بعد مرور نحو شهر على سحل نظام الأسد السابق، بدأت تطفو على سطح الأحداث مفاهيم ومصطلحات كانت تُعتبر من المحرمات في الخطاب السياسي السوري، أبرزها مفهوم “الأقليات”، هذا المفهوم الذي كان يُستخدم في السابق كأداة لتبرير استمرار النظام القمعي، أصبح اليوم محل نقاش واسع بين السوريين داخل البلاد وخارجها، حيث تتزايد الأصوات التي ترفض هذا المفهوم مؤكدة على أن سوريا الجديدة يجب أن تُبنى على أسس المواطنة المتساوية، وليس على التقسيمات الطائفية أو القومية.
مفهوم “الأقليات” ليس جديداً على الساحة السورية، فقد استُخدم تاريخياً كأداة لتبرير سياسات النظام السابق، الذي ادعى أنه يحمي الأقليات من الأكثرية السنية، لكن هذا المفهوم، الذي يُفترض أنه يهدف إلى حماية الفئات الأقل عدداً، تحول في الواقع إلى أداة لتقسيم المجتمع السوري وإضعافه.
وبعد سقوط نظام الأسد برزت تحديات عديدة أهمها هو حماية الأقليات، إذ تنادت لها عدة دول غربية، فنحن نعلم أن سوريا مكوّنة من نسيج اجتماعي متعدد الطوائف والقوميات وعلى سبيل الذكر هناك الطائفة المسيحية التي تضم عدة كنائس والطائفة الدرزية والطائفة العلوية، ومن القوميات هناك الكرد والشركس والأرناؤط وقوميات أخرى، فكل هذه الطوائف والقوميات كانت متعايشة مع الأكثرية السنية، والأكثرية السنية كانت منذ عدة قرون هي حامية الأقليات.
وانتقل مفهوم “الأقليات” إلى مفهوم المواطنة بعد انصهار الأقليات بالمجتمع، وأصبحت لها مشاركة في جميع مفاصل الدولة بالحكم، ولم يعد هناك أي تمييز من حيث الدين والعرق..
ونحن نعلم أن بعض هذه الأقليات لجأت إلى سوريا منذ قرون نتيجة للحروب في الدول التي كانوا يعيشون بها، وعلى سبيل ذلك، الأرمن الذين لجأوا منذ ما يقارب القرن وما يسمى بالسوقيات في أثناء الحرب العالمية الأولى، وتعايشت هذه الأقليات مع جميع المكونات بل انصهرت بالمجتمع نتيجة للتزاوج والمصاهرة وانتقل مفهوم “الأقليات” إلى مفهوم المواطنة بعد انصهار الأقليات بالمجتمع، وأصبحت لها مشاركة في جميع مفاصل الدولة بالحكم، ولم يعد هناك أي تمييز من حيث الدين والعرق بل أصبح مفهوم المواطنة هو السائد بالإضافة إلى الكفاءة.
ولو عدنا قليلاً إلى الوراء لقرن من الزمن لوجدنا مفهوم المواطنة كان هو السائد في تلك الحقبة ولم تظهر أية ظاهرة تدل على التقوقع أو التكتل لصبغة طائفية أو دينية بل كان شعار المواطنة هو السائد، ولنا تجربة في ذلك عندما تسلّم الرئاسة بعد الاستقلال فارس الخوري وهو من الطائفة المسيحية، ولكنه كان يؤمن بالمواطنة، وقاد الدولة فترة من الزمن ومثّلها في جميع المحافل الدولية وهذا دليل واضح على نزعة الأقليات إلى الانصهار في مفهوم المواطنة.
ولكن بعد تولّي “البعث” الحكم في ستينيات القرن الماضي، بدأت تظهر نزعة الأقليات والطائفية، خاصة بعد تسلم حافظ الأسد الحكم الذي بدأ بعلونة الجيش وتسليم أهم مفاصل الدولة إلى العلويين مع تقريب بعض الشخصيات من الأقليات من المسيحية والكردية، كي يوهم المجتمع بأنه حامي الأقليات، وإشراكهم في بعض مفاصل الدولة غير الحساسة، وبالتالي تم توريث هذه العقلية إلى ابنه بشار الأسد الذي كثيراً ما تغنّى بعبارة أنه هو حامي الأقليات.
برأيي، يعتبر مفهوم الأقليات في التاريخ المعاصر مدمّر للدولة وممزق لها كما هو الحال في لبنان الممزق إلى كانتونات طائفية يصعب على الدولة إدارتها، فمفهوم المواطنة هو الذي يعتبر الأساس في بناء الدول دون الخوض في المذهب أو العرق أو الدين.
واليوم، ومع بدء تشكيل ملامح سوريا الجديدة، يرفض العديد من السوريين هذا المفهوم، معتبرين أنه ينقل المجتمع من فكرة الدولة الموحدة إلى فكرة المجموعات المغلقة، سواء كانت دينية أو طائفية أو قومية.
لا يمكن أن نتجاهل انتفاضة السويداء جنوبي سوريا، والتي كسرت شوكة النظام وأسقطت الورقة التي كان يلوح بها، مدعياً أنه حامي الأقليات، فبعد أن همّش أهل السويداء وضيّق عليهم الخناق، وفرض عليهم القبضة الأمنية لإسكاتهم، أصبح أهالي السويداء (الدروز) اليوم من أبرز المناهضين والرافضين لمفهوم “الأقليات”، ما يعكس رفضهم للتمييز والظلم الذي تعرضوا له.
وأكثر ما لفتني من خلال جولة في منصات التواصل الاجتماعي والشبكة العنكبوتية، هو كلام عدد من الأكاديميين الذين يفترض أنهم يعتبرون أنفسهم من “الأقليات”، لكن شدّني مدى حرصهم على رفض ونبذ هذا المفهوم، وهنا أشير إلى ما قاله الأكاديمي يحيى العريضي، وهو من الطائفة الدرزية، والذي يرى أن تصوير “الأقليات” بأنها في خطر داهم لا يخدم الصالح السوري العام، ويؤكد أن ثنائية “أكثرية” و”أقلية” لم تكن بناءة في أي مرحلة من التاريخ أو الجغرافيا، بل إن كل السوريين بغض النظر عن انتماءاتهم بحاجة إلى الطمأنينة والكرامة.
ومن الواضح أن العريضي ينتقد أيضاً فكرة “حماية الأقليات”، معتبراً أنها تعني التغافل عمّا عانته الأكثرية من استبداد نظام الأسد، الذي كان يسيطر عليه أقلية من الدكتاتورية والاستبداد.
ولفتني كذلك ما عبّر عنه الأكاديمي سمير سعيفان (مسيحي)، والذي يذهب إلى أبعد من ذلك، إذ يرفض تماماً مفهوم “الأقليات” ومفهوم “حماية الأقليات”، معتبراً أن هذه المفاهيم تعزز التقسيمات الطائفية والقومية، وبدلاً من ذلك، دعا إلى بناء دولة تقوم على الحريات العامة في التنظيم والتعبير والاعتقاد، والتي تحمي جميع السوريين من دون تمييز.
دعونا أيضا نشير إلى كلام الفنان السوري فارس الحلو، المناهض لنظام الأسد السابق، الذي يدعو إلى إنشاء عقد اجتماعي جديد يقوم على المواطنة المتساوية، حيث يكون جميع السوريين متساوين في الحقوق والواجبات أمام القانون والدستور.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل يمكن لسوريا الجديدة أن تتخلص من مفهوم “الأقليات” وتتبنى خطاباً جديداً يقوم على المواطنة المتساوية؟
وبرأيي فإن هذا الخطاب من أكاديميين ومثقفين والذي يركز على المواطنة المتساوية، يجد صدى واسعاً بين السوريين الذين يرون في التقسيمات الطائفية تهديداً لوحدة البلاد واستقرارها.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل يمكن لسوريا الجديدة أن تتخلص من مفهوم “الأقليات” وتتبنى خطاباً جديداً يقوم على المواطنة المتساوية؟ الإجابة على هذا السؤال ليست بسيطة، خاصة في ظل وجود قوى إقليمية ودولية تسعى إلى استغلال التقسيمات الطائفية والقومية لتحقيق مصالحها، لكنّ العديد من السوريين يرون أن التخلص من هذا المفهوم هو الخطوة الأولى نحو بناء دولة ديمقراطية حقيقية.
الخطاب الذي يركز على أن “الشعب السوري واحد” و”التنوع السوري غنى وقوة” يبدو أكثر جاذبية في هذه المرحلة، وهذا الخطاب لا يعطي مناعة ضد التدخلات الخارجية فحسب، بل يعزز أيضاً الوحدة الوطنية ويجعل من الصعب على القوى الداخلية والخارجية استغلال التقسيمات الطائفية.
في النهاية، يبدو أن مستقبل سوريا الجديدة يعتمد إلى حد كبير على قدرة السوريين على بناء عقد اجتماعي جديد يقوم على المواطنة المتساوية، وليس على التقسيمات الطائفية أو القومية، وهذا العقد الاجتماعي يجب أن يضمن حقوق جميع السوريين، بغض النظر عن انتماءاتهم، وأن يقطع الطريق أمام أي محاولات لاستغلال التقسيمات الداخلية.
وكما قال الفنان فارس الحلو، يجب أن ننشئ عقداً اجتماعياً جديداً يجعلنا شعباً حقاً، متساوياً في الحقوق والواجبات، حينها فقط يمكننا التخلّص من استخدام مصطلحات “الأقليات” و”المكونات”، والتي كانت وما تزال تهدّد استقرار سوريا ووحدتها.
المصدر: تلفزيون سوريا