ساهمت الثورة السوريّة بدورٍ رائدٍ في تفجير الوعيّ الشعبيّ في سورية، فمصطلحات مثل (حريّة، ديمقراطيّة، مواطنة، عدالة، مساواة، مجتمع المدني) باتت متداولة أكثر من أي وقت مضى، وبات الوعي بأهميّة تطبيقها منتشر بين مختلف فئات الشعب، وعلى الرغم من أنَّ هذه المفاهيم حظيت بأرضيّة مُشتركة – من زاوية “التعريف النظري”- عند مختلف الفرقاء السوريين، إلا أنَّ الإشكالية بقيت قائمة في منهجيّة “التطبيق الفعلي” على الأرض، إذْ لم تعد الممارسات المناقضة لتلك المفاهيم مثل (التسلط، والتفرد بالقرار، وقمع المخالفين، والفساد، والمحسوبيات)، محصورة بالنظام وميليشياته، بل انتقلت هذه الممارسات إلى الأطراف التي وضعت نفسها بخانة المعارضة السوريّة، الأمر الذي أفرغ عملياً، كل الأهداف النظريّة النبيلة من مُحتواها، وأبقاها مجرد شعارات لا ترقى لمستوى التفعيل.
كذلك يمكننا – وعلى مستوى النخب الثقافية-، ملاحظة اتساع الهوّة في وجهات النظر حول مفاهيم و مسائل إشكالية أكثر عمقاً مثل: ( الهويّة، الشعب، القومية، شكل الدولة، الدين، الأقليات، الدستور)، والخلاف في هذه الحالة و من حيث المبدأ “لا يفسد في الودّ قضية”، فيما إذا كان الجميع ينطلق من ثوابت وطنية تتلخص بالحفاظ على مصالح ووحدة الشعب السوري ككتلة واحدة، و وحدة الأرض السورية كوطن للجميع، إلا أن الإشكالية والخطورة الحقيقية، تكمن في أن هذه الاختلافات باتت خاضعة في كثير من الأحيان إلى تأثير إيديولوجيات وانتماءات “ما قبل وطنية”، تتخذ أطراً دينية وطائفية وعشائرية، تُجيّر هذه المفاهيم لتفسيرات تتناسب مع مصالحها الضيقة والخاصة.
الأقليات وهواجسها
يشكّل الخطاب الذي يركّز على الأقليّات (الدينية، الطائفية، اللغوية) في سورية، وكذلك حقوقها ومخاوفها بوصفها حالة متمايزة كما يريد لها البعض، أحد أبرز النقاط التي تثير الحساسية على الساحة السوريّة، ففي حين تجد الأكثرية الوطنية في سورية، بأنّ التسويق لمخاوف للأقليات في سورية لا مبرر له، إذ أن هذه الأقليّات لم تكن حالة طارئة في المجتمع السوري ولا في المنطقة العربية كلها، بل هي حالة تاريخية اصيلة ومتجذرة، وكل ما يطرح من مخاوف لها علاقة بضمان حقوقها، يمكن معالجته من خلال تفعيل مفاهيم (المواطنة، والمساواة، والعدالة)، فإنّ بعض متصدري الخطاب باسم الأقليات ممن يسعون لمكاسب سياسية فقط باستخدام هذا العنوان، يجدون بأن هذه الأهداف بعيدة المنال، وأنّ خيار الديمقراطية وصناديق الاقتراع لن يفضي بالنهاية إلا إلى حكم الأكثرية (الدينية/ الطائفية / القومية) وليس الأكثرية السياسية. وبالتالي تسعى تلك الأصوات، إلى محاولة طرح مطالب، يمكن أن تبدد مخاوفها من وجهة نظرها، مثل الحديث عن شكل الدولة (اتحادية، فيدرالية)، لكنها لا تكترث بأن مثل تلك المطالب يمكن أن يخلق صراع لا ينتهي ضمن المجتمع وقد يؤدي إلى نتائج كارثية.
الغريب في الموضوع، أن بعض تلك الأصوات، وبحجة التنوع الديني أو القومي في سورية، بات يدعو إلى أن يتجنب دستور سوريا المنشود، ذكر أي إشارة للبعد العربي، سواء في اسم الدولة أو هويتها أو انتماءها لمحيطها كحقيقة تاريخية، وكذلك تحت عنوان فصل الدين عن الدولة، يتم الحديث عن ضرورة تحييد الإسلام عن أي مصادر للتشريع، وغير ذلك من المفاهيم التي باتت مسألة تتجاوز مسألة الحقوق، وتشكل إنكار للغة وهوية مشتركة للشعب السوري، بل وتغييب لخيارات الشعب السوري، وحقه بأن يختار شكل دولته، إذ من غير الممكن القبول بأي مطالب لا تراعي هويّة الشعب السوري وانتماءه التي هي بالأساس مسألة تراكمية لها أبعاد تاريخية وثقافية وحضارية، وليست مجرد خيارات سياسية طارئة، يمكنها أن تتبدل بإجراء دستوري.
يزداد الأمر تعقيداً في مسائل من هذا النوع، مع تدخل سافر لدول إقليمية وغربية في الشأن السوري، بعضها (وخاصة الدول الغربية) التي تجعل من شعار “حقوق الأقليات” مبرراً للتدخل، مما يبشر بخلق حالة من الانقسام الشاقولي في المجتمع ويعزز حالات التنافر والشك، في وقت يحتاج فيه السوريين لتعزيز حالة الوفاق والثقة، وتجاوز حالات التقوقع الطائفي والديني والقومي، والانفتاح باتجاه بناء دولة مواطنة مدنية، على أسس من العدالة، وليس المحاصصة، فنماذج المحاصصة (العراق، لبنان) مثلاً، كرست حالات الانقسام المجتمعي، ولم تضمن بنفس الوقت الحقوق.
“النسيج الفسيفسائي” السوريّ
تحاول بعض النخب الثقافية السورية، التعبير عن نظرتها الإيجابية اتجاه التنوع الديني والثقافي ضمن المجتمع السوري عبر استخدام عبارات مثل “النسيج الفسيفسائي، اللوحة الفسيفسائية السورية”، العبارات ذاتها نجدها تستخدم في خطاب بعض النخب التي تعرف نفسها “كأقليات” لها خصوصيتها، في إطار محاولة استخدام هذا التعبير وإعطاءه صبغة سياسية، ضمن طموحات سياسية يغيب فيها المشروع الوطني تماماً، وتغيّب ضمنها القواسم المشتركة بين معظم مكونات الشعب السوري وأقصد هنا “الهويّة”، وتبالغ بعض الأصوات في تلك التصورات، إلى حد أن بعضها بات يقترح تعريف سورية بوصفها: (مزيج من القوميات والمذاهب والطوائف)، وبالتالي مزيج من الشعوب والهويّات والانتماءات. يذكرنا ذلك بحقبة الانتداب الفرنسي، فقد حاولت فرنسا ضمن سياساتها الانتدابية الأثنية، إلى تقسيم الشعب السوري وفق انتماءات مكوناته الأثنية والمذهبيّة والدينيّة والعشائريّة، وبالتالي إنشاء خارطة أثنية في الذهنية الجمعية للشعب، ومحاولة تعزيزها وإيقاظ التمايز داخلها. وكانت تسعى لنشر دعاية مفادها بأن الأقليّات الطائفية لها خصوصيات، بل ولا تشترك مع الأكثريّة في أصولها العرقيّة أو التاريخيّة أو انتمائها الديني، وكان مستشار المفوضية العليا “روبير دو كاي”، أحد أبرز الداعين لهذه الفكرة، حيث كان يرى بأن سوريّة لم تعد تشكل وحدة سياسية متكاملة منذ سقوط الدولة الأمويّة، وباتت عبارة عن مجموعة أقاليم تضم أديان وأعراق متباينة، ورأى بأنه يجب أن يتم جمعها بصورة تدريجية في نظام فيدراليّة تشرف على تأسيسه فرنسا. (ريموند أوزوكس) أحد المدافعين عن السياسية الانتدابية ومعاصراً لها، حاول كذلك رسم ملامح لهوية سورية جديدة بمفهوم انتدابي يتجاوز حتى حقيقة البعد التاريخي لسورية، يقول: “ما يسمى (سوريا) تعبير مبهم لا يشكّل وحدة، بل فسيفساء من التقاليد والمعتقدات، والاتجاهات المتباعدة” انتهى الاقتباس.
خارج إطار الدعاية الفرنسية ومن كان يدور بفلكها، لم يتبن أي أحد في الحقل العلمي والاجتماعي تلك المفاهيم، فقد عاش الشعب السوري تجربة ديمقراطية في ظل الغياب الفرنسي، وكذلك قبل حقبة الأسد، أكدت على الأرضية المشتركة الأعمق في وجدان الشعب السوري. وقد انتقد “هامسنلي لونكريك” ما حاولت فرنسا تكريسه من تشويه لواقع المجتمع السوري باستغلال وجود تنوع بالفعل في مسألة وجود الطوائف الدينية والأقليات اللغوية، يشير إلى ذلك بقوله: “أنَّ الانطباع السائد حول سوريا بوصفها” فسيفساء من الأقليّات“يمكن أن يكون مضللاً، وذلك ليس لتجاهله الغلبة الكبيرة للسكان المسلمين السنة فحسب، بل ولتشديده على نحو غير مطابق للواقع على العناصر التي تفصل الأغلبيّة عن بقية السكان، وتقليله من شأن الأرضية المشتركة الواسعة التي يلتقي عليها الجميع” على حد وصفه. مضيفاً أنه: “إذا كان قد وجد حيز لسياسات الخصوصيّة المسيحيّة، فقد وجد حيز كذلك للتفكير وفق خطوط سورية تعبّر عن الوحدة الجوهرية للبلاد، والعهود الطويلة من التعايش، والأصول السلالية المشتركة، وتراث العروبة العظيم المشترك”.
الكاتبة الفرنسية فالنتين دي ساينت أيضاً ذهبت بذات الاتجاه، حيث أكدت بأنَّ الذين يدّعون بأن سورية يقطنها أناس من مختلف الأجناس ويحاولون إثبات ادعاءاتهم بالإشارة إلى الطوائف الدينية، والإيحاء بأن اتباع كل من هذه الطوائف يُشكل شعباً منفصلاً، هو في الواقع متعارض مع الحقائق، وتنكره الوقائع والحقائق التاريخية من جميع النواحي، ويمكن للباحث الحقيقي إدراك بأن السوريون يشكلون أمة متجانسة تتحدث اللغة نفسها “اللغة العربية”، ويعيشون نفس الحياة، ولهم نفس التقاليد، وينتمون إلى نفس العرق، أما الغزاة الذين نجحوا في الوصول إلى سورية وغمرت موجاتهم البلاد، فإنهم مروا فيها فقط، أما العناصر الأسيوية الكردية والتركية والشركسية التي تحالفت مع العنصر السوريّ منذ سيطرة العباسيين، فقد اندمجت تماماً في المجتمع، ولم تحافظ على أي خصوصية تميزها.
يتفق غسان سلامة مع هذه الآراء فيقول: “على مستوى الهلال الخصيب ككل، لا يخلو الأمر من أكثريات واضحة تمنع عملياً تطبيقاً متسرعاً لفكرة الموزاييك (الفسيفساء) على مجتمعاته، فالأكثرية الساحقة من سكان المنطقة تتكلم اللغة العربية على الرغم من وجود قديم للغات الكردية وحديث للغة العبرانية (داخل دولة إسرائيل) وعلى استمرار بعض اللغات السامية، كالسريانية ولو بصورة محدودة للغاية، والأكثرية الساحقة تنتمي دينياً إلى الإسلام بمذاهبه السنيّة، على الرغم من وجود أقليات مسيحية ويهودية وإسلامية غير سنية ويزيدية. والأكثرية الساحقة تنتمي ثقافياً إلى هذه المنطقة”.
هذه الآراء جميعها هي من صميم الواقع السوري، ويمكن لأي إنسان بسيط الإقرار بصحتها، وهي تفنّد الآراء الأخرى التي كانت قد ظهرت لأول مرة زمن الاحتلال الفرنسي، قبل أن يُعاد استردادها مع بدء الثورة السورية، والتي تتمثل في محاولاتها الدائمة لإظهار السوريين كشعوب منقسمة متباينة، في محاولة لتعويم هويتها وتغييبها، وكذلك إنكار بعدها الحضاري والتاريخي والثقافي لمحيطها العربي.
هذه مقالة تستأهل أن تكون قاعدة حوار بين السوريين حفاظا على وطنهم، وعلى تاريخهم ومستقبلهم، لقد أوجز الأخ مهند في عرض الموضوع، وهو كاف بذاته ، لكن أحب أن ألحقه بثلاث ملاحظات:
الأولى : أنه ليس الغرب وحده من يقف وراء مفهوم الفسيفساء السورية ، وضرورة قيام دولة اتحادية، أو دولة شعوب سورية ، وإنما أيضا الشرق الذي تمثله روسيا، وقد عبر عن هذا الموقف أكثر من مرة وزيرالخارجية سيرجي لافروف، وكذلك الرئيس فلاديمير بوتين، بل إنهما اعتبرا أن وجود نظام ” يحمي الأقليات” هو الشرط اللازم للنظام السوري المرتقب.
الثاني : أنه لايوجد في العالم دولة ليس فيها أقليات ، وليس في العالم دولة اعتبرت وجود الأقليات الغاء أو طعن لهوية مجتمعها، فالهوية للشعب والوطن، كالهوية للشخص، أداة تعريف وتعرف، وبوابة التفاعل مع الآخرين، وهي التي تحدد جوانب تبادل المعرفة والثقافات بين الشعوب،
وكما أن شخص بلا هوية شخص مشكوك بوجوده، كذلك فإن شعبا بلا هوية هو شعب مشكوك بوجوده.
ومكونات الهوية معلومة وطنيا وقوميا ودوليا، يستطيع من يشاء ان ينظر الى روسيا أو اسبانيا او اليونان أو كوريا او الصين ليستنتج العناصر المكونة للهوية( اللغة. التاريخ، الثقافة ، العقيدة، والقيم الناتجة عما سبق)، والتي سمحت باطلاق تلك الأسماء على تلك المسميات.
ثالثا: أنا لا أظن أن أحدا ممن يدعو الى التخلي عن الهوية الوطنية لسوريا يقولها وهو يستند الى أي أساس من علمي الاجتماع والسياسة. بل إن الجميع يدرك أن هذه الدعوة تفتقد لأي سند موضوعي، وأن القائلين بها إما يتسترون بها على دعواتهم الانفصالية، أو أنهم يعتقدون بأن تجاوز الهوية من شأنه أن يخفف من اندفاع الانفصاليين نحو هدفهم بتقسيم سوريا، ووجود هذا الاعتقاد لديهم دليل على فقر علمي. وضعف في الإرادة السياسية، وهم ممن يصدق فيهم القول : ف “طال عليهم الأمد”. فباتوا يستعجلون النتيجة ولو عن غير طريقها المثمر.
شكرا للأخ مهند على ما يبذله من جهد في هذا الميدان ، وهو جهد سوريا الوطن. والشعب والقوى السياسية السورية بحاجة ماسة إليه.
د. مخلص الصيادي