ها هي الحرب في السودان، كلما طال أمدها توغل المقاتلون في التوحش، فتُزهق الأرواح وتغرق الجثث في الدماء. ها هو الصراع عندما يتفلّت من الأعراف والأخلاق متجرّدا من العقلانية، مصابا بالعمى، يسقط أطرافه في جب الذاتية ومصالحها الخاصة غير مكترثةٍ بمن حولها متجاهلة ظرفيها الزماني والمكاني. كذلك تفقد الأحداث تسلسلها المنطقي. هكذا هي الحرب كلما تصبح قوى الفوضى هي السائدة تفرض منطق العشوائية على الجميع. في مثل هذا الجحيم، يُصاب الدماغ بالسكتة، فيعجز عن الفهم والاستيعاب، عن الشرح والتبرير لأحداث العنف ونتائجه الكارثية. وحدهم المهرّجون، سماسرة الدم، اللصوص والانتهازيون يرفعون أصواتهم يحاولون عبثاً نسج خيوط منطقية (أوهى من بيت العنكبوت) لتبرير الحرب القذرة. إذا كان ثمّة خيط واحد عابر داخل هذه الفوضى المسقية بالدم فهو استماتة الإسلاميين على الاحتفاظ بامتيازات السلطة والثروة. لكن إلقاء كل المسؤولية على الإسلاميين وحدهم هو نصف الحقيقة فـ”قوى الثورة” لها نصيبها من الحقيقة بتفريطها في الإمساك بزمام اللحظة الثورية.
إلى هذا الدرك المجفف من الحياء والنخوة سقطنا، حيث نمارس التقتيل المشرّب بالتشفي فلا نكتفي بإطلاق الرصاص، بل نفرغ خزانة السلاح في الجثث! ألهذا الدرك الأسفل من التوحش هبطنا، فلا نكتفي بالوخز والطعن حتى الموت، بل لنذبّح المجرّدين من السلاح ذبح الشياه! ألهذا الدرك الغارق في ظلمة الجهل بالدين، العرف والفحولة. نرفع أصواتنا بالتكبير، بينما ننكّل بضحايا لا نعرفهم، لمجرّد تصنيفهم قسراً أعداءً، بغية إشباع نهم الثأر المؤجج فينا! لا بأس، فنحن لا نعيد فقط إنتاج التاريخ، بل نعيد قطع الرؤوس وبقر البطون وإطعام دواب النهر الجثث. هذا فصل أشد قتامة من كل فصول التقتيل، الإبادة والتطهير العرقي السوداء في تاريخنا البعيد والمعاصر. ربما هو اقتباس عشوائي لفصل الدفتردار التركي. إذ يتشابه المشهدان في التوحش. … يتباين النص والممثلون فقط.
*****
ليست الجزيرة أرض المحنة كما تقول قصيدة مغنّاة، بل هي مزرعة السودان والحصاد ومنصة التصدير. هي بوتقة الشعب ومصهر أعراقه وثقافته. كذلك مدني ليست فقط حاضرة الجزيرة، بل هي خاصرة السودان، فكل ما يصيبهما تتداعى له كل جنبات البلد وجسم الشعب، فمن الصعب تطويق شرور انفلات هذا العنف البربري داخل هذه الرقعة الجغرافية أو على الكتلة البشرية داخلها. إنه السودان، أيها القتلة الجهلة المتوحشون. الكنابي؛ معسكرات العمال الزراعيين، مقر سكن ماكينات الإنتاج البشرية في أكبر مشروع سوداني. طوال سنين عددا، ظلت على عائدات جهودهم ترسم وزارة المالية موازنة الدولة. هذا الانفلات الشرس يحوّل الفرح إلى ترح والنصر إلى هزيمة، لأنه يحرق تجربة حياتية تنبض بالبذل، العطاء والتعايش العائلي الحميم. دائرة العنف ستنداح كما تتفجر بؤر التوتر الساكنة بعدما رفعت عنها أحداث الجزيرة غشاوة الصبر، فالعنف لا يولّد إلا العنف. من حق أجيال الكنابي الدفاع عن وجودهم وحقوقهم التاريخية.
ما يحدث حاليا يؤجج نار الكراهية و يغذّي ساقية الفرز العنصري البغيض
… في المقابل، كان الغرب العريض إحدى وجهتي الجذب للباحثين عن فرص الاستثمار من أبناء الشريط النيلي الضيق الشحيح، فأفلحت ثلة من أبنائه العصاميين في بناء قواعد تجارية هناك، أمست إمبراطوريات بمعايير السوق. نحن لا نقرأ التاريخ، بل نجهله أيضاً. لذلك نعيد إنتاج أخطائنا. الجنجويد صنم صنعه السودانيون بأيديهم. الساسة والجنرالات المشاركون في صناعته تغنوا به، ثم روّجوا أفعاله ضد الشعب أمجاداً، حتى كادوا يعبدونه، فلمّا نازعهم السلطة كفروا به، حتى عمدوا إلى تهشيمه، وإن بكلفة عالية يسدّدها الشعب. … هكذا يتساوى السفاحون القتلة في تحميل المواطنين الأبرياء فوق طاقاتهم، بل خصما من حاضرهم ومستقبلهم. الآن خرج “الجنجويد” من مدني، عاد الجند إلى المدينة، لكنها لم تسترد السلم والأمان. تلك غاية لا أحد يدرك كيفية إنجازها وتوقيتها، فجنرالات الجيش استعانوا بمليشيات ضد مليشيا. يفتح ذلك الأفق حتماً أمام إعادة إنتاج الأزمة في نسخة مغايرة. لا فرق ما إذا كانت معارك المليشيا المستولدة تدار بنبرة قبلية أو لسان أيديولوجي، لكنها واقعة لا محالة.
***
القناعة أن لا سبيل لتحقيق إنجاز على درب التقدم الوطني عن طريق الجنجويد لن تبدلها نتائج المعارك في الجزيرة وغيرها، فطبيعة تنظيمات المليشيا لا تتغيّر وفق سحناتها وألسنتها. كلها موبوءة بفيروس العنف واللهفة للدم وإقصاء الآخر. لا فرق بين الخمير الحمر، طالبان، حزب الله، الحرس الثوري، الحوثيين، بلاك ووتر، فاغنر، حتى اذا استهدفت هدم دولة، فهي عصابات قوامها قتلة محترفون مقابل المال في مهنة من لا مهنة له، فالرهان على تدوير طاحونة الدم أقرب إلى العقل منه إلى تجفيف بؤر التوتر على خريطة الوطن. على النقيض، ما يحدث حاليا يؤجج نار الكراهية و يغذّي ساقية الفرز العنصري البغيض. تماما كما قال الكاتب الأميركي “في الحرب نستخدم أفضل ما لدينا لنمارس أكثر الأفعال بشاعة”.
***
يثير الكلام عن محاكمة مرتكبي الجرائم، بما في ذلك القتل خارج القانون، السخرية والرثاء والحزن، فكل ما يحدث على أرض السودان يحدُث خارج القانون، فالبلد كله خارج الدستور، بما في ذلك السلطة القابضة على ما تبقى من هيكل الدولة!. ما يحدُث على أرض الجزيرة يحدُث خارج الإسلام الحنيف (من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض كأنما قتل الناس جميعا) من غير الممكن رسم مسار التحولات الناجمة داخل الفوضى، لأن سلوكيات الناس وردود أفعالهم أزمان الحرب لا تخضع لمعادلات فيزياء اجتماعية. لذلك يخوض في الوهم كل من يتصوّر بلوغ الانتصار الحاسم. هم ونحن كما قال الفقيه الحنفي الفارسي جلال الدين الرومي “يدقون طبول الحرب وندق طبول الحب”.
المصدر: العربي الجديد