ثمة حدثان في الأيام الأخيرة يمثلان واقع حال النظام العالمي الفاسد الذي ما تزال تقوده الولايات المتحدة. الأول تلك الرسالة التي بعثها أعضاء في مجلس الشيوخ الأمريكي إلى المحكمة الدولية وفيها تهديد صريح واضح مباشر للمحكمة إذا ما فكرت بإصدار مذكرة توقيف بحق مجرم الحرب الصهيوني نتنياهو رئيس حكومة دولة العدو الصهيوني.
الثاني قيام مندوب دولة الاحتلال الإسرائيلي بتمزيق ميثاق الأمم المتحدة على منصة المنظمة ذاتها تعبيرا عن استهزائه بها وبما تمثل وما يمكن أن يصدر عنها من قرارات ولا سيما ما يتعلق بالمناقشات الجارية للاعتراف بحق فلسطين بعضوية كاملة في المنظمة الدولية..
وعلى الرغم من أن منظمة الأمم المتحدة وما تفرع منها من مؤسسات دولية ومنها محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية ، جميعها من صنع النظام الدولي الذي أعقب انتهاء الحرب الأوروبية ” العالمية ” الثانية ؛ إلا أن المتغيرات العالمية التي حصلت في أكثر من ميدان لا سيما في حقل النضالات التحررية لشعوب كثيرة وفي القلب منها المنطقة العربية ؛ أوصلت النظام الدولي إياه إلى شبه طريق مسدود إذ كشفت كل أكاذيبه في تعامله مع قضايا الشعوب والأمم وفي إخفاء مطامعه الاستعمارية وراء شعارات زائفة تمثلت أساسًا في ثلاثة:
حقوق الإنسان والديمقراطية وتحرير المرأة..
ولقد بقيت تلك الشعارات تكتسب بريقًا وتلميعًا شديدين لفترات طويلة كانت ستارًا لتدخلات النظام الدولي وتحديدًا أمريكا في كل بلاد العالم لتخريبها وتفكيك مجتمعاتها وصولًا إلى تفكيك الأسرة ثم تفكيك الإنسان ذاته وصولًا إلى بلاد منهكة مفككة لا تستطيع ممارسة أية مقاومة ولا تكتسب أية مناعة تمكنها من رفض ومواجهة الأطماع الاستعمارية والتحرر من سطوة النفوذ الدولي الذي يسرق مقدراتها ويفرض عليها نموذجه السياسي والاقتصادي والاجتماعي بما يمحق هويتها الوطنية وشخصيتها القومية أيًا تكن..
وقد بلغت تلك الشعارات ذروة لمعانها وبريقها في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بما أوقع كثيرين من الوطنيين والمخلصين من أبناء مجتمعات مختلفة في وهم إمكانية الاستعانة بالولايات المتحدة وبدول العالم الغربي الرأسمالي للتخلص من أنظمة بلادها المستبدة والفاسدة والمكروهة. فتعالت أصوات الليبراليين المنادين والمنتمين إلى النموذج السياسي والثقافي الغربي وعلا هيجانهم وتحديهم لكل مقومات بلادهم الأخلاقية وهوياتهم الثقافية مطالبين بالاندماج في مسيرة العولمة الرأسمالية باعتبارها سبيل الخلاص الوحيد..
ثم ما لبثت كل هذه الأوهام تتلاشى شيئا فشيئا مع وصول الواقع الشعبي العربي المقهور إلى ذروة غليانه ما أدى إلى انطلاق انتفاضات الربيع العربي التي تعرضت لكل أشكال الخداع من أصحاب تلك الشعارات الزائفة فما اكتفوا بالتخلي عنها بل حاربوا وخربوا كل دعوة للتغيير وكل انتفاضة للتحرر من أنظمة الفساد والاستبداد. وكانت لهم من الإمكانيات والامتدادات الكبيرة جدًا ما مكنهم من استغلال تلك الانتفاضات وتشويه صورتها بفرض واجهات مرتبطة عليها وإبعاد الوطنيين الشرفاء غير المرتبطين بالنفوذ الأجنبي وأدواته المحلية..
ولقد تجلى هذا الخداع مليًا في تعاملات قوى النظام الدولي مع ثورة الشعب السوري التي لم تستطع أن تبلور قيادة وطنية موحدة لها لأسباب كثيرة وفي مقدمتها تآمر أطراف النظام الدولي إياه عليها وعلى مسيرتها الوطنية المستقلة..
ثم جاءت عملية طوفان الأقصى وما تلاها من عدوان إجرامي صهيوني – غربي مستمر ومتصاعد على غزة وفلسطين وما يشهده من حرب تدمير ممنهج واقتلاع متعمد مقصود بما فيه من إبادة جماعية لم يشهد العالم مثيلًا لها..
فكانت حرب غزة بمثابة انتزاع ورقة التوت الأخيرة التي تستر جزءا يسيرا من عورات ذلك النظام الدولي بجميع قواه والغربية تحديدا..
فالغرب الاستعماري يمارس كل أشكال الكذب والخداع في مواقفه الكلامية التي تشير الى تلميحات بالحفاظ على المدنيين أو تقليل الإصابات في صفوفهم فيما المواقف العملية مستمرة في تغطية العدوان ومده بكل أسباب الدعم والقوة والاستمرار. وما كانت التعديلات الشكلية في الخطاب الأمريكي والغربي لتتم لولا الصمود الأسطوري لشعب غزة وفلسطين والتضحيات الهائلة التي ما يزال يقدمها من الأرواح والعمران مما حرك ضمائر قطاعات مهمة من أبناء شعوب العالم الغربي ذاته فانتفضت وتظاهرت مطالبة بوقف العدوان والمجازر وجرائم الحرب الصهيونية إلى أن وصلت حركات الاحتجاج إلى صفوف طلاب الجامعات الأميركية ثم الغربية والمستمرة إلى اليوم ..حتى باتت تشكل ظاهرة شعبية تحررية تتحدى هيمنة النظام الغربي الرأسمالي ذاته على العقول والإعلام والتوجيه الثقافي والاجتماعي مما يفتح بابا لبدء إطلاق حملات إنسانية شاملة للتخلص من تلك الهيمنة وأدواتها والوصول إلى تحرير العقول والحق والحقيقة من خبث ومكر وخداع المصالح المادية والزيف الفكري والثقافي. وتلك مسيرة طويلة تتطلب الكثير من المقومات والأدوات والإمكانيات..
إن تهديد الكونجرس الأمريكي لمؤسسة دولية ليس فقط عملًا إجراميًا لا إنسانيًا ولا أخلاقيًا بل يمثل ذروة استهتار النظام الدولي بالحد الأدنى من القيم الإنسانية التي تنص عليها مؤسساته الدولية التي صنعها هو ذات نفسه يوم أن كان متفوقاً منتصرًا مكابرًا..
أما الوجه الثاني لذلك التهديد فيجسد ذروة التبني الغربي للمشروع الصهيوني الاستعماري في فلسطين العربية باعتباره جزءًا أساسيًا من أطماعه في الوطن العربي وأداة له لتحقيق توسعه وقمعه لكل محاولة عربية للتحرر والتقدم. الأمر الذي يسفه ويسخف كل كلام في السلام أو التطبيع مع دولة الكيان الغاصب فليست هذه سوى تمرير حتمي للهيمنة الغربية التامة على كل بلاد العرب أيًا تكن طبيعة أنظمتهم السياسية. وحماية لكل أنظمة القهر والتبعية والفساد التي طال أوان تغييرها والخلاص منها وتعاظمت التضحيات الشعبية للانعتاق من نير استبدادها وتسلطها..
أما الوجوه الأخرى للنظام الدولي فقد انكشفت تمامًا خلفيات صراعاتها أو منافساتها المصلحية على حساب الشعوب والأمم المستضعفة المنهكة المحتلة.. فالصين تسابق الغرب الاستعماري في تمتين علاقاتها بدولة الكيان الصهيوني وتسريع استثماراتها فيها متخلية حتى عن أي موقف إنساني ولو نظرياً. أما روسيا التي تواجه الغرب في أوكرانيا إلا أنها تتكامل معه في بلادنا فتساهم بفعالية في حماية أنظمة القهر والتبعية كما هو الحال في سورية. وفيما تكتفي تركيا المسلمة بالتفرج على مجازر غزة العربية والكلام المعسول الخالي من المضمون الفعلي؛ تتمادى إيران في استغلال فلسطين لتعزيز مواقفها ومكتسباتها من التعاطي الأمريكي معها؛ مستمرة في جهود حثيثة لإحداث تغييرات ديمغرافية في بنية مجتمعات العرب والمشرق تحديدًا ومسح خصائصها الاجتماعية والثقافية وطمس هويتها الوطنية والقومية..
كل هذا والنظام الرسمي العربي غائب أو متخاذل أو متواطئ فيما الأخطار الوجودية تحيط به من كل صوب.. أمام هذا الواقع على كل الوطنيين المخلصين إدراك حتمية الاعتماد على الذات فقط في كل رغبة للتحرر والخلاص والإنقاذ. فلا بديل عن تنظيم صفوف القوة الشعبية وتنظيم كل جهد وطني وصولًا إلى توحيد قوى العمل الوطني صونًا لما تبقى من وجود وأملًا في إنقاذ العباد والبلاد. وما شعب سورية العربية العظيم إلا أحوج ما يكون إلى مثل هذا التوحيد.. وفلسطين أيضًا..
فهل ترتفع الإرادات الوطنية المخلصة والحرة والشريفة إلى مستوى هذه المسؤولية التاريخية فتتوحد لتثبت ذاتها وتحمي شعوبها من العبث والتخريب وتنقذ بلادها من القهر والاحتلال؟؟
هذا ما نطالب به ونسعى إليه جاهدين في كل عمل نقوم به..
لنظام العالمي الذي أنتجته الحرب العالمية الثانية بدأ يتهاوى و تنكشف عوراته يومياً، أسقطتها الحرب المتوحشة القذرة بفلسطين.غزة والدعم الغربي الأمريكي، كشفت مدى هذا الإنهيار بعد تدخلاتها بكل دول العالم بإسم القيم، تنهار أمام موقفها من هذه الحرب ومماهاة الإحتلال الصهيوني. على شعبنا الحر الشريف رفع إراداته الوطنية بتحمل مسؤولياته تجاه القهر والاحتلال .