حرب السودان… كيف نفهم اغتيال جلحة؟

مدى الفاتح

أعلنت مليشيا الجنجويد المتمرّدة في السودان، قبل أيام، مقتل قائدها الميداني المعروف باسم “جلحة”، وهو الذي لم يظهر في السابق باسمه الحقيقي، وكان معروفاً بوصفه أبرز وجوه المليشيا التي كانت تتوعّد أهالي مناطق وسط السودان وشماله بمزيد من الحرب والأعمال الانتقامية. مُنح جلحة، حال غيره من قيادات المليشيا، رتبةً عسكريةً رفيعةً مجّانيةً، فصار يُنادَى بالجنرال، ولأنه كان يُحبّ الظهور الإعلامي، لعب أيضاً دورَ الناشط الذي يحاول المساهمة في رفع الروح المعنوية لمقاتليه وإشعارهم بأن الانتصار قريب، وأن لمعركتهم هدف.

ظهرت أهمية جلحة في النعي الكثيف الذي ترافق مع خبر موته، إذ كثرت منشورات المنسوبين إلى المليشيا، الذين كانوا يرون فيه زعيماً وقائداً ذا مستقبل سياسي وعسكري. المفاجأة في موضوع جلحة هي أن الأخبار ما لبثت أن أكّدت أن موته لم يتم خلال إحدى المعارك، وإنّما بواسطة طائرة مُسيَّرة، وأن تلك الطائرة لا تتبع للجيش الذي يحاربه، وإنّما تتبع لـ”الجنجويد”، ما جعل سؤالاً لا مفرّ منه يقفز إلى الأذهان: لماذا تلجأ المليشيا إلى تصفية قياداتها؟

يمكن هنا العودة إلى إشارة كاتب هذه السطور في مقاله “تفكك المليشيا في السودان مسألة وقت” (“العربي الجديد”، 10/9/2024)، إلى أن أسلوب القتال الذي كانت تتبعه المليشيا، ويسمح بإعطاء مساحات من الحرّية لقادة الفصائل الميدانية، سوف يرتدّ عليها حين تتوسّع مكانة بعض العسكريين وتظهر على السطح شخصيات مستقلّة ذات أثر، وقادرة على خطف الأضواء من أبناء أسرة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، الذين يرون أنهم الأحقّ بالمكانة والظهور. هكذا لا يكون اغتيال جلحة القائد، الذي لم تعترف المليشيا بتصفيته، سوى نتيجة لهذه التناقضات الداخلية في بنية المجموعة المتمرّدة، التي تجمع في خطابها بين الحقد الطبقي الاجتماعي والعنصرية.

خطاب المليشيا، الذي لا يُخفي عنصريته ورغبته في الانتقام من سكّان الشريط النيلي، الذين استولوا (وفق رؤية الخطاب) على موارد السودان، واحتكروا فيه السلطة والثروة، كان فيه أيضاً بذرة فنائها، فالعنصرية لا حدود لها، والحرب التي عرّفها بعضهم في البداية بأنها حرب لـ”الغرّابة” (أهل غرب السودان) ضدّ “الجلابة” (أهل الوسط والشمال)، سرعان ما أخذت مناحي أكثر فوضويةً وعنصريةً.

المقرّبون من حميدتي لا يُضحَّى بهم بشكل سهل في ميادين القتال، ولا يلعبون دور عسكر المشاة، الذين يُرسَلون لاكتشاف المكان أو لافتداء القيادات، والتحوّل درعاً بشرياً

ما أكّدته شهور الصراع أن هذه الحرب ليست حرب أهل الغرب. ذلك كان يفرّغ الدعاية بشأن الأقاليم المهمّشة، التي تخوض حرباً من أجل الحصول على امتيازات، من مضمونها، فلم تنجُ كثيرٌ من القرى والمدن في إقليم دارفور من أعمال القتل والسلب والمجازر. بهذا لم يكن هناك مفرّ من اعتبار أن الحرب في أصلها هي حرب قبيلة واحدة، كانت ترى أنها قادرة على بسط سيطرتها على إقليم دارفور، وعلى عموم مناطق السودان، أو أنها، بشكل أكثر تحديداً، حرب فرع واحد من فروع تلك القبيلة، وهم “الماهرية”، الذين لم يكن لهم وجود يذكر في التاريخ أو الجغرافيا إلا بعد إمساك حميدتي بمفاصل الدولة، ما جعله يملك المال الكافي لخلق تغيير وقلب المعادلات.

كان الماهرية يملكون المال والعلاقات الدولية والسلاح الكافي لإنجاح عملية الانقلاب على الدولة، لكن معضلةً كانت تواجههم، وهي أن أعدادهم قليلة مقارنةً بمنافسيهم المحلّيين من فروع قبيلة الرزيقات الكبيرة، ومن غيرها من القبائل. هذا كان يحتمّ الاستعانة بمقاتلين من خارج الدائرة الأسرية الضيّقة، وذلك لتقليل الكلفة البشرية، والاستفادة من أولئك المتحمّسين، الذين يمكن جذبهم بخطابات التهميش، أو من خلال إسالة لعابهم بالحديث عمّا يمكن الحصول عليه من منهوبات من خلال عمليات الغزو. وكانت للاستعانة بمقاتلين من خارج العشيرة فائدة أخرى، وهي أنه كان بالإمكان توظيفها للردّ على من يقول إن معركة حميدتي عنصرية بالأساس، وأن مشروعه لا يتخطّى الحدود القَبَلية، فبهذا يمكن القول إن المليشيا “قومية”، وأنها تحوي أفراداً من خلفيات إثنية مختلفة.

ربّما نجحت المليشيا في خداع بعضهم بهذه الطريقة، لكنّ المتابع للحرب لن تخفى عليه الطبيعة الطبقية، التي كان يعمل بها في داخل إطار القوات المتمرّدة، فالمقرّبون من حميدتي لا يُضحَّى بهم بشكل سهل في ميادين القتال، ولا يلعبون دور عسكر المشاة، الذين يُرسَلون لاكتشاف المكان أو لافتداء القيادات، والتحوّل درعاً بشرياً.

راح كثيرون من أبناء المليشيا ضحية شكوكٍ بتعاونهم مع الجيش

كانت المليشيا منذ البداية شديدة الحساسية حينما يتعلّق الأمر بالمعلومات الاستخباراتية، لذلك راح كثيرون من أبنائها ضحية شكوكٍ بتعاونهم مع الجيش، أو تقديمهم معلومات تخصّ القوات المقاتلة، قد تساهم في استهدافها، خاصّة بسلاح الطيران. حتى في ظلّ هذا الشكّ المرعب، الذي كان يسيطر على الجميع، فإن الأنظار لم تكن تتوجّه لأبناء الماهرية، أسرة حميدتي، التي تعتبر أن هذه الحرب حربها بالدرجة الأولى، وإنّما كانت تتوجّه إلى أبناء القبائل والمناطق الأخرى، الذين يضطرون على الدوام لإثبات ولائهم وتقديم مزيد من أدلة الخنوع والطاعة من أجل تعزيز الثقة بهم.

زاد هذا الشكّ عقب انحياز أبوعاقلة كيكل، وهو قائد عسكري منتمٍ لوسط السودان، إلى الجيش بعد أشهر من قتاله إلى جانب المليشيا. كيكل لم يكتفِ بمجرّد الانحياز، بل استفاد من تغلغله السابق وسط المتمرّدين لكشف خططهم وأساليبهم القتالية، ما سهّل عملية تحرير مدينة ود مدني، عاصمة ولاية الجزيرة، وإحدى أكثر معاقل “الجنجويد” أهمية.

اغتيال جلحة بواسطة رفاقه، على الرغم من الخدمات الكثيرة، العسكرية والإعلامية، التي قدّمها، وجاءت في وقت تبدأ فيه القوات المتمرّدة عمليات انسحاب مكثّفة من عدة مناطق، يمكن قراءته في هذا الاتجاه، فالرجل المنتمي لقبيلة المسيرية ليس محلّ ثقة، أمّا محاولاته المقلقة لخطف الأضواء من أبناء الماهرية فكانت من أكثر مصادر الخطر على حياته أهميةً.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى