مذبحة ” قصر الشتاء ” في فيلم ” نيكولاس والكسندرا “

محمد علي صايغ

في مشهد من فيلم ” نيكولاس وألكسندرا “، يتوجه العمال التعساء إلى مقر قيصر روسيا ، في مسيرة سلمية أقنعهم بها قسيس يكره العنف ، وهم يحملون عريضة يشكون بها إلى الحاكم سوء أحوالهم. ويسير الموكب في هدوء ، وعلى رأسه القس الذي يصيح طوال الوقت :ـ ” إنا أتيناكم مسالمين ” ” إنا أتيناكم مسالمين “. وفي الطرف الآخر من المشهد كان يقف الجنود ببنادقهم ، وعند نقطة معينة فتح الجنود النار  فجأة علي المسيرة السلمية ، وبذلك وقعت ” مذبحة قصر الشتاء ” الشهيرة في عام ١٩٠٤ . (( هذه المذبحة عرفت ” بيوم الأحد الدامي ” في 22 يناير1904 في سانت بطرسبرغ بالامبراطورية الروسية حين تقدم متظاهرون غير مسلحين نحو قصر الشتاء ليقدموا التماسًا للقيصر نيقولا الثاني ، حاملين عريضة حددوا فيها مطالبهم. وأهمها: إنشاء مجلس تأسيسي، وتوزيع الأرض على الفلاحين، وحرية التعبير والنشر والاجتماعات، وتحديد ساعات العمل اليومي بثمان ساعات بدلاً من 16 ساعة. وتوجه عمال “بتروغراد ” بقيادة الأب ” غابون “، مع زوجاتهم وأطفالهم بثياب العيد، نحو المقر الدائم للقيصر نيقولا الثاني، في قصره الشتوي ، يحملون صور القيصر والأيقونات ويرتلون الصلوات. وما أن اقترب المتظاهرون من البوابات، والجسور المؤدية إلى القصر، حتى هاجم الجنود المتظاهرين الذين يقدرون ب 300000 متظاهر حسب التقديرات ، وأمطروهم بقذائف المدافع والرشاشات ، وأعملت فرق الخيالة سيوفها في رقابهم رجالاً ونساء وأطفالاً وأجهزت على الجرحى منهم. فقُتل في يوم واحد أكثر من أربعة ٱلالاف مواطن تقريبا ، وقد أثارت هذه المجزرة سخط الشعب والجيش معاً، فهب بعد ذلك الملايين من العمال إلى السلاح، ودعوا إلى النضال والانتقام والثورة. )) .

ونعود إلى فيلم ” نيكولاس والكسندرا ”  ففي نهاية المشهد بعد تلك المذبحة الرهيبة ، وقف القس ” غابون ” المشدوه يرقب القتلى والدماء الغزيرة ويصيح : ” نيكولاس .. نيكولاس ، أيها السفاح الشرير ” . وينتقل الفيلم بعد ذلك مباشرة إلى مشهد آخر في القصر ، حيث نجد القيصر واقفا يسأل رئيس وزرائه بكل حنق وغضب : ” لماذا لم تقولوا لي ؟ من الذي أمر بإطلاق النار ؟ لماذا قتلتم الناس ؟ من المسئول عن هذه المذبحة ؟ ” ،

 فيجيب رئيس الوزراء بحكمة السياسي المخضرم :

مولاي ، قل لي : ” هل كنت ستستجيب لمطالب هؤلاء الناس لو وصلوا إليك ؟ ”

فكان رده السريع المتوقع  : ” بالطبع لن أستجيب لهم .

عندئذ يقول له رئيس وزرائه : ”  إذا كنت لن تستجيب ، فلماذا تسأل عما حدث ، ولماذا تسأل من المسئول عما حدث ؟؟؟ “ .

هذا الفيلم يدير حواراً مبطناً حول ” المسؤولية “، ومن يتحمل  المسؤولية في أي حدث يحدث في كيان الدولة وسلطتها ، في حالة الأزمات  السياسية ، أواستخدام العنف والقمع والاعتقال وإلغاء الحياة السياسية للشعب .. ،  أو في الحالة الاقتصادية سواء فضائح مالية ، أو فساد ممنهج .. أو حتى في حالة قرار الحرب والسلم وحدوث الهزائم والنكسات ومن يتحمل تبعاتها ، ولمن تعود الإنجازات والانتصارات..

بالتأكيد يختلف الموقف والتقييم بين النظام الديكتاتوري والنظام الديمقراطي اختلافاً جذرياً .

فهذا الفيلم يحاكي ما كان يحدث من انتفاضات شعبية في روسيا القيصرية ، ويقود إلى إمكانية استنتاج ثلاث قواعد في التحليل …

ففي الأنظمة الديكتاتورية كما في لقطات فيلم ( نيكولاس والكسندرا ) تسري قاعدة ” الحاكم الذي لا يعرف ” ويعمل على إشاعتها عبر أعوان الحاكم وأجهزته بين الشعب ، بأن حالة الفوضى والفساد وتخريب الاقتصاد ونهب البلاد ، والجرائم اللاإنسانية المرتبطة بالعنف وملاحقة المعارضين ، وكم الأفواه ، والتصفيات ، إضافة إلى الجرائم السياسية في اللعب بالانتخابات وتزويرها ، ووضع الفاسدين على قمة إدارة المؤسسات والإدارات .. كل ذلك لا يعلم الحاكم عنها شيئاً ، فأعوانه هم سبب كل هذه الكوارث التي تحل بالبلد ،  فالحاكم عطوف رؤوف محبوب ، يقف مع شعبه ومصالحه ، ويهتم لٱلامه ومواجعه ، ويعمل ليل نهار من أجل حياة أفضل له ..  ولكن أعوانه ومساعديه هم الذين يخفون عنه كل شيء ، ويزينون له الأمور بأن البلاد بأفضل حال بسبب حكمته ، وهم لا يضعونه بالصورة الحقيقية إلا في حالات نادرة عند إنكشاف بعض الحالات التي يعجزون عن إخفائها ، عند ذلك – يقولون للناس – ألا تلاحظون كيف تصرف حاكمكم ، ألا تشاهدون كيف حاكم وعزل المسؤول فلان وحاكم المسؤول الٱخر ، لو أن الحاكم كان يعرف ما يحصل لما سكت عن أخطاء ولما تجاوز عن أي انتهاك ..

وبالمقابل عندما يعجز الأعوان ، أو تستنفذ مقولة ” الحاكم الذي لا يعرف ” مفاعيلها لدى الناس ، يتحرك الأعوان والمخبرون عبر بث قاعدة جديدة بأن ” الحاكم لا يقدر ” ، ويشيعون بين عامة الناس بقولهم : انتم تعرفون حاكمكم بأنه حاكم وطني لا يهاب الأعداء  وبالمقابل نزيه ، وطيب ، وذكي ، محب لشعبه ، ولا يمكن إلا أن يقدم الخير لبلده ، ولو كانت أمور الحكم بيده لكان بلدنا في نعيم ، ولكان شعبه من أفضل شعوب الأرض معيشة ومعاشاً وتطوراً ، ولكن من حوله في الدولة مراكز قوى وسيطرة ونفوذ كبيرة ، تمنعه وتقف بوجه أي إصلاح وتطوير ، وهو مضطر ليلعب لعبة التوازن حفاظاً على سلامة البلد والحكم واستمراره  . عليكم أيها الشعب أن تتحملوا الى حين يتخلص من هؤلاء الذين يقفون بوجه إنجازاته ، أمنحوه وقتاً حتى تكون السلطة كلها بيده .. عندئذ ستجدوا حاكمكم أمامكم لا خلفكم …

فالحاكم وفق رؤية النصير المؤيد في مقولة الحاكم الذي لا يعرف أو الذي لا يقدر ،  الإنجازات والانتصارات هي من فعل الحاكم , والسلبيات والانكسارات من فعل المحيطين به ، وهو لا يعرف أو لا يقدر أن يمنع ما يعرف ، ولو كان يعرف أو يقدر لمنعها ووقف بوجهها .. هكذا كما جاء على لسان الإمبراطور بالفيلم بقوله : لماذا لم تخبروني ؟ ومن أعطاكم الأمر بذلك .. لكن جواب رئيس وزرائه جاء قاطعاً ، بأنه لو أخبرناك هل كنت ستسمح لهم الوصول اليك ؟؟؟

الجواب الأكيد كان بالنفي .. فالأعوان والمحيطين بالحاكم ، جزء من منظومة الحكم الاستبدادي ، وهو الذي اختارهم وعينهم في مناصبهم ، وهم يعملون إن كان بأوامره أو بوحي من أوامره وبما ينسجم مع ما يرغب ويريد ..

وتأتي القاعدة الثالثة بمقولة ” الحاكم الذي لا يتنازل ” ، في هذه القاعدة تنقلب الأدوار ، فالحاكم طاغية ، ويحكم بيد من حديد ، ولا يسمح برأي أو تصحيح لاي قرار أو موقف ، والأعوان أو المحيطين به لا يملكون من أمرهم شيئاً ، وهم مجبرون على الخضوع له وتنفيذ أوامره ، وكل ما يحصل بفعل الحاكم ، وهم مجرد موظفين مأمورين ..

في سياق القواعد الثلاث ، فقد يستثمر نظام الاستبداد هذه القواعد جميعها في ٱن واحد ويبثها في صفوف الشعب ، وقد يستخدمها قاعدة بعد أخرى حسب الوضع والظروف .. فيما القاعدة الثالثة ( الحاكم لا يتنازل ) كثيراً ما تظهر عندما يكون في السلطة صراع داخلي كبير ، عندئذ يحاول المؤيدون إخلاء مسؤوليتهم هروباً من المسؤولية فيما لوحدث حادثاً قد يقوض السلطة الحالية …

ما يبدو من تناقض في القواعد الثلاث ، ما هو إلا جزء من تركيبة وبنية النظام الاستبدادي ، يستخدمها من مرحلة لأخرى من أجل التشويش على مواطنيه وتدجينهم ، والعمل على تقسيمهم بين مؤيدين ومعارضين .. فللمؤيدين الغنائم والمزايا ، وللمعارضين الملاحقات والسجون ، ولذلك فبقاء النظام واستمراره أهم من الشعب ومطالبه ، ومن هنا كان رد رئيس وزراء الامبراطور بعد تلك المذبحة الرهيبة حاسماً : إذا كنت لن تستجيب ، فلماذا تسأل عما حدث ، ولماذا تسأل من المسئول عما حدث ؟؟؟ “ .

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. فيلم ”نيكولاس والكسندرا“ وقصة مذبحة ” قصر الشتاء ” قراءة جميلة ومقاربة أجمل من الكاتب “محمد علي صايغ” لمجريات الفيلم والمسيرة السلمية للعمال التعساء نحو “قصر الشتاء” مقر قيصر روسيا لتقديم عريضة مطالب، إنها الأنظمة الاستبدادية وتركيبتها وبنييتها الظالمة.

زر الذهاب إلى الأعلى