(مساهمة الدكتور حازم نهار في مبادرة “معاً في مواجهة خطاب الكراهية” التي أطلقها اللقاء الوطني الديمقراطي في سورية.)
لا يُولد المرء حاملًا معه مشاعر الكراهية، فهو يكتسبها من البيئة والمحيط؛ فالكراهية صناعة لها أرباب يحملونها على عاتقهم، يصنِّعونها ويعتنون بها وينشرونها، لتدخل عقول وأرواح البشر تدريجًا، ولتصبح، بمرور الزمن، وفي المآل، سلاحًا تدميريًا للذات والآخر.
لا يوجد تعريف نهائي أو معتمد لخطاب الكراهية، لكن يمكن القول إنه يشمل أنماطًا متنوعة من التعبير العام التي تنشر أو تعزِّز أو تبرِّر الكراهية أو التمييز أو العداوة ضد فرد أو مجموعة، على أساس الأصل الديني أو العرقي أو الجنسية أو اللون أو النسب أو الجنس أو المهنة، بهدف تحقيق مكاسب سياسية أو اقتصادية أو معنوية. ويمكن أن تكون أي فئة اجتماعية عُرضة لخطاب الكراهية، على الرغم من أن الفئات الأقل حظًا في المجتمع هي الأكثر عرضة له، مثل الأقليات القومية والدينية، كما تواجه النساء وبعض المهن أنواعًا أخرى من خطاب الكراهية.
خطاب الكراهية: صناعة نخبوية
يميل البشر، عمومًا، نحو التجمع والتضامن والتكافل والتعايش والتشارك والتفاعل الإنساني، لكنهم يتعرضون، في سياق الحياة، إلى ألوان عديدة من الخطاب المؤثِّر الذي تطلقه الجماعات النافذة التي تمسك بمقاليد السلطة في المجتمع بمستوياتها المختلفة، سياسيًا ودينيًا وثقافيًا واقتصاديًا؛ السلطة السياسية وأجهزتها الملحقة، قيادات الأحزاب الحاكمة والمعارضة، التشكيلات المسلحة، رجال الدين، المثقفون، الإعلاميون.
يميل أولئك جميعهم إلى تحشيد وتعبئة البشر خلفهم لتحقيق مصالحهم السياسية أو الاقتصادية أو المعنوية، وفي سياق ذلك، قد يلجأ بعضهم إلى استثمار التنوع القومي والديني في المجتمع بصورة سلبية وعدائية، فينتج نمطًا كارثيًا من الخطاب والسلوك، جوهره الكراهية، ليدخل جزء من الجمهور حينها، بوعي أو من دونه، في معركة وهمية ليست معركته، ما يزيد، بالتالي، من بؤسه وفقره وشقائه.
هذه النخب، عمومًا، تصنع الرأي العام والميل العام في كل لحظة، وعندما تفتقد إلى الأرضية الإنسانية أو الوطنية، فإنها تنتج خطاب الكراهية، قصدًا، وفي بعض الأحيان جهلًا. فالدكتاتوريات والأنظمة الفاسدة والنخب السياسية والثقافية والدينية التقليدية والإعلام الرديء، كلهم يساهمون في بناء منظومة الكراهية والعداء الاجتماعي على أساس قومي وعرقي وطائفي ومذهبي أو قبلي أو مناطقي، وهي التي تجد لها سوقًا قابلة في كثير من بلدان المنطقة المثقلة بالأزمات المركبة.
خطاب الكراهية وحرية التعبير
يُعدّ موضوع التمييز بين خطاب الكراهية وحرية التعبير، أحد الموضوعات المثيرة للجدل فعلًا؛ فالسؤال الحاضر دومًا في هذا الشأن هو: متى تنتهي حدود حرية التعبير المصونة وتصبح شكلًا من خطاب الكراهية؟ يجب التمييز، مثلًا، بين التعبير عن الرأي والتحريض ضد أتباع دين أو مذهب ما؛ إذ إن نقد الخطاب الديني السائد، أو نقد بعض رجال الدين، يفترض ألا يُوضع، بالضرورة، في خانة التحريض على الكراهية ضد أتباع هذا الدين أو المذهب، لكن يبقى الحاسم هو طريقة النقد وألفاظه ومفرداته وأهدافه، ما يعني فعليًا صعوبة التمييز، بصورة مباشرة وسريعة، بين الخطاب النقدي وخطاب الكراهية، في بعض المحطات أو الحالات، وهذا يعطي أهمية كبيرة لنقاش المسألة هذه تفصيلًا.
ثمة نصوص عديدة تصون حرية التعبير في الإعلانات والقوانين والمواثيق الدولية، خصوصًا ما جاء في المادة التاسعة عشر من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وأيضًا في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، لكن ظلت الثغرة الأكبر، حتى اللحظة، هي غياب القوانين الرادعة للتعامل مع خطاب الكراهية؛ إذ تخشى الدول الديمقراطية مثلًا من أن التوسع في تعريف “خطاب الكراهية”، وربطه بعقوبات قانونية صارمة، قد يمثل قيدًا على حرية التعبير، أو يمكن أن تسيء استخدامه الأنظمة الديكتاتورية أو العنصرية، مثلًا، فتتحول المطالبة برفع ظلم النخب أو الطبقات أو الأعراق الحاكمة إلى “خطاب كراهية” في عيون قضاء الأنظمة الديكتاتورية والعنصرية. مع ذلك، تجرأ المجتمع الدولي ووضع بعض القيود القانونية على حرية التعبير، مثل الخطاب الذي يؤيِّد، أو يدعو إلى “الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية”، و”يشكل تحريضًا على التمييز أو العداوة أو العنف”.
بيئة وخطر خطاب الكراهية
تزدهر مشاعر الكراهية، ويتعاظم تأثير خطاب الكراهية، في البيئات والمجتمعات غير المستقرة أو التي تعاني انقسامات إثنية وطائفية ومذهبية، وتغيب فيها ثقافة التنوع وقبول الآخر؛ أي تلك التي تحكمها أنظمة استبدادية، وتغيب فيها الحريات والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني والنظم القانونية الحديثة. فالكراهية تنمو بفاعلية في بيئة الاستبداد والرأي الواحد والتهميش الاجتماعي، كما هو الحال في بلدان المنطقة العربية. وتستخدم النخب المسيطرة، عمومًا، في البيئات والمجتمعات هذه، خطاب الكراهية في الداخل وتجاه الخارج في آن معًا، بما يعزِّز نفوذها وهيمنتها واستمرار تدفق مصالحها أو بما يساهم في تبرير عجزها والتغطية على فشلها.
تزداد حدّة تأثير خطاب الكراهية عندما يأتي في سياق الأزمات والفقر الاقتصادي والأوضاع المتوترة والاحتقان المجتمعي على الصعيد السياسي أو الاجتماعي، إذ ترتفع درجة حساسية البشر في الأحوال هذه، وتصبح إساءة الفهم والتأويل واردة جدًا، وكثيرًا ما يأتي هذا الخطاب على لسان متحدث فاعل ومؤثِّر، يُنشر حديثه على نطاق واسع، بصورة مقصودة غالبًا، وفي لحظة يكون فيها الجمهور على صفيح ساخن، يتقبَّل ما يُعرض عليه ويتجاوب معه سريعًا.
يُشكِّل خطاب الكراهية أرضية خصبة وملائمة لأعمال العنف وجرائم الكراهية التي قد تصل في مداها إلى الجرائم ضد الإنسانية أو الإبادة، خصوصًا ضد الجماعات الضعيفة أو الصغيرة أو المهمَّشة؛ ففي راوندا مثلًا، قُتل في عام 1994، بسبب خطاب الكراهية الذي بثّه إعلاميون في قنوات إذاعية مختلفة، نحو 800 ألف شخص خلال مئة يوم فقط، ليمثل أخيرًا، ولأول مرة، عددٌ منهم أمام محكمة الجنايات الدولية، بتهمة التحريض على الكراهية.
من أخطار خطاب الكراهية، رفض دعاة الكراهية الاعتراف بالجرائم التي ترتكب في حق جماعة أخرى لا ينتمون إليها، وإصرارهم على نفيها، أو ربما إلقاء اللوم على الضحايا أنفسهم، واعتبارهم المسؤولين عنها. وأحيانًا يؤدي خطاب الكراهية إلى انسحاب أبناء الجماعة المستهدفة من الحياة العامة وانغلاقهم على أنفسهم، ويتوقفون عن أداء أي دور إيجابي في الحياة العامة، ويدفعهم الشعور المتزايد بالاضطهاد والاستهداف والتمييز ضدهم، إلى التحول إلى عنصر خطر حقيقي، وممارسة العنف ضد الآخرين في أول فرصة قد تسنح بذلك.
أما خطاب الكراهية الموجّه ضد الخارج، فقد حرم المنطقة وأبناءها من فرصة التقدم؛ حدث هذا عندما استخدمت الأنظمة والنخب السياسية العربية، القومية واليسارية والدينية، خطاب الكراهية في مواجهة الغرب، وجرت تعبئة الرأي العام في المنطقة العربية ضد الغرب بوصفه العدو المطلق ومصدر الشرور كلها والطرف المتربص دائمًا بمصالح شعوب المنطقة، وكان الهدف من هذا الخطاب التعمية على آلية الاستبداد والفساد في الداخل، أو التغطية على إخفاق الأنظمة، أو عدم رغبتها، في تحقيق ما تطمح إليه شعوب المنطقة من ديمقراطية وعدالة اجتماعية ورخاء اقتصادي، أو بسبب نقص وعي النخب أساسًا، وشعورها بعقدة النقص تجاه الغرب المتفوق، أي بسبب هيمنة التقليد على وعيها عمومًا.
اعتمدت الأنظمة الاستبدادية على تضليل الرأي العام باعتماد خطاب كراهية موجه ضد الغرب بكليته، يختزل الغرب في ظاهرة الاستعمار، ويخلط بين الغرب الاستعماري والغرب الحضاري، جهلًا أو قصدًا، ما حال بين العرب وشعوب المنطقة الأخرى وبين الإفادة من علوم الغرب وإنجازاته الحضارية والمعرفية، خصوصًا في حيز بناء الأنظمة السياسية والحقوقية والإدارية الحديثة والناجحة. لا يمكن لشعوب المنطقة تحقيق تقدم ونهوض وحداثة إلا بالاستفادة من عناصر تقدم الغرب والتعاطي الإيجابي مع حضارته، ونقل معارفه وعلومه وتقنياته ونظمه، باعتباره ظاهرة كونية، ما يعني أهمية إنتاج خطاب يتعاطى بعقلانية مع الغرب، بعيدًا عن خطاب الكراهية من جهة، وخطاب اللهاث خلفه من جهة ثانية.
لا شكّ، أيضًا، في أن الخارج قد اعتمد في لحظات مختلفة خطاب كراهية موجهًا ضد أبناء وشعوب المنطقة؛ فقد عملت كثير من وسائل الإعلام الغربية على ربط شعوب المنطقة بالإرهاب بعد حوادث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2011، وكذلك في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين مع ظهور تنظيم “داعش”، ما ساهم في تعزيز صورة “المسلم” أو “العربي” أو “المشرقي” المتطرف في أوروبا وأميركا. ولا شكّ في أن جزءًا من المسؤولية يقع على عاتق نخب المنطقة الحداثية التي ما زالت محكومة إما بالخوف من الجماعات الدينية وجمهورها أو بعقدة النقص تجاه الغرب، ما يجعلها ضعيفة في الداخل والخارج معًا.
صور خطاب الكراهية
هناك صور عديدة لخطاب الكراهية؛ فالصور النمطية التي نكوِّنها عن فئات مجتمعية معينة هي شكل من أشكال خطاب الكراهية، وقد تكون هذه الصور مرتبطة بنقص المعرفة بالآخر، أو تكون عملًا مدروسًا من النخب النافذة في المجتمع التي تحاول تعميم صور اختزالية تهدف إلى هدر كرامة الآخر أو تعميم حالة من الكراهية ضده، بهدف تبرير العنف تجاهه وسحقه في المآل. إن الأحكام المسبقة والصور النمطية عن فئة معينة، عرقية أو دينية أو اجتماعية أو مهنية، أو عن بلد معين، تسهم دائمًا في التقليل من شأن الآخر، وفي تمهيد الأرضية لنشر الكراهية.
ترتبط الكراهية بالتطرف بصورة وثيقة، أكان التطرف قوميًا أم دينيًا أم مذهبيًا؛ إذ لا يمكن للمتطرف أن ينتج إلا خطابًا موتورًا ينضح بالكراهية، لأنه يرتكز أساسًا على فكرة احتكار الحقيقة والأفضلية والإيمان والأخلاق والأصل والفهم.
وهناك أيضًا الخطاب الذي يعتمد التركيز على أخطاء الآخر المختلف فحسب، من دون رؤية عقلانية وموضوعية وعادلة، بهدف تبرير وشرعنة خطاب الكراهية خاصته؛ فالعنصري مثلًا يرغب في، ويتمنى، أن يكون المقابل له عنصريًا، ليعطيه مبرِّرًا لوجوده، أي عنصريته، فيما يزعجه، أو يرغب في ألّا يرى، الديمقراطي والمنفتح والمتسامح، لأنهم ينسفون بالضرورة مبرِّرات وجوده. العنصري يجد شرعيته في العنصري المقابل؛ لذلك نراه يفتش عن، ويركِّز على، وجود شخصية عنصرية ما، ويغضّ البصر والبصيرة عن وجود الديمقراطيين والمنفتحين والمتسامحين حوله. والطائفي كما العنصري، كلاهما ينهل من النبع ذاته: فراغ الرأس وفقر الروح.
كثيرًا ما تخطئ وسائل الإعلام مثلًا، عندما تسير في طريق إعادة نقل وتكرار وتدوير خطاب الكراهية، ليصبح هاجسها أيضًا لفت الانتباه أكثر وأكثر إلى خطاب الكراهية الصادر عن فرد ما، فيما هي تغضّ البصر عن أصحاب الخطاب الديمقراطي والإنساني. وأحيانًا، يبالغ العنصري (أو الطائفي أو بعض وسائل الإعلام)، بهدف المزيد من التعبئة والتحشيد، في العودة إلى التاريخ البعيد لاستلهام حوادثه التي تسهم في تأجيج المشاعر، وصبّ الزيت على النار.
يربط خطاب الإحالات التاريخية هذا بين الحوادث القاسية في الواقع والتاريخ معًا بصورة تجعلنا نشعر أننا ما زلنا نعيش ثارات وآلام الماضي ومحنه، وأن أبناء اليوم مسؤولون عن كوارث ومظالم الماضي. هذا الخطاب لا يمكن له إلا أن ينتج كراهية تاريخية لا تستفيد منها شعوب المنطقة أبدًا، بل يصب في خانة تضليلهم من جهة، والاستثمار الدائم في دمائهم من جهة ثانية، وتحقيق مصالح أصحاب النفوذ والامتيازات من جهة ثالثة. ومثله الخطاب الذي يستثمر في المظلومية؛ لا شك في أن تاريخنا متخمٌ بمظلوميات لا أول لها ولا آخر، وهي تحتاج إلى معالجة في سياق رؤية إنسانية ووطنية متكاملة، لا في سياق التميُّز والانغلاق على الذات أو في سياق التحريض ضد الآخر، وتحويلها إلى مبرِّر لارتكاب مظلوميات جديدة.
أما الخطاب الأيديولوجي، فهو خطاب مغلق على نفسه، وجاهز دائمًا للتحول إلى خطاب كراهية، لأن الكراهية أساسًا ابنة كل نمط تفكير متكوِّر على ذاته، يرى نفسه دائمًا في الطريق القويم، فيما الآخر على ضلال. أما الشعارات السائدة في السوق السياسية، مثل شعار “الإسلام هو الحل” و”شعار الحق التاريخي” و”شعار دولة الأكثرية”، فهي تتعاطى مع الواقع وكأن أصحابها هم الوحيدون الذين يشغلونه، ولذلك تؤسِّس وتهيئ التربة الملائمة، بالضرورة، لخطاب الكراهية، لأن كل خطاب يُعلي من نفسه ويهمِّش أو يقصي الآخرين سيصب في الحصيلة في خانة الكراهية.
واقعيًا، كل حالة تهميش أو إقصاء ستتمخض بالضرورة، عاجلًا أم آجلًا، عن خطاب كراهية باتجاهين، خطاب كراهية من المهمَّشين ضد الآخرين، وخطاب كراهية من الآخرين ضد الفئات والجماعات المهمَّشة؛ ما يعني أن الفئات المهمَّشة، في أي مجتمع، تتحول بالضرورة إلى قنبلة موقوتة، وهذا ليس في مصلحتها، ولا في مصلحة الذين ارتضوا تهميشها.
في مواجهة خطاب الكراهية
يأتي في مقدمة سُبل مكافحة خطاب الكراهية بناء النظام السياسي الديمقراطي بمستلزماته وأركانه كافة؛ البرلمان المنتخب، التعددية السياسية، حقوق الإنسان، حرية الصحافة والإعلام، سيادة القانون، القضاء المستقل والنزيه.
لا يعني هذا، بالطبع، أنه لا شيء يمكن تحقيقه على مستوى مكافحة الكراهية المتنامي في بلادنا إلى حين بناء النظام السياسي المنشود، بل هناك الكثير مما يمكن فعله، ويقع عبؤه على عاتق النخب الديمقراطية الحديثة، خصوصًا أن الكراهية بذاتها هي أيضًا إحدى العقبات في طريق الوصول إلى بناء النظام الوطني الديمقراطي، لأنها إحدى أدوات الاستبداد في منع التغيير وفي تنمية القوى الطائفية والعنصرية على حساب تهميش وإقصاء القوى المدنية والديمقراطية؛ ولذلك فإن مواجهة قوى التغيير الوطني الديمقراطي الحديثة للكراهية وخطاباتها يصبّ أصلًا في طريق بناء النظام السياسي الديمقراطي المأمول، وأحد أدواتها الرئيسة في المواجهة إعادة بناء الهوية الوطنية السورية؛ لأنها تعمل على تحقيق الاندماج الوطني المفقود، أي الاندماج الوطني الذي يستند إلى الاعتراف بالتعدد والتنوع.
للإعلام دور أساسي في تكوين الانطباعات والرؤى والقناعات لدى جمهور المتلقين، ولا شك في أن وسائل الإعلام المتنوعة قد أسهمت بقدر كبير في تفشي ظاهرة الكراهية، خصوصًا وسائل التواصل الاجتماعي التي استخدمتها واستثمرتها أصوات عنصرية وطائفية عديدة بكثافة، لتكوين ميليشيات كراهية تخوض حروبًا مذهبية وعرقية في الفضاء الافتراضي، وفي الواقع أيضًا. لذلك لا بدّ أن يكون هدف الرسائل الإعلامية للنخب الوطنية الحديثة تعميق الوعي بالإنسانية والوطنية والأنظمة الحديثة، وإشاعة ثقافة الحوار والتعدّدية ونبذ الكراهية والعنف والتشدّد والعنصرية والطائفية الإرهاب، وأن تكون جاهزة دائمًا للدخول في معارك ثقافية وسياسية تتسم بالوضوح والثقة بالذات، ضد الكراهية وأصحابها ومروِّجيها.
لا بدّ للنخب الحديثة أيضًا من دعم تشكيل منظمات مجتمع مدني حديثة، بدلًا من الجمعيات والمنظمات التي تُبنى على أساس عرقي أو طائفي، لأن هذه يمكنها أن تؤدي دورًا توعويًا وثقافيًا وتنمويًا، خصوصًا في أوساط الشباب، كما يمكن لها أن تُعيد ترتيب بناء سلم الهويات والانتماءات لدى الفرد، فتعلي من شأن المواطنة على حساب الانتماءات الأخرى.
أما الخطاب الديني، فإنه يحتاج إلى نقد وإعادة بناء، يُعيدان إليه جوهره المتمثل بالخير الإنساني العام، كي لا يكون مصدرًا لبث الكراهية في المجتمع. وهذا النقد لا بدّ أن يطال، بوضوح، عددًا من رجال الدين وتفسيراتهم المتشدِّدة للنصوص الدينية، والرؤى التي تحوِّل الدين أداة لتبرير الاستبداد والدفاع عن مصالح المتنفذين، أو لإشاعة الرؤى الطائفية والتعصب الطائفي. هذا النقد لن يصب في مصلحة الإنسان وقيم الخير والعدالة فحسب، بل أيضَا في مصلحة الدين نفسه، لأنه سيخلِّصه من أولئك الذين يضعون أنفسهم في مرتبة المقدّس، في الوقت الذي ينشرون فيه الكراهية والتعصب.
هناك مهمات وآليات أخرى مهمة وضرورية لمكافحة خطاب الكراهية استراتيجيًا، لكنها منوطة أساسًا بالانتقال إلى نظام سياسي ديمقراطي، لكن هذا لا يقلِّل من أهمية الإشارة إليها، على الأقل لتكون من ضمن البرامج المستقبلية للنخب والقوى الديمقراطية الحديثة، خصوصًا على المستويين التعليمي والقانوني.
تشجع المناهج الدراسية الحالية في بلدان المنطقة عمومًا، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، على إنتاج عقول مشبعة بالكراهية، بسبب افتقادها لثقافة قبول الآخر واحترام الخلاف والتعددية. لذلك، تبرز أهمية تطوير المناهج الدراسية وتحديثها، واستبدال نمط التعليم الذي يعتمد على التلقين بتعليم عصري أساسه التفكير النقدي الحر، ومبدأ قبول الرأي الآخر والتعدد والتنوع الثقافي، ما يعني ضرورة بناء مشروع تربوي وطني أساسه الحرية، وتعزيز مفهوم الفرد والفردانية والعمل المدني، والحدّ من النظر إلى البشر على أساس كتلي؛ ديني أو قومي أو عشائري.
من المهم الإشارة أيضًا إلى غياب أو ضعف القوانين والتشريعات التي تعاقب على إنتاج وبثّ خطاب الكراهية في بلدان المنطقة؛ لذلك من الضروري العمل على صوغ القوانين الرادعة لمساءلة أولئك الذين يُطلقون خطابات الكراهية، وينبغي للقوانين إلزام وسائل التواصل الاجتماعي ومواقع الإنترنت ومحركات البحث على الشبكة العنكبوتية إزالة أي محتوى يحرِّض على الكراهية والعنف والتعصب القومي والتطرف والطائفية، على أن تضمن التوازن الضروري بين المحاسبة وحرية التعبير، كي لا تكون القوانين ذاتها أداة بيد النخب المتنفذة لمصادرة الرأي والتضييق على حرية التعبير. ولا شكّ في أن مساهمة النخب الحديثة في نشر الوعي بخطاب الكراهية، وتعريف ضحاياه به، وتشجيعهم على رفع أصواتهم ضده، وتقديم الشكوى القانونية، من شأنه أن يخفِّف من حدّة انتشار خطاب الكراهية، ويقلِّل من أصحابه وأنصاره ومروِّجيه.
* حازم نهار من مواليد دمشق عام1969
طبيب / أخصائي في الطب الفيزيائي والتأهيل.
كاتب وباحث سوري في الشؤون السياسية والثقافية، له إسهامات عديدة في الصحف والمجلات ومراكز الدراسات العربية، نشر عددًا من الكتب السياسية والثقافية، منها “مسارات السلطة والمعارضة في سورية” الذي صدر عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، و”سعد الله ونوس في المسرح العربي”، وله عدة ترجمات، منها: سورية: الاقتراع أم الرصاص لكاريستين ويلاند، سورية: ثورة من فوق لرايموند هينبوش، بناء سنغافورة لمايكل دي بار وإزلاتكو إسكربس، تشكيل الدولة الشمولية في سورية البعث لرايموند هينبوش، سورية الأخرى: صناعة الفن المعارض لميريام كوك.
المصدر: نينار برس