صدرت عن مؤسسة ميسلون للثقافة والترجمة والنشر رواية كاليجولا في دمشق للكاتبة المتميزة المبدعة، المنتمية للثورة السورية ابتسام تريسي، كنت قد قرأت أغلب انتاجها الروائي وكتبت عنه على مدى الأعوام السابقة.
كاليجولا في دمشق رواية ابتسام تريسي الجديدة، تفاجئنا بتقنية جديدة اعتمدتها الكاتبة، فهي محاولة لسرد تاريخ السلطة الاستبدادية السورية، عبر استحضار أسماء من التاريخ او من أعمال ادبية عالمية تُلبسها لرجال النظام ونسائه،
تصرفت الكاتبة بأعلى درجات الحرية في اعادة رسم صورة الحياة في سوريا عند عصبة صغيرة على رأس النظام السوري، فقد جعلت روايتها على شكل مقاطع أشبه بفصول، ليصل لنا من خلال كل مقطع فكرة تريد لنا كقراء أن نطّلع عليها. تنتقل بين الأشخاص وفي الزمان على مدى عقود عهد الاسد الاب والابن، والمكان في سوريا وأوروبا لندن والنرويج، بحيث تعيد رسم الحدث الروائي كما خططت له، بتقنية فنية متميزة، وبحيث نصل الى نهاية الرواية وقد رتبت كل عناصر روايتها أمامنا كقراء واصبحت لوحتها الفنية الروائية مكتملة.
لعبة الرواية الأساسية هي النبش في التكوين النفسي لشخصية الطاغية ومن حوله. وربط ذلك بالماضي الذي عاشته العائلة، والذي ترك أثره الفاضح على سلوك الشخصيات المرضي.
على الرغم من اعتماد الرواية على الحكاية كأساس لها وربط الشخصيات بأخرى عاشت ظروفًا مشابهة، إلا أنّ الرواية تؤسّس لدراسة نفسية محكمة البنيان يمكن اعتبارها اللبنة الأولى لخطٍّ روائي جديد.
الشخصية الأساسية هي شخصية الطاغية الذي يشبه في أفعاله شخصية الحاكم الروماني الشهير “كاليجولا” وقد أطلقت عليه الكاتبة لقب “كاليجولا الهجين” تفريقًا له عن كاليجولا الأصلي وتصغيرًا لمكانته وأيضًا كي تحيل القارئ إلى المعنى اللغوي لكلمة هجين التي تحمل عدّة دلالات، منها إحالتنا إلى التفكير في عدم نقاء العرق أو الدم لهذا الطاغية، فإن كانت اللغة قد عرّفت الهجين على أنّه الرجل اللئيم، إلا أنّ الرواية تذهب إلى ابعد من ذلك فتحلل شخصية الهجين وتحدثنا عن طفولته وامراضه النفسية التي تراكمت عبر سنوات طويلة قبل استلامه للحكم وإصابته بجنون العظمة.
تسعى الرواية إلى تشريح تاريخ العائلة المليء بالعنف والقتل بدءًا من جد الطاغية الذي قتل ابنه إلى الأب الذي ارتكب المجازر البشعة، إلى الابن المختل الذي تسلّم السلطة وتفوق بإجرامه على عائلته مجتمعة.
ترفد شخصية كاليجولا الهجين شخصية أخرى وهي أمّه التي أشارت إليها الرواية بلقب “الملكة الحمراء” وهي ملكة إنكلترا (1516/1558) التي أعدمت أكثر من 300 شخص حرقًا بتهمة الهرطقة ولقّبت بالملكة الحمراء، صوّرتها الرواية في مشاهد مرعبة، وعملت على نمذجتها وإبعادها عن الشخصية التاريخية المعروفة من خلال رسم جديد للشخصية اختلقته مخيلة الكاتبة.
(أضأت النّور في أرجاء المنزل كلّه، إنّها لن تظهر في النّور فهي تخافه هكذا قالت الحكاية.. “إنّ الملكة الحمراء تخشى النّور فإن ذكرت اسمها ثلاث مرّات ستخرج من المرآة وتشوه وجهك بيديها أو تسحبك داخل المرآة وتخفيك. لكنّها لن تستطيع فعل شيء إن أسرعتَ بإضاءة النّور.”. كان “آكاد” طفلاً حين روت أمّه له هذه الحكاية عندما سألها لماذا تغطي المرايا في الليل؟ قالت بأنّها تخشى عليه من الملكة الحمراء التي تسكن في المرآة.)
أمّا شخصية زوجة الطاغية فقد منحتها الرواية اسمًا -هو اسمها المتداول بين أصدقائها ومعارفها قبل الزواج- وفي الوقت نفسه يحيلنا إلى شخصية روائية مشهورة هي شخصية “إيما بوفاري” رائعة الكاتب الفرنسي “فلوبير” والذي حاكمه القضاء الفرنسي لأجلها.
قصة إيما في الرواية ليست قصة إيما بوفاري، لكن الشخصيتين تلتقيان في بعض الجوانب النفسية والعاطفية الشهوانية، وهي ليست بالتأكيد نسخة واقعية عن حياة زوجة الطاغية، بل ابتعدت واقتربت من الشخصية عبر السرد لتجعل القارئ يتساءل عن الحقيقة ويقتنع بما توحيه إليه الشخصية التي بين يديه.
لم تكتفِ الرواية بسرد أحداث غرائبية للشخصيات الرئيسة في الرواية، بل نقلتنا إلى عالم الخادمات الأجنبيات اللواتي يعملن في القصر، لتحدثنا أيضًا من خلال أحداث غرائبية مشوقة عن حياتهنّ وما يعانينه في ظلّ سلطة متوحشة وأناس لا يعرفون الرحمة.
لا يمكننا تلخيص أحداث الرواية التي انتهجت أسلوبًا مميزا في تقديم الأحداث عبر ثلاث شخصيات “كاليجولا الهجين/إيما بوفاري/آكاد السوري”.
الراوي الشاب آكاد الذي استطاع النجاة من القتل على يد زوجة الطاغية وهرب مع عمته إلى النرويج حيث التقى بعدوه القاتل “زوجة الرئيس” وتقرّب منها وصار يحكي لها حكايات على نمطية “ألف ليلة وليلة” عندما أبدت رغبتها في تأليف كتاب عن حياتها وطلبت مساعدته. كانت تأمل -كما قالت لآكاد- أن تتخلص من آثامها كلّها بقول الحقيقة كاملة في كتابها.
لكن هل الحقيقة ما روته في كتابها؟
حتّى الطغاة يملكون وجهة نظر خاصة تبرر أفعالهم الوحشية وتبرئ ساحتهم من الجرائم التي ارتكبوها -هذا ما تقوله الرواية على لسان إيما بوفاري- وللحقيقة وجه آخر يرويه آكاد. أمّا الحدث المعاصر فيرويه الطاغية نفسه، الذي لم يفكّر بكتابة تاريخ له بخط يده، بل بدماء الشعب الذي يتسلى بقتله.
نعم إنّها مجرد تسلية. ألعاب يصممها له خبراء بالحاسوب ويقوم هو باللعب بها، حين يسأم من لعبة يطلب تصميم لعبة أخرى. يتابع القارئ عبر تلك الألعاب “مقتل شقيق الطاغية” قصف المناطق الآمنة” القصف بالكيماوي” التعذيب في اسطبل القصر، جعل الرجال من حوله يخضعون للعبة حقيقية تشبه تلك الألعاب التي مارسها الرومان في ملاعبهم.
يتسلى بالقتل كما فعل كاليجولا يومًا.
تصل الرواية في خيالها الجامح إلى جمع الطاغيتين “كاليجولا والهجين” وتجري بينهما حوارًا يتنافسان من خلاله بقدراتهما من خلال عرض ما فعله كلٌّ منهما بشعبه.
خاتمة الرواية هي المذهلة فنحن عبر الرواية نبحث عن الشخص الذي يدير خيوط الحكاية بأصابعه ويحرّك الطاغية ومن حوله لنجده في آخر صفحة مع مفاجأة وهي الجواب على السؤال الذي طرحته الرواية في بدايتها “من قتل شقيق الرئيس الذي أعده الزعيم ليستلم السلطة من بعده؟”
لا يوجد في الرواية شخصيات عابرة، كل الشخصيات مؤثرة وذات حضور فعّال، من نائبة الرئيس الأب التي أصبحت مستشارة للابن إلى النائبة الشابة والتي جاء في مقطع من الرواية ذكر للصراع بينهما:
(لم تكن زوجته “إيما” غافلة عمّا يجري، عيونها المبثوثة في كلّ مكان نقلت الصّورة بشكلٍ مثير، أدركت أنّ المستشارة الجديدة حقّقت خلال أسابيع حضورًا يفوق حضور الرّئيس وتمكّنت من جعل الإعلام يلتف حولها، ويكيل لها المديح. لم يكن مهمًا بالنّسبة لها أن يتعلّق بها أو يتخذها عشيقة، ما يهمها ألا تتأثر مكانتها في القصر بوجود منافسة قد تأخذ مكانها بسهولة!
من الواضح أنّ المستشارة الشّابة الجميلة درست كلّ شيء، وخطّطت، ونفّذت بذكاء ومهنية عالية، ولم تترك ثغرة واحدة يمكن لأعدائها أن يستغلوها فيطعنوا بمصداقيتها وعملها لإزاحتها من مكانها. مع ذلك لم يعجزوا عن التّقليل من شأنها والطّعن في خبرتها، وكبرت ساحة الصّراع بينها وبين المستشارة العجوز التي شعرت أنّ البساط بدأ ينسحب من تحت قدميها، وأنّها على وشك أن تهوي، ولن تحتاج إلى سكاكين تنهي حياتها يكفي أن تسقط على حافة البساط لتلقى مصرعها. حرفياً خافت المستشارة العجوز على حياتها فلجأت إلى “النّباش”.)
الملف للنظر أنّ المستشارتين حملتا اسم “إيرما” لكن المستشارة العجوز كان اسمها “إيرما غريزة” وهي ناظرة مخيمات التكثيف النّازية، ورئيسة قسم النّساء في مخيم بيرغن بيلزن. أمّا المستشارة الشابة فقد حملت اسم “إيرما لادوس” وهي بغي كانت تعمل في شارع كازانوفا في باريس، مثلت دورها في السينما الفنانة شيرلي ماكلين. وقد أعطت الرواية بهذه الإحالة الصفات النفسية والجسدية لتلك الشخصيتين.
لا يمكن للقارئ أن يحيط بكلّ تلك الشخصيات إن لم يرجع إلى تاريخها، ويبحث عن الهدف من حملها لتلك الأسماء، ومن ثمّ يستطيع تشريح الشخصية وفهمها بشكل جيد، وهو عمل يحتاج إلى دراسة نقدية أكاديمية -ربما- للإحاطة بالعمل بكلّ تفاصيله. ونحن هنا نقدّم فكرة صغيرة عنها للقارئ كي يتتبع بنفسه ما حدث في مخيلة الكاتبة والذي يمكن أن يتحقّق على أرض الوقائع في دولة تهيمن عليها المخابرات برئاسة رجل هجين هوايته وتسليته الوحيدة التدمير والقتل!
يستطيع القارئ أو الناقد أن يبحث في الرواية عن نقاط تربط الشخصية بواقع معيش في الحقيقة، لكنه لن يجد تطابقًا في المطلق.
لقد طغى كاليجولا الحاكم الروماني لدرجة جعل من شعبه كلّه عبيدًا فقتله رجل بسيط لا يمكن لمثله أن يخطر له أن يرفع رأسه لرؤية الامبراطور.
وكاليجولا دمشق نسخة مشوهة عن الامبراطور الروماني؛ لذا لُقِّب بالهجين، وهو لقب مناسب له تمامًا.
وفي الختام تعيد الرواية مجددا تذكيرنا بالدماء التي كان قد هدرها النظام عبر سنوات حكمه الظالمة وعنفه وحلفائه قتل أكثر من مليون إنسان ومثلهم من المصابين والمعاقين، ملايين من السوريين المهجرين والذين يعيشون في الخيام وسط حياة لا انسانية بكل المعاني.
رواية “كاليجولا في دمشق” للكاتبة الروائية “ابتسام تريسي” قراءة جميلة وتعقيب موضوعي من الكاتب “أحمد العربي” الرواية محاولة سرد تاريخ السلطة الاستبدادية لنظام طاغية الشام، عبر استحضار أسماء من التاريخ او من أعمال ادبية عالمية تُلبسها لرجال النظام ونسائه،