هذه الانقسامات واقعا سمته الأساسية الفوضى والشرذمة العسكرية والاديولوجية, لذلك لا يمكن اعتباره تعددا صحيا بأي حال , لأنه لا يخدم المصالح الوطنية ولا ضابط له , ويعكس تعدد الجهات الممولة والأجندات الإيديولوجية والسياسية , بدليل أنه أدى لصراعات فيما بينها , فاحتربت وتبادلت الاتهامات بالخيانة, وكفر بعضها بعضا ( وخاصة أصحاب الأجندات الشمولية الإسلامية) وساهمت في انحراف بوصلة الثورة عن هدفها الاصلي , أي محاربة الطاغية والقوى الاجنبية المحتلة , وكان المستفيد الوحيد الطاغية وحلفاؤه , والخاسر الوحيد الشعب والثورة .

 ثانيا – غياب المرجعية : تسببت تحولات الثورة وانحرافات القوى الدخيلة وطغيان الادلجة والهويات الاسلاموية الى نتيجة رئيسية هي تغييب المرجعية الوطنية للفصائل المسلحة التي صارت تحمل اسم (الثورة السورية) بقوة السلاح وتمييع أو تضييع أهداف الثورة الأولى التي تجلت في أدبيات (الهيئة العامة للثورة السورية ) و( المجلس الوطني السوري ) وحل محل المرجعية الوطنية مرجعيات متناقضة ومتضاربة , فبعضها شمولية كونية , وبعضها على العكس مناطقية مغرقة في محليتها ذات هويات إسلامية . وبموازاة هذه انتعشت مرجعيات إثنية محلية ( كوردية وسريانية وأرمنية وعشائرية ( الشعيطات – شمر – البكارة – طي – ..) .

لقد كان لغياب المرجعية الوطنية تأثير سلبي خطير على مسيرة الثورة , وانحراف بوصلتها استثمره النظام لتشويهها وتصويرها للرأي العام العالمي كعصابات إرهابية أجنبية لا تمت بصلة للشعب السوري .

ثالثا – على الصعيد السياسي : لقد أدى غياب المرجعية الوطنية والتشرزم الى غياب الخطاب الموحد المعبر عن جوهر الثورة ومبادئها وأهدافها , فتعددت الخطابات وتناقضت كنتيجة حتمية لتعدد الخلفيات الفكرية والاديولوجية للحركات السياسية . وعجزت منظمات المعارضة التي تزعم تمثيل الثورة عن بلورة خطاب واحد متماسك ومقنع , وظهر عدم الانسجام والتناقض حتى على مستوى الفصيل الواحد , فكان الناطقون باسم (الهيئة العامة للثورة السورية) يعبرون عن رؤيات سياسية متباينة , كل حسب خلفيته وثقافته ومزاجيته , دون التزام بمنهجية محددة في أدبيات الهيئة والثورة, وظهرت نفس الحالة في طروحات المجلس الوطني السوري . ويمكننا ارجاع هذه الحالة الى سببين :

– غياب الحياة السياسية الديمقراطية والحرة خلال أربعين سنة من حكم الطاغية الأب والأبن .

– تضارب المناهج الفكرية والسياسية والتجارب التنظيمية السابقة للناشطين, وافتقارهم لثقافة العمل الجبهوي والجماعي وروح الفريق , وتغليب المصلحة الوطنية الجماعية على الولاءات الحزبية والفئوية ، مما أدى لانقسامات وصراعات على صعيد الساحة الوطنية , أو على صعيد الفصيل الواحد أحيانا ! .

 رابعا – المنظمات السياسية المعارضة : كما تجلى لنا بالصعيد السياسي وتعدد الرؤى والخلفيات الفكرية والسياسية والحزبية للبعض ، بالإضافة الى سعي القوى التي تدعي الدعم وصداقة الشعب السوري وثورتها بتمثيل الثورة بهيكلية سياسية . فشاهدنا تعدد المنظات والتشكيلات السياسية ، والتي فشلت جميعها بتمثيل الشعب والثورة السوريين ، لأسباب عديدة أهمها :

أ – كونها تعمل خارج الساحة السورية وبالتالي خارج التماس مع الثورة والشعب والثوار .

ب – معظمهم كانوا ومازالوا خارج الوطن من سنين وتغيب عنهم معاناة الشعب والثوار.

ج – لم يتم انتخاب الممثلين عن الشعب والثوار وإنما من خلال تكتلات سياسية لمناهل إيديولوجية وسياسية متعددة فشاهدنا التشكيلات التالية :

 1 – هيئة التنسيق

 2 – الهيئة العامة للثورة السورية

3- المجلس الوطني السوري

 4 – الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية

 5 – الهيئة العليا للتفاوض ه- المنصات : [ منصة القاهرة – منصة موسكو – منصة حميميم – منصة دمشق – منصة بيروت -..]

خامسا – ظهور المشاريع ذات الهوية الغير وطنية : مجموع النتائج المذكورة أعلاه أدى الى تكريس مشاريع لا وطنية , وانقسام المجتمع السوري داخل الوطن الى شرائح بهويات غير وطنية ذات بعد إثني [ عرقي ( عربي – كردي – سرياني -..) طائفي ( سني – شيعي – علوي – ..) ] بالإضافة الى البعد السياسي ( مؤيد – معارض – داعشي – نصرة -..) لذلك نشاهد مناطق الإدارة الذاتية ذات بعد عرقي بادراه حزب الاتحاد الديمقراطي ومناطق ذات بعد سياسي ( داعش والنصرة وجيش الإسلام و..) ومناطق مؤيدة للنظام ومناطق الدروز ومناطق أهل حوران و… ومعظمها إن لم نقل جميعها بهويات غير وطنية .

ما المطلوب للمستقبل ..؟ :

===============

لم تصل الثورة إلى اللحظة الراهنة من تأزمها بفعل الظروف الخارجية ، والعوامل الموضوعية فقط ، بل نتيجة جملة من الأسباب الذاتية العديدة أيضا أعطت الحجة ووفرت الفرصة لغيرها من العوامل لتطغى , ونكون أمام مأزق حقيقي تتعقد سبل الخروج منه.

عليه ، لابد من حوار سوري – سوري بين جميع الأطراف والمكونات على قاعدة الالتزام بالثورة وأهدافها ، بالحرية والكرامة ، ووحدة سورية ضمن نطاقها الجغرافي المحدد والمعروف ، بما لايلغي خصوصيات مكوناتها، والإعلاء من شأن الوطنية السورية على ماعداها من إنتماءات، المهددة اليوم بالقوى الغازية والمحتلة، والطائفية والطاغية .

1_ لابد من الإتفاق على أن سورية باتت دولة محتلة والعمل على تحريرها وإستقلالها هدف سام يعلو ماعداه من أهداف ، ضمن رؤية وطنية جامعة , لا تسد الأبواب أمام أي فرص لحل سياسي يفضي لتحقيق أهداف الشعب السوري .

2_ لابد من مراجعة خطاب الثورة والمعارضة تجاه الداخل والعالم ، إنطلاقا من مبادئ الثورة، ورفض أي خطاب طائفي أو مذهبي أو قومي شوفيني، أو عابر للوطنية السورية، فالثورة قامت بعواملها المحلية، وهي لم تكلف نفسها لا بفتح روما ولا استرداد (الأندلس) !.

3_ إعادة هيكلة المعارضة وقوى الثورة من خلال مؤتمر وطني جامع وواسع يمكنه الإستجابة لكل التحديات، وأهمها إستقلالية القرار الوطني، بعد أن تداعت كافة المؤسسات وفقدت إحترام السوريين والعالم لها، بتنفيذها لأجندات ومصالح القوى الإقليمية والدولية .

4_ موقف واضح من كل القوى الخارجية ومشاريعها المشبوهة ، فلافرق بين الميلشيات الطائفية التي إستقدمها النظام من كل حدب وصوب، وأصحاب الفكر الظلامي والرايات السود ، فكلاهما دمر الثورة وأهلها ، وعطل فرص نجاحها.

5_ إعادة الإعتبار للنشاط السلمي المدني، في الداخل والخارج، تزامنا مع إعادة هيكلة القوى العسكرية ودمجها، وإنضوائها تحت عناوين السياسة وقواها، التي يتكفل المؤتمر الوطني، المشار إلى ضرورة عقده ، بصياغة إستراتيجية واضحة وشاملة.

ولكن رغم ذلك كله فالثورة السورية بجذوتها الاصلية وبمبادئها التي انطلقت منها , وبزخمها الجماهيري الوطني , ما زالت قوية ومستمرة حاملة عنفوان الشعب السوري العربي , وكبرياءه واصالته , ولذلك لا يمكن لأحد أو جهة الزعم أبدا أن الثورة انتهت أو اضمحلت تحت ضغوط تلك العوامل , فالثورة متجذرة وضاربة في عمق المجتمع السوري وتحولت نمط حياة ثابتا لكل السوريين تستمد طاقتها وديناميتها وابداعيتها من نزوع السوريين الى الحرية واستعادة حياتهم ودورهم في التاريخ وموقعهم على مسرح التاريخ . ولعل تلك الانحرافات والتشوهات التي احدثتها القوى الدخيلة إنما هي دليل على قوة الثورة وخشية قوى الثورة المضادة والقوى الدولية المعادية من انتصارها , وهي في المحصلة النهائية قابلة للعلاج لأنها ليست عضوية بل مزروعة ومفروضة من الخارج .

الثورة السورية حية وبلغت سن الرشد وهي تستعد الان لتصحيح مسيرتها وترشيد خياراتها , واعادة التكيف مع الواقع الذي فرضه الاحتلال الاجنبي , ومجابهته لإستعادة الاستقلال وتحقيق الاهداف الوطنية كاملة بلا مساومة ولا تراجع ومهادنة .

====== ====== ======

ملاحظة: هذه المادة كتبها الراحل الأستاذ محمد خليفة لمجموعة )المقاومة الثورية لتحرير سورية( وهي بالطبع لم تنشر باسمه في حينها.

المصدر: الأرشيف الشخصي للراحل

تاريخ النشر منتصف آذار 2017

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. قراءة دقيقة ورؤية إستشراقية جميلة لواقع الثورة السورية في ذكراها الرابعة من قبل المناضل والكاتب الوطني العروبي الراحل محمد خليفة، الله يرحمه ويغفر له ويسكنه الفردوس الأعلى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى