لعل القارئ لرواية ليلاف -الثلج الجاف لابتسام تريسي ولاسيما ممن عاصر ولايزال يشهد أحداث الثورة السورية 2011 -….) سيدرك أنها سيرة ذاتية لشخصيات آمنت بأهدافها السامية فناضلت من أجلها وقدمت أرواحها قرابين لمبادئها، والتداخل بين السيرة الذاتية والرواية واضح في نصها منذ البداية لمطابقة الأحداث الواردة فيه للواقع والشخصيات والتاريخ ، والفصل بين هذا التداخل ليس باﻷمر العسير، كون المتخيل الروائي السردي هنا أقرب
للواقع ،وعناصر السيرة واضحة في النص ( اعترافات ويوميات وذكريات) وهذا الشكل في الأدب الروائي اتخذه العديد من الروائيين أسلوبا سرديا لنصوصهم، ولكن ابتسام تريسي تميزت عمن سبقها حين سرد ت روايتها
بشكل ملفات إلكترونية من (2011 ولغاية 2018).
النص يتحدث عن صورة الثورة في الشمال السوري ولاسيما في إدلب وريفها والرقة وكسب وريفي الحسكة وحلب من خلال سيرة شخصيات شابة (ليلاف،تيم ، ديجوار،حسن، عبد السلام ، عمار،حمزة، شام.) شاركت في القتال مع الفصائل المتواجدة على الأرض بكافة أطيافها العقد ية(الإسلامية:
جبهة النصرة -داعش -أحرار الشام) والعرقية (الكردية :حزب ال ب ك ك) بعد أن انتسبت إليها …لتحلل لنا أهدافها وتوجهاتها الحقيقية وتنتقد أعمالها على الأرض ومن داخلها ولتطلق في النهاية أحكاما أخلاقية وسياسية على تلك الأهداف والتوجهات.
ولاتخلو الرواية من تفكيك للعديد من الرؤى السياسية القريبة والبعيدة للأمريكان الذين أنشؤوا عدة قواعد عسكرية على الأرض السورية أغلبها في
الشمال السوري (الأمريكي لايمكن أن يكون بشرا، بل مجموعة أفكار ومفاهيم استعمارية مصاغة داخل جسد تصادف أن نوعه بشري)، أما الأتراك الذين احتلوا بعض قرى الشمال السوري وأمروا عليها السياسيين والقادة الذين دعمتهم ماليا وعسكريا لتنفيذ مصالح لها فنجد أن شعاراتهم بواد وما يفعلونه واقعيا بواد آخر ،
فهم لايتورعون عن عقد صفقات وتقديم رؤوس قادة للنظام (تسليم الضابط المنشق حسين الهرموش) مقابل تسليمهم قادة من الأكراد كانوا يمارسون العمل السياسي والعسكري ضدهم على أرض سوريا.
(أحس تيم بمرارة في حلقه: نعم الأمور تبدو واضحة رغم كل الشعارات التي تحاول التغطية على ما يحدث ، كذبة المهاجرين والأنصار، البلد الصديق الذي احتوى السوريين بقلبه الكبير)، وتكشف الروائية عبرواحد وعشرين ملفا أعدها الإعلامي عبد السلام من خلال مشاهداته وشهادات ممن انتموا إلى الفصائل المسلحة الثورية السورية أن فرنسا أنشأت شبكة تجسس كبيرة على تنظيم الدولة في الرقة(يقودها
شخصان أحدهما نرويجي والثاني أردني، وأنهما ينقلان المعلومات إلى شخص فرنسي يحمل اسما حركيا هو فيكتور).
وتقف الكاتبة استنادا إلى روايات وتداعيات شخصياتها المحورية (ليلاف، تيم و حمزة و عمار ،و ديجوار و حسن وشام) التي دونها الصحفي عبد السلام بملفاته على حقيقة التنظيمات والأحزاب التي غطت فصائلها العسكرية الشمال السوري من حلب إلى الجزيرة السورية مرورا بإدلب وريفها الذي كانت معظم الأحداث تدور على أرضها ، مبينة لنا أن لكل منها هدفه الخاص بعيدا عن أهداف وتوجهات السوريين
فحزب ال ب ك ك غايته إنشاء دولة كردية على حساب السوريين العرب وممارساته اللاإنسانية تجاههم تدل على ذلك وقد أشارت إلى ذلك في حوار بين تيم العربي ومحبوته ليلاف الكردية يقول تيم :(ألستم تحاربون الآن تحت حماية أمريكية ؟ ومن تحاربون؟ أبناء البلد الذي عشتم وتربيتم في كنفهم،حزبك يقتل العرب المدنيين، أحرق قرى كاملة
وقتل أهلها،لاذنب لهم سوى أنهم عرب، هل تنكرين؟). وتقول ليلاف عن حلم والدها صولار القائد الميداني في ال ب ك ك:(الكل يسعى الآن إلى الجنة التي ستصبح يوما دولتنا القوية المستقلة)
ولاتردد الروائية عبر ملفات عبد السلام أن تعلن للجميع وبجرأة جارحة عن اليأس من سقوط النظام(لن يسقط النظام حقيقة لن يدركها الشباب المتحمسون لنيل حريتهم، كما لم يدركها هؤلاء الذين يسيرون وراء أمراء الحرب كالقطيع ، المخدوعون بفكرة الجهادوالواقعون في الخديعة الأكبر محاربة النظام)، وهنا إشارة إلى تنظيم الدولة وجبهة النصرة
فالأول همه إقامة الخلافة الإسلامية على الأراضي التي يسيطر عليها بعد محاربة محرريها(الجيش الحر وغيره) واغتصابها منهم ، أما الثانية فكان همها تحرير سورية من النظام البعثي ، ثم تحول إلى السيطرة على جزء من البلاد وإقامة سلطتهم عليها والتحكم بالمعابر الحدودية مع تركيا.
(كلما اختلف العسكر حول المردود المادي للمعبر يلعلع الرصاص وكأنها الحرب التي كنا ننتظر أن يعلنها القادة على النظام).
في الرواية الجميع مدان ومتسلق ولص وأناني و وقاتل بنظر الروائية ابتدءمن النظام إلى
ال ب ك ك وصولا إلى داعش والجبهة وأحرار الشام وأساليبهم في القتل واحدة(لايمكن القول إن التنظيم ابتدع طرقا في القتل لم يعرفها أحد ، فالنظام سبقه بمسافات طويلة…في الحولة وكرم الزيتون وقرى إدلب….تكاد تكون يد القاتل واحدة ، بل هي كذلك..) وحين تناقش الراوية ما ورد في الملفات من أحداث نلاحظ أحياناسخريتها المريرة من تبريرات قادة الفصائل المسلحة فنراها مثلا تورد رأي القائد في انسحابه من مدينة كسب بعد أن سيطرت عليها كتيبته وحقق نصرا على جيش النظام في تلك المنطقة الاستراتيجية بقوله بأن بقاءهم فيها سيكون انتحارا( ليضيف الشرعي الجالس على يمينه مؤكدا كلامه :لاشك في ذلك الانتحار كفر والكافر في النار)وترى الراوية وعلى لسان عمار إحدى الشخصيات المنتسبة إلى الجبهة بأن ما تقوم به الفصائل من أعمال بالأماكن التي تسيطر
عليهامن إذلال الناس وتفتيشهم على الحواجز والمعابر وسرقة بعض ما يحملون من أشياء ، ورفع السلاح في وجه زملائهم يشبه أعمال عناصر النظام، وهو لايرى أي وجه للجهاد الذي قالوا أنهم أتوا من أجله(الجهاد بالنسبة لي الحرب مع النظام ما عدا ذلك لايندرج تحت أي تسمية سوى اللصوصية والسلطة باسم الدين).
وهكذا نراها تنتقل من ملف إلى آخر موثقة فيه أعمال وممارسات وتخبط الفصائل والأحزاب التي تدعي قتال النظام وكل ذلك بلسان شخصيات الرواية المنتسبة إلى الفصائل والكتائب والأحزاب المتواجدة في الشمال ليتضح أننا أمام شعارات كاذبة غررت بالكثير من منتسبيها وأوقعتهم في فخ حلقاتها المفرغة فعانت الظلم والطفيان من قادتها لذا لم ينج منهم أحد من القتل والاغتيال على أيدي هؤلاء القادة بسبب مواجهتهم بحقيقة أفعالهم ونقدهم اللاذع لتوجهاتهم البعيدة عن أهداف الثورة.
لقد كانت تداعيات الشخصيات الروائية عبر ملفات اﻹعلامي عبد السلام من قلب الواقع شهادة حق وتوثيق لمجريات الأحداث في الشمال، وقد بدت تلك الشخصيات في النص مأزومة ومحبطة ويائسة من النصر على النظام (لأن كل ما هو صلب يتحول إلى أثير) كما تقول الراوية في نهاية النص ، فقد تحولت أهداف ومبادئ الثورة السورية على أيدي الفصائل والأحزاب المقاتلةإلى أثير رغم وجود العديد من الشباب الذين آمنوا بغاياتها النبيلة التي انطلقت من أجلها لتحقيق الحرية والكرامة والعدالة للإنسان السوري فحاولوا العمل للوصول إليها فدفعوا الثمن باهظا حين ضحوا بأعز ما يملكون .
رواية ليلاف -الثلج الجاف هي سيرة من سرق الثورة لأجل سلطة شخصية ومصالح الدول التي دعمتهم، فجاءت هذه الرواية لتصرخ في وجوه من افتروا على ثورة السورين بالأقاويل بأن (الثورة بريئة من اللصوص الذين تسلقوا على أكتافها) .
رواية “ليلاف -الثلج الجاف” للكاتبة السورية “ابتسام تريسي” قراءة وتقييم ادبي وللمضمون الحدثي مبدع وتعقيب موضوعي من قبل الكاتب “إياس اليوسف” إنها سيرة من سرق الثورة لأجل سلطة شخصية ومصالح الدول التي دعمتهم، فجاءت هذه الرواية لتصرخ في وجوه من افتروا على ثورة السورين بالأقاويل بأن (الثورة بريئة من اللصوص الذين تسلقوا على أكتافها) .