في مشهد من فيلم ” نيكولاس وألكسندرا “، يتوجه العمال التعساء إلى مقر قيصر روسيا ، في مسيرة سلمية أقنعهم بها قسيس يكره العنف ، وهم يحملون عريضة يشكون بها إلى الحاكم سوء أحوالهم. ويسير الموكب في هدوء ، وعلى رأسه القس الذي يصيح طوال الوقت :ـ ” إنا أتيناكم مسالمين ” ” إنا أتيناكم مسالمين “. وفي الطرف الآخر من المشهد كان يقف الجنود ببنادقهم ، وعند نقطة معينة فتح الجنود النار فجأة علي المسيرة السلمية ، وبذلك وقعت ” مذبحة قصر الشتاء ” الشهيرة في عام ١٩٠٤ . (( هذه المذبحة عرفت ” بيوم الأحد الدامي ” في 22 يناير1904 في سانت بطرسبرغ بالامبراطورية الروسية حين تقدم متظاهرون غير مسلحين نحو قصر الشتاء ليقدموا التماسًا للقيصر نيقولا الثاني ، حاملين عريضة حددوا فيها مطالبهم. وأهمها: إنشاء مجلس تأسيسي، وتوزيع الأرض على الفلاحين، وحرية التعبير والنشر والاجتماعات، وتحديد ساعات العمل اليومي بثمان ساعات بدلاً من 16 ساعة. وتوجه عمال “بتروغراد ” بقيادة الأب ” غابون “، مع زوجاتهم وأطفالهم بثياب العيد، نحو المقر الدائم للقيصر نيقولا الثاني، في قصره الشتوي ، يحملون صور القيصر والأيقونات ويرتلون الصلوات. وما أن اقترب المتظاهرون من البوابات، والجسور المؤدية إلى القصر، حتى هاجم الجنود المتظاهرين الذين يقدرون ب 300000 متظاهر حسب التقديرات ، وأمطروهم بقذائف المدافع والرشاشات ، وأعملت فرق الخيالة سيوفها في رقابهم رجالاً ونساء وأطفالاً وأجهزت على الجرحى منهم. فقُتل في يوم واحد أكثر من أربعة ٱلالاف مواطن تقريبا ، وقد أثارت هذه المجزرة سخط الشعب والجيش معاً، فهب بعد ذلك الملايين من العمال إلى السلاح، ودعوا إلى النضال والانتقام والثورة. )) .
ونعود إلى فيلم ” نيكولاس والكسندرا ” ففي نهاية المشهد بعد تلك المذبحة الرهيبة ، وقف القس ” غابون ” المشدوه يرقب القتلى والدماء الغزيرة ويصيح : ” نيكولاس .. نيكولاس ، أيها السفاح الشرير ” . وينتقل الفيلم بعد ذلك مباشرة إلى مشهد آخر في القصر ، حيث نجد القيصر واقفا يسأل رئيس وزرائه بكل حنق وغضب : ” لماذا لم تقولوا لي ؟ من الذي أمر بإطلاق النار ؟ لماذا قتلتم الناس ؟ من المسئول عن هذه المذبحة ؟ ” ،
فيجيب رئيس الوزراء بحكمة السياسي المخضرم :
مولاي ، قل لي : ” هل كنت ستستجيب لمطالب هؤلاء الناس لو وصلوا إليك ؟ ”
فكان رده السريع المتوقع : ” بالطبع لن أستجيب لهم .
عندئذ يقول له رئيس وزرائه : ” إذا كنت لن تستجيب ، فلماذا تسأل عما حدث ، ولماذا تسأل من المسئول عما حدث ؟؟؟ “ .
هذا الفيلم يدير حواراً مبطناً حول ” المسؤولية “، ومن يتحمل المسؤولية في أي حدث يحدث في كيان الدولة وسلطتها ، في حالة الأزمات السياسية ، أواستخدام العنف والقمع والاعتقال وإلغاء الحياة السياسية للشعب .. ، أو في الحالة الاقتصادية سواء فضائح مالية ، أو فساد ممنهج .. أو حتى في حالة قرار الحرب والسلم وحدوث الهزائم والنكسات ومن يتحمل تبعاتها ، ولمن تعود الإنجازات والانتصارات..
بالتأكيد يختلف الموقف والتقييم بين النظام الديكتاتوري والنظام الديمقراطي اختلافاً جذرياً .
فهذا الفيلم يحاكي ما كان يحدث من انتفاضات شعبية في روسيا القيصرية ، ويقود إلى إمكانية استنتاج ثلاث قواعد في التحليل …
ففي الأنظمة الديكتاتورية كما في لقطات فيلم ( نيكولاس والكسندرا ) تسري قاعدة ” الحاكم الذي لا يعرف ” ويعمل على إشاعتها عبر أعوان الحاكم وأجهزته بين الشعب ، بأن حالة الفوضى والفساد وتخريب الاقتصاد ونهب البلاد ، والجرائم اللاإنسانية المرتبطة بالعنف وملاحقة المعارضين ، وكم الأفواه ، والتصفيات ، إضافة إلى الجرائم السياسية في اللعب بالانتخابات وتزويرها ، ووضع الفاسدين على قمة إدارة المؤسسات والإدارات .. كل ذلك لا يعلم الحاكم عنها شيئاً ، فأعوانه هم سبب كل هذه الكوارث التي تحل بالبلد ، فالحاكم عطوف رؤوف محبوب ، يقف مع شعبه ومصالحه ، ويهتم لٱلامه ومواجعه ، ويعمل ليل نهار من أجل حياة أفضل له .. ولكن أعوانه ومساعديه هم الذين يخفون عنه كل شيء ، ويزينون له الأمور بأن البلاد بأفضل حال بسبب حكمته ، وهم لا يضعونه بالصورة الحقيقية إلا في حالات نادرة عند إنكشاف بعض الحالات التي يعجزون عن إخفائها ، عند ذلك – يقولون للناس – ألا تلاحظون كيف تصرف حاكمكم ، ألا تشاهدون كيف حاكم وعزل المسؤول فلان وحاكم المسؤول الٱخر ، لو أن الحاكم كان يعرف ما يحصل لما سكت عن أخطاء ولما تجاوز عن أي انتهاك ..
وبالمقابل عندما يعجز الأعوان ، أو تستنفذ مقولة ” الحاكم الذي لا يعرف ” مفاعيلها لدى الناس ، يتحرك الأعوان والمخبرون عبر بث قاعدة جديدة بأن ” الحاكم لا يقدر ” ، ويشيعون بين عامة الناس بقولهم : انتم تعرفون حاكمكم بأنه حاكم وطني لا يهاب الأعداء وبالمقابل نزيه ، وطيب ، وذكي ، محب لشعبه ، ولا يمكن إلا أن يقدم الخير لبلده ، ولو كانت أمور الحكم بيده لكان بلدنا في نعيم ، ولكان شعبه من أفضل شعوب الأرض معيشة ومعاشاً وتطوراً ، ولكن من حوله في الدولة مراكز قوى وسيطرة ونفوذ كبيرة ، تمنعه وتقف بوجه أي إصلاح وتطوير ، وهو مضطر ليلعب لعبة التوازن حفاظاً على سلامة البلد والحكم واستمراره . عليكم أيها الشعب أن تتحملوا الى حين يتخلص من هؤلاء الذين يقفون بوجه إنجازاته ، أمنحوه وقتاً حتى تكون السلطة كلها بيده .. عندئذ ستجدوا حاكمكم أمامكم لا خلفكم …
فالحاكم وفق رؤية النصير المؤيد في مقولة الحاكم الذي لا يعرف أو الذي لا يقدر ، الإنجازات والانتصارات هي من فعل الحاكم , والسلبيات والانكسارات من فعل المحيطين به ، وهو لا يعرف أو لا يقدر أن يمنع ما يعرف ، ولو كان يعرف أو يقدر لمنعها ووقف بوجهها .. هكذا كما جاء على لسان الإمبراطور بالفيلم بقوله : لماذا لم تخبروني ؟ ومن أعطاكم الأمر بذلك .. لكن جواب رئيس وزرائه جاء قاطعاً ، بأنه لو أخبرناك هل كنت ستسمح لهم الوصول اليك ؟؟؟
الجواب الأكيد كان بالنفي .. فالأعوان والمحيطين بالحاكم ، جزء من منظومة الحكم الاستبدادي ، وهو الذي اختارهم وعينهم في مناصبهم ، وهم يعملون إن كان بأوامره أو بوحي من أوامره وبما ينسجم مع ما يرغب ويريد ..
وتأتي القاعدة الثالثة بمقولة ” الحاكم الذي لا يتنازل ” ، في هذه القاعدة تنقلب الأدوار ، فالحاكم طاغية ، ويحكم بيد من حديد ، ولا يسمح برأي أو تصحيح لاي قرار أو موقف ، والأعوان أو المحيطين به لا يملكون من أمرهم شيئاً ، وهم مجبرون على الخضوع له وتنفيذ أوامره ، وكل ما يحصل بفعل الحاكم ، وهم مجرد موظفين مأمورين ..
في سياق القواعد الثلاث ، فقد يستثمر نظام الاستبداد هذه القواعد جميعها في ٱن واحد ويبثها في صفوف الشعب ، وقد يستخدمها قاعدة بعد أخرى حسب الوضع والظروف .. فيما القاعدة الثالثة ( الحاكم لا يتنازل ) كثيراً ما تظهر عندما يكون في السلطة صراع داخلي كبير ، عندئذ يحاول المؤيدون إخلاء مسؤوليتهم هروباً من المسؤولية فيما لوحدث حادثاً قد يقوض السلطة الحالية …
ما يبدو من تناقض في القواعد الثلاث ، ما هو إلا جزء من تركيبة وبنية النظام الاستبدادي ، يستخدمها من مرحلة لأخرى من أجل التشويش على مواطنيه وتدجينهم ، والعمل على تقسيمهم بين مؤيدين ومعارضين .. فللمؤيدين الغنائم والمزايا ، وللمعارضين الملاحقات والسجون ، ولذلك فبقاء النظام واستمراره أهم من الشعب ومطالبه ، ومن هنا كان رد رئيس وزراء الامبراطور بعد تلك المذبحة الرهيبة حاسماً : إذا كنت لن تستجيب ، فلماذا تسأل عما حدث ، ولماذا تسأل من المسئول عما حدث ؟؟؟ “ .
فيلم ”نيكولاس والكسندرا“ وقصة مذبحة ” قصر الشتاء ” قراءة جميلة ومقاربة أجمل من الكاتب “محمد علي صايغ” لمجريات الفيلم والمسيرة السلمية للعمال التعساء نحو “قصر الشتاء” مقر قيصر روسيا لتقديم عريضة مطالب، إنها الأنظمة الاستبدادية وتركيبتها وبنييتها الظالمة.