كلما ارتقى الإنسان وسمت معرفته وزاد وعيه، كلما أصبح أكبر بمستوى تفكيره الاستراتيجي، وأصبح أقل اختلافًا وأكثر نضجًا واحتواءً، وهو ما نطلقه أحياناً فنقول إنسان متحضر واعي، أي يفكر بطريقة متقدمة ورصينة ومنفتحة.
أما الاستعراقية والحروب الدونكشوتية التي يتجاذبها أفراد بين فينة وأخرى، تعطينا دلالة أننا مازلنا نراوح في طريق ينبغي أننا تجاوزناه مسبقاً، وأننا مازلنا نغوص في الاستعراقية وهي الاستعلاء العرقي أو التمركز الإثني، أو التمركز الجغرافي، ومازال للبعض اعتقاد بأن أمته أو الجنس الذي ينتمي إليه الأحسن والأكثر اتساقًا مع الطبيعة وأنه متفوق عرقياً أو حضرياً والآخرون متأخرين، ومازال يعبر البعض ويشير إلى أن جماعته هي الأفضل بين كل الجماعات، وأن الحكم على الآخرين على أساس أن جماعة هذا الفرد هي مرجع هذا الحكم إيماناً بالقيمة الفريدة والصواب التام للجماعة التي ينتمي إليها والترفع عن الجماعات الأخرى إلى حد اعتبارها نوع من غير نوع جماعته، ولا شك أن هذا التمركز يغذي في النفس أمراضًا وأحقادًا غير سليمة وغير منطقية، ماتزال صفحات التواصل الاجتماعي والتي تحولت لتباعد اجتماعي أشبه بالتباعد الكوروني، وما يزال العابر اليوم في صفحات التباعد يرى أمثلة كثيرة منها: بعض الأخوة الكرد يصفون العرب أنهم أبناء الرمال والقبائل وألفاظ وأوصاف تعافها النفس، علماً إن تاريخ الشعوب في المنطقة متشابه كما ذكر ابن خلدون، وعندما تكاملت هذه الشعوب برز تميزهم وقوتهم وحتى العرب ذاتهم صنعوا حضارة عظيمة بقيم إسلامية تناوب على حكمها بعدهم الكرد والترك والشركس وأقوام أخرى كثيرة .
كما تجد آخرين يتحدثون بعصبية لمناطق جغرافية أو انتماءات مجتمعية بين حضر وريف، وبادية، وجنوب وشمال، وشرق وغرب …!!
لو فكر الزعماء السوريون بهذه الطريقة لما أصبحوا زعماء لو فكر فارس الخوري بالمسيحيين فقط لما أصبح زعيماً لدى السوريين وكذلك إبراهيم هنانو لما كان زعيماً للسوريين، وكذلك شكري القوتلي وعبد الرحمن الشهبندر والآخرين.
الترفع عن العصبيات الصغيرة الضيقة بداية البداية للنهوض، لا ينهض شعب يفكر مثقفوه بطريقة بسيطة ضيقة، مرسومة بلغة حدود رسمتها البلدية أو التجمعات المجتمعية الطبيعية التي ينبغي أن تتكامل ولا تتآكل لتنهض ولتتخلص من الاستبداد والفقر والقمع والتخلف التي هي نتاج العصبة الحاكمة في البلد، وما يزال جاثمًا فوق الصدور والرؤوس، فالسوري الذي يحمل هم كل سورية هو فقط من سيتحول زعيماً وطنياً في نظر كل السوريين، عوضاً عن زعيم قريته أو مدينته أو حتى عشيرته التي ينتمي إليها، عجباً لمن بإمكانه أن يصبح عظيماً بعيون الآخرين كل الآخرين وهو يصر أن يكون قزماً ينتمي لدائرة صغيرة ضيقة للغاية، السوريون بطبعهم وبتاريخهم وحتى البشر عموماً ينظرون باحترام لمن يناضل من أجلهم جميعاً.
ما كان لغاندي أن يؤثر في 200 مليون إنسان لو لم يكن يتسع قلبه وعقله الجميع ويناضل من أجل الجميع فنال ثقة واحترام الجميع، العدالة والمساواة حين تطبق على الجميع ترضي الجميع، إلا من به مرض الاستعلاء والتضخم.
فلا نكون صغار في الوقت الذي يمكن أن نكون فيه عظماء وطنيين وتتسع مساحة الاهتمام والتأثير لتشمل الجميع، لكن البعض يبدو أنه لا يمكنه إلا أن يكون صغيراً، وعلى المرء أن لا يغتر بقوى الأمر الواقع التي سرعان ما تتغير ولا تدوم، ولن تدوم فالدوام الاستراتيجي هو للشعب ككل، وليس لغرور محطة من المحطات، فلا قوي دائم ولا ضعيف دائم.
المصدر: اشراق