
فى زحام الكتّاب الذين شغفهم الوهج، مشى إبراهيم صموئيل وحده، فى الظل.
لم يكن يسعى إلى ضوء، بل كان يقتفى أثر الضوء الداخلى، ذاك الذى ينبثق من شقوق الروح الموجوعة.
كتب القصة القصيرة كما تُكتب صلاة هامسة، وكأن كل سطر منها محاولة للنجاة من جدارٍ آخر، ومن خيبةٍ أخرى.
لم تغره مواسم الرواية ولا جوائزها، ولا أبهجه تصفيق الصالونات؛ كان يعرف أن القصص تولد فى العتمة، وتنبت فى الصمت.
ابنُ المعتقل والمدينة، كتب عن السجون التى لا أبواب لها، عن الأقفاص التى نحملها فى دواخلنا، عن الوجع الذى لا يعلنه أحد.
حين عملنا معًا فى مجلة «القاعدة»، فى قلب مخيم اليرموك جنوب دمشق، كنت ألمحه كمن يتنفس الحبر بدل الهواء، وكأن اللغة كانت خلاصه الوحيد من لعنة السنوات التى خبأها بين ضلوعه.
دقيقًا كراهبٍ ناسك أمام النصوص، وساخرًا كطفلٍ أدرك عبث العالم، كان إبراهيم صموئيل يصنع من التفاصيل الصغيرة أيقونات خفية للمقاومة والصبر.
هنا، سأحاول أن أستعيد بعضًا من ذلك الزمن، فى ستة مشاهد متفرقة، ربما تسعفنى فى أن أقول شيئًا عن رجلٍ كان يكتب، فى كل قصة، محاولةً إضافية لتصحيح انكسار العالم.
المشهد الأول: فى حضرة السارد الصامت.. بداية الحكاية
كان اللقاء الأول مع إبراهيم صموئيل «أبو أنس» فى مكتب مجلة «القاعدة»، التى كانت تصدر عن جبهة التحرير الفلسطينية – قيادة عبد الفتاح غانم “أبو ناصر”، فى مخيم اليرموك جنوب دمشق.
كنت أعرف مدير التحرير، الكاتب الموهوب جميل حتمل، من قبل، وقد جمعنا النضال فى صفوف المقاومة الفلسطينية فى لبنان والود المتبادل. وحين التحقت بالمجلة مديرًا لقسم الإخراج الفنى، كان جميل هو من قدمنى إلى سكرتير التحرير: أنس حداد أو “أبو أنس” كما يحب أن يُنادَى.
صافحنى بحرارة ودودة، وقال بلهجة لا تخلو من خجل نبيل: “أنس حداد” أو أبو أنس فابنى الأكبر اسمه أنس. من اللحظة الأولى، بدا أننى أمام رجل من طينة خاصة: حكاّء من طراز رفيع، دقيق فى عمله، رشيق فى لغته، له خطٌ منمّق كأنما صُقِل فى مدرسة الخطاطين القدامى.
كان إبراهيم صموئيل أو أنس حداد متبحرًا فى اللغة العربية، لا يُفوّت فاصلة ولا كسرة، وكنت أدهش حين أراه يراجع النصوص بدقة العلماء. سألته يومًا عن سر هذه العناية الفائقة، فأخبرنى أن الفضل فى تطوير لغته العربية، يعود إلى متابعته المنتظمة لبرنامج الشيخ محمد متولى الشعراوى، الذى كان يُبث من التلفزيون الأردني. كان يلتقطه من خلال هوائى نصبه فوق بيته، قبل أن تنتشر أطباق “الدش” فى سوريا. وأخبرنى أن من نبهه إلى البرنامج هو صديقه الأقرب إلى روحه: الفنان التشكيلى يوسف عبدلكى، الذي كان قد غادر إلى فرنسا، لكنه ظل حاضرًا في ذاكرة أبى أنس اليومية. لم يكن يمرّ يوم تقريبًا دون أن يروى لى حكاية من حكاياتهما، دائمًا ما كانت مفعمة بالطرافة والحنين.
في المكتب، كان أبو أنس هو العين الساهرة على كل كلمة تُنشر. يراجع المواد، يدقّقها لغويًا، يضع العناوين الفرعية، يكتب تعليقات الصور، ويسهر على تفاصيل قد لا يلتفت إليها أحد سواه. وكنّا، رغم الجدّ، نخلق لحظات من المزاح. فكثيرًا ما نتندر على جميل حتمل، الذي كان يشكو من قلبه المرهق ويتحدث بصوت خفيض عن “الشرايين الصناعية” التى رُكّبت له. كنت أقول ممازحًا: “جميل يتلبّس لبوس عبد الحليم حافظ!”، وكان جميل يضحك بصوت لا يسمعه سوى من اقترب منه. كان جميل شكلا وروحًا نجمًا فى الوسط الثقافى السورى، محبوب الفتيات، ذا عينين كأنهما زرقاوان، وجسد نحيل ممشوق. وكان أبو أنس يحبه، ليس فقط للرفقة اليومية، بل لأن بينهما قاسمًا مشتركًا: الانتماء إلى الفكر الماركسى، وربما عضوية رابطة العمل الشيوعي، التى صارت لاحقًا حزب العمل الشيوعى المحظور فى سوريا.
ذاك الحزب، الذى طُرد أعضاؤه لسنوات، ضمّ نخبة من المثقفين السوريين، وكان معظم أعضائه من الأقليات: مسيحيين، علويين، إسماعيليين، كرد، وبعض الفلسطينيين السوريين.
في تلك الأيام، لم تكن السياسة مجرد خطاب، بل نَفَسٌ يُستنشَق مع الهواء، وكان أبو أنس يعى ذلك، لكنه اختار أن يكتب القصة، وأن يُمارس الدقة والانضباط وكأنهما شكل من أشكال المقاومة.
المشهد الثاني: بين يوسف إدريس ولويس جريس.. مفارقة باقة الورد
كان الفنان التشكيلى يوسف عبدلكى صديق إبراهيم صموئيل الأقرب إلى روحه، لا يمرّ يوم دون أن يذكره، ويستعيد طرفة من حكاياتهما المشتركة.
وكان الاثنان يتقاسمان شيئًا أشبه بالعبادة لكاتب القصة المصرى يوسف إدريس. لم يكتفيا بقراءة قصصه، بل كانا يحفظانها عن ظهر قلب، ويتبادلان قراءتها من الذاكرة كما يتبادل العشاق رسائل قديمة.
وذات يوم، قرآ خبرًا صغيرًا عن زيارة الفنانة المصرية سناء جميل إلى دمشق لحضور مهرجان دمشق السينمائي. وكانت المفاجأة بالنسبة لهما أنها – بحسب ظنهما – زوجة يوسف إدريس نفسه. طار الاثنان فرحًا، فقد تخيّلا أنها البوابة الممكنة لإرسال “تحية حب” إلى معشوقهما الأدبي.
ولم يكن الحدث بسيطًا؛ فقد اشتريا باقة ورد كبيرة التهمت معظم ما فى جيوبهما، رغم أنهما كانا يعانيان وقتها من البطالة وقلة ذات اليد. ثم ذهبا معًا إلى الفندق الذي تقيم فيه الفنانة سناء جميل على بابه، ووقفا هناك كمن ينتظر لقاءً مصيريًا.
اتصل موظف الاستقبال بغرفتها، ووافقَت على لقائهما. كاد إبراهيم وعبدلكى أن يطيرا من الفرحة. حاولا صعود الدرج من فرط الحماسة، لكن موظف الفندق أصرّ على مرافقتهما بالمصعد، وطرق باب الغرفة كما لو كان يُدرك أنه على وشك تسليم وردتين بشريتين لا باقة ورد فحسب.
استقبلتهما سناء جميل بود شديد. وكانا قد ذاكرا كل أفلامها بدقة قبل الزيارة، وراحا يستعرضان معها بعض مشاهدها، ويشيدان بأدائها. ازداد ترحيبها بهما، خصوصًا حين أدركت من لغتهما ولهفتهما أنهما من المثقفين، أحدهما فنان تشكيلى، والآخر كاتب صحفي.
ثم انتقلا إلى الحديث عن زوجها. تمنّيا أن تبلّغه تحياتهما، وأخبراها – بكل إخلاص – أنهما يحفظان جميع قصصه، وبدأ إبراهيم صموئيل يقرأ من ذاكرته قصة «أرخص ليالي»، ليكملها عبدلكى بسلاسة عاشق يحفظ حتى الفاصلة.
وحين انتهيا، ابتسمت سناء جميل، ووقفت أمام المفارقة المهذّبة لتقول:
«شكرًا لكم… بس الحقيقة إن زوجى مش القاص يوسف إدريس… أنا زوجة لويس جريس، الكاتب الصحفى والمترجم المعروف».
ساد صمت ثقيل للحظات. ثم بدأ الاعتذار المرتبك، والتأكيد على تقديرهما العميق للكاتب الصحفى الكبير لويس جريس. شكراها على حسن استقبالها، وغادرا الغرفة وهما يتصبّبان عرقًا… لا من الحرج فقط، بل من حرارة اللقاء غير المتوقع.
وما إن خرجا من الفندق، حتى انفجرا بالضحك. ضحكا طويلا، لا تشوبه خيبة، بل يقطّره حب حقيقى للأدب، ومفارقة جميلة لن تُنسى… وظلّا يرويان تلك القصة – كما رواها لى أبو أنس – كأنها قصة قصيرة كتبها يوسف إدريس بنفسه، لكن دون أن يدري.
حين تصير الحكاية مقاومة صامتة
هكذا كان إبراهيم صموئيل، كما عرفته: رجل الحكايات الصافية والضحكات المغتسلة بالحزن.
لم يكن أبو أنس يروى قصصه فحسب، بل كان يعيشها… يمارس الصبر همسًا، والمقاومة إيماءً، كما لو أن الحكاية الحقيقية لا تُروى، بل تُعاش بين سطور الأيام.
مع أبى أنس، أدركت أن أجمل الحكايات لا تُكتب بالحبر فقط، بل تُنقش بالصبر على جدران الروح.
لم تكن الأيام سهلة، ولا الأحلام وادعة، لكننا، وسط رماد الخيبات، كنا نقتنص لحظات صغيرة تضيء العتمة.
الخاتمة فى الحلقة
المقبلة، نواصل المشي مع إبراهيم صموئيل بين دروب الحلم والمقاومة، حيث الكلمات كانت زادًا، والصمت كان وعدًا بالنجاة.
المصدر: الأهرام العربي