
إذا رأيت أحدا يحشي المدافع وقال إنه يريد صيد العصافير فاعلم إنه يكذب ! . وإذا رأيت جيشا يحشد غواصات وصواريخ نووية وحاملات طائرات وادعى أنه يريد التخلص من عصابة ارهابية فاعلم أنه كذاب ومضلل !
هذا حال بوتين , يحشد اسلحة استراتيجية ونووية ويزعم إنه يستعد لشن هجوم على بضع مئات من الثوار في شرق حلب .
أضخم ” أرمادا ” روسية في التاريخ تتجمع شرقي المتوسط قرب السواحل السورية حاليا تضم , سبع سفن , بينها ثلاث غواصات نووية مقاتلة , وكوزنيتسوف التي تحمل خمسين طائرة حربية قاذفة ومقاتلة وهليوكبتر. وتحمل ( صواريخ مجنحة من نوع ( غرانيت) مضادة للسفن وصواريخ ” كلينوك” المضادة للأهداف الجوية , وأنظمة «كاشتان» الصاروخية ، إضافة إلى منظومات دفاعية متكاملة مضادة للغواصات ) .
هدف الروس المعلن الاستعداد لاطلاق هجوم ساحق على الثوار في شرق حلب لابادتهم واستعادة المنطقة المحررة لسلطة حليفه الأسد فما حاجتهم لكل هذه الاسلحة الاستراتيجية .؟ وهل لدى الثوار غواصات وسفنا تستدعي صواريخ غرانيت .. أو يملكون طائرات حربية تتطلب أنظمة كاشتان ..؟ !
وكالة إنترفاكس الروسية للأنباء نقلت عن المارشال ليونيد إيفاشوف قوله ( سيمكننا للمرة الأولى استعمال طائرات بحرية في قتال بري , وسيوكل للمروحيات والطائرات الحربية التي تحملها كوزنيتسوف الإقلاع وتنفيذ مهامها مع أنه لم يسبق أن استعملت الطائرات البحرية لتنفيذ مهام فوق اليابسة). وقالت صحيفة أندبندت البريطانية إن الغواصات الثلاث المزودة بصواريخ كروز ستساهم في القتال وتساند الطيران الحربي الروسي .. ولكن هل ستستعمل صواريخها وغواصاتها ضد ثوار حلب ..؟
صحيفة تايمز البريطانية نقلت عن دوائر استخبارية غربية أن بوتين يجهز لهجوم حاسم اختار له بداية الاسبوع الثاني من شهر ت2 / نوفمبر .. ولكن هل يعقل أن كل هذه القوات ومعها القوات المنتشرة برا وجوا في ثلاث قواعد روسية على الساحل السوري من أجل التخلص من بضع مئات من المقاتلين يستعملون اسلحة خفيفة ومتوسطة على أبعد التقديرات ؟؟!
في الأمر تناقض غير منطقي , وينبغي البحث عن اجابة مقنعة .
العالم كله أبلغ موسكو في الاسابيع الأخيرة أن ( حلب الشرقية مثل برلين الشرقية سابقا خط أحمر) غير مسموح لهم بتجاوزه , واستباحة المدينة والقضاء على الثوار فيها . وبناء عليه فقد راجع الروس حساباتهم واستدعوا وزيري خارجية سورية وايران شريكتيهم في المجزرة الى موسكو , واعادوا تقييم الوضع معهم , ولكن لا يبدو أنهم تراجعوا عن اهدافهم , بيد أنهم استوعبوا أن حلب الشرقية صارت تحديا دوليا لهم فجاء تحركهم الحالي وحشدهم للارمادا البحرية أبعد من مجرد هجوم على الثوار . إنه استعراض عضلات روسي على منصة الشرق الاوسط التي تجتذب أنظار العالم ليراه الجميع . إنه مناورة حربية بالذخائر الحية ورسالة استفزاز وتحد موجهة للناتو والغرب , وللولايات المتحدة بشكل خاص , بدليل أن الكرملين اختار موعد الانتخابات الرئاسية ( 8 نوفمبر ) موعدا للهجوم على حلب , واقتراف مجزرة جديدة أكبر من كل ما اقترفوه حتى الآن , بعد اسبوعين من تخفيف القتال لاغراض الدعاية .. لا أكثر .
والملاحظ أن الروس أقحموا الأميركيين في اتهاماتهم للثوار , وحملوا واشنطن المسؤولية عن استمرار الوضع , أي عدم استسلام الثوار الذي اشترطه الروس منذ سبتمبر الماضي لوقف هجومهم على حلب . وزير خارجيتهم لافروف صعد خطابه ضد الأميركيين وقال إنهم رفضوا تنفيذ اتفاقهم السابق لفصل المعارضة المتطرفة عن المعتدلة, وبات من حقهم ( الروس ) وضع جميع المسلحين في سلة واحدة , واعتبارهم ارهابيين , كما استخدم لافروف عبارة ( تطهير حلب ) كهدف لحملتهم المتوقعة وجرى تجهيزها طوال الاسبوعين الأخيرين بحجة أنها ( هدنة ) يقدمونها كرمى لعيون الغربيين وعربون رغبتهم في “السلام” الذي يسعون لاحلاله في سورية !
لغة لافروف الدبلوماسية لم تعد تتميز عن لغة شويغو وزير الدفاع لأنهما يقرآن من نوتة بوتينية موحدة . وقد وقت بوتين رسالته الهجومية الاستعراضية عبر حلب الى الاميركيين مع انتخاباتهم الرئاسية ليقول لهم دون تمييز بين الادارتين الراحلة والقادمة : إننا ماضون في المواجهة الى أقصى احتمالاتها إذا حاولتم الاعتراض على سياستنا في سورية .
هذا الفصل من مسلسل التحديات الروسية بدأ بالتحديد بعد الاجتماع الاخير لحلف الناتو على مستوى وزراء الدفاع والذي اصدر خطابا تصعيديا , وأرسل رسالة تحذير لروسيا, ويتزامن مع بدء الحلف نشر قوات عسكرية في دول البلطيق الثلاث وفي بولونيا اعتبارا من الاول من نوفمبر لردع الاطماع الروسية المكشوفة .
من هذه الزاوية تدخل المحنة السورية المستمرة منذ ست سنوات ( أو بالأحرى منذ خمسين سنة ) في صراع الشرق والغرب , وصراع روسيا واميركا , وهكذا تذبح أحلام الشعب السوري في حياة ديمقراطية تتيح له أن يحكم نفسه بنفسه ويتخلص من هيمنة ايران وروسيا والاسد على مقدراته وبلاده على مذبح الصراعات الدولية المتصاعدة .
هذه الحقيقة تؤشر الى عودة العالم الى (حرب باردة) بعد ربع قرن من انتهاء الحرب السابقة التي لم ترهق طرفيها فقط , بل ارهقت العالم كله , ولم يتعافى حتى الان من آثارها .
بوتين شخصية متغطرسة ذات ميول اجرامية يقود بلاده لاستعادة أمجادها الزائفة , ومستعد لاشعال حرب باردة وساخنة في سبيل أوهامه , وليس من باب الخيال السينمائي أن العالم صار يناقش احتمالات حرب عالمية ثالثة , بما في ذلك الروس أنفسهم نتيجة قربهم من بوتين ومعرفتهم بأهداف سياسته المتهورة . مركز ليفادا للأبحاث في روسيا نشرمؤخرا نتائج استطلاع للرأي العام بينت أن 48% من الروس يخشون أن يؤدي التوتر المتصاعد في علاقات روسيا والغرب إلى اندلاع حرب عالمية ثالثة .
ويمكنني أن أضيف اسمي الى النسبة السابقة مع أنني لست روسيا , بل سوري من حلب التي يتوقع أن تكون مثل سراييفو التي اشتعلت منها أول حرب عالمية قبل مائة سنة !
===============================================
هذا المقال منشور في مجلة الشراع اللبنانية , العدد 348 الصادر في 4 / 11 / 2016