لا يمكن البحث في معنى المصطلح بالعودة فقط إلى أصوله اللغوية كما جاءت في القاموس ولكن لابد من أخذ الدلالات التي حملها في سياق استخدامه المتكرر بالاعتبار، لذا فإن أي مصطلح قد يتغير معناه مع الزمن، وفهمه بدلالة معناه القديم قد يخلق إشكالية كما أن استخدامه بعيدًا عن دلالته الشائعة يخلق إشكالية أيضًا.
ومفهوم النخب (الأنتليجنسيا) من المفاهيم الحديثة التي تحمل أكثر من دلالة , ويمكن العثور في المراجع الغربية على عدة معان لذلك المصطلح تتباين وفقا للزمان والمكان ففي أوربة القرن التاسع عشر كان المدلول الشائع ” الشعبي” لكلمة الأنتليجنسيا يشير إلى طبقة اجتماعية معنية بإنتاج وممارسة الأنشطة الفكرية تضم أيضا الفنانين , وفي زمن التيارات اليسارية والثورات الاجتماعية حمل ذلك المصطلح شحنة طبقية فالنخب البورجوازية كانت فئة اجتماعية مهمتها توظيف نشاطها الفكري لصالح الطبقة المهيمنة على الاقتصاد والمجتمع وترسيخ تلك الهيمنة وجعل الثقافة البورجوازية مثالا أعلى ليس للطبقة البورجوازية ولكن للمجتمع بكامله وتدخل السياسة والفكر السياسي ضمن نشاطها الفكري الوظيفي .
في سورية الستينات والسبعينات حين كان الفكر اليساري مهيمنا في ميدان الثقافة استخدم مصطلح النخب على نطاق واسع للدلالة على طبقة اجتماعية تشتغل بالثقافة والفن ليس فقط كمهنة للتكسب ولكن من أجل التغيير الاجتماعي الثوري أو الإصلاحي (الثوري على الأغلب) واتخذ المصطلح بعدا سياسيا كثيفا بشحنة يسارية وظل كذلك حتى الثمانينات.
مع تراجع اليسار في سورية والعالم في الثمانينات والتسعينات على وجه الخصوص بدأ مفهوم النخب يتخلى عن حمولته اليسارية في حين قدم الناشطون في ” لجان المجتمع المدني ” مضمونا جديدا لمصطلح النخب يضم مثلا عالمية مجردة مثل حقوق الانسان والحرية والحداثة والمواطنة …. على حساب تراجع الحمولة اليسارية.
لكن انفجار الحالة الشعبية في 2011 أعاد الجميع فجأة إلى دائرة الفعل السياسي المكثف، وأصبح مطلوبا من ” النخب “تحمل مسؤولياتها الوطنية – التاريخية لقيادة المد الشعبي الذي عم البلاد.
لم تكن النخب التي عانت من الديكتاتورية الأشد في تاريخ سورية الحديث منذ العهد الفيصلي عام 1918 قادرة على قيادة الحركة الشعبية وظهر عجزها بطريقة فاقعة، كما ظهر أن ذلك العجز لا يشمل فئة الناشطين السياسيين إبان الثورة السورية فقط بل طبقة تمتد لتشمل شرائح واسعة من جيل بكامله، عجزت حتى عن إنجاز نقد حقيقي معمق لذاتها حتى الآن مع استثناءات فردية محدودة.
لقد أصبح بحكم المسلم به أن تلك الطبقة لم يعد بمقدورها قيادة نهوض شعبي جديد يحمل الخلاص لسورية، وأن أفضل ما يمكن أن تفعله هو إنجاز ما تهربت من القيام به في نقد تجربة الثورة السورية وأخطائها المرتكبة وعوامل العجز التي منعتها من ممارسة دور القيادة للحركة الشعبية.
لكن يبدو أن البعض من تلك ” النخب ” مازال يفضل السباحة في وهمه عكس التيار، ويظن أن بمقدوره أن يمارس ” نخبويته ” ليس باستكشاف طرق الخلاص للكارثة السورية ولكن بوضع نفسه في مكان متميز يؤهله لإنتاج نخب جديدة تتولى قيادة الحركة الوطنية!
ليس باستدراك نقائص ” النخب السورية ” وأهمها على الإطلاق الانعزال عن الشعب وممارسة الاستعلاء الفارغ عليه ولكن بتعزيز تلك النقائص ووضعها بإطار ايديولوجي “تنويري” مزعوم يعيد إنتاج مفهوم النخب ليشير لمجموعة معزولة من المثقفين غير معنية بالشأن السياسي بصورة فعلية غارقة في مسائل جدلية لا تنتهي سوى لتبدأ من جديد.
لا يشبه مثل ذلك التوجه المفصول عن الواقع سوى مجموعة الرهبان الذين كانوا غارقين في الجدال حول مسألة كم من الملائكة يمكن أن يقف على رأس دبوس بينما كانت القسطنطينية على وشك السقوط تحت مدافع السلطان محمد الفاتح العثماني.
كان عجز النخب السورية مع إنطلاق ثورته آذار 2011 عن تحمل مسؤولياته الوطنية التاريخية لقيادة المد الشعبي الذي عم البلاد، بسبب معاناتهم من الديكتاتوريات الأشد بتاريخ سورية الحديث وظهر عجزها بطريقة فاقعة، ولأن بعض تلك ”النخب” يفضل السباحة في وهمه عكس التيار على النخب الوطنية إنتاج جديدها لتولى قيادة الحركة الوطنية باستدراك النقائص والانعزال عن الشعب وممارسة الاستعلاء عليه بإطار ايديولوجي “تنويري” مزعوم.