الى قبورنا في المنافي ينضم مفكر سوري آخر , يرحل متأثرا بجراحه التي أصابتنا جميعا جراء المحنة الوطنية وهمجية نظام الأسد . وأنا على يقين أنه ما من سوري يموت الآن موتاً طبيعياً , فالكل يموتون متأثرين بالكارثة التي سببها الطاغية وزمرة الاوباش والوحوش والسفاحين وصاروا يعيشون عليها .
رحل جورج طرابيشي ( 1939 – 2016 ) بعد أن أنجز “مكتبة عصرية” كاملة فائقة التنوع والثراء والعمق ناهزت مائتي كتاب بين مؤلف ومترجم , ملأت فراغاً كبيراً في مشروع النهضة والحداثة العربية . وساهمت مساهمة أساسية فكرية وفلسفية في خلق وتعميق حركة الانفتاح على على الحضارة العالمية المعاصرة , والازدهار الثقافي والتنويري الأبرز في عصر العرب الحديث, اعني حقبة التحرر القومي والطموح للتقدم والوحدة بين خمسينيات القرن العشرين وسبعينياته .
إنه أحد قلة طليعية نقلت لنا أهم إنجازات علم النفس الفرويدي , وأحد قلة رائدة زودتنا بأروع الإنجازات المدرسة الوجودية فلسفة وأدبا, وهو أحد المفكرين الذين ترجموا لنا الفكر الفلسفي الهيغلي والماركسي , مثل الياس مرقص . كما إنه أحد المفكرين العرب الذين غاصوا عميقا في التراث العربي والإسلامي , وأعادوا قراءته ونقده وتقويمه وتمييز الحي من البالي فيه , وأعتقد أن مشروعه الذي اختتم به مسيرته ( نقد نقد العقل العربي ) سيبقى دائما جهدا نقديا له وزنه وأثره , وخاصة سجاله الحاد مع المفكر الراحل محمد عابد الجابري (نقد العقل العربي) الذي أفرد له كتابا كبيرا وجزءا من مشروعه السابق .
ومهما وجهت لأعمال الراحل من انتقادات موضوعية وخاصة الانتقادات التي نالت من دقة ترجماته , فإن جهده الكبير وعطاءه الوفير لا بد أن يحتمل الكثير من جوانب القصور أو الضغف, ولعلي أضيف اليها أنه قرأ التراث العربي قراءة اديولوجية ( ماركسية تحديدا) وهو منهج سبقه اليه كثيرون عرب وأوروبيون وأدى الى نفس النتائج تقريبا , ولكن أعمال طرابيشي في النهاية تحتفظ بقيمتها وأهميتها, وهي تضعه في مصاف المفكرين والادباء العروبيين المسيحيين الذين ساهموا بتحديث الثقافة والفكر العربيين في بداية عصر اليقظة , كاليازجية والبساتنة والمعالفة , وتضيفه أيضا الى قائمة المترجمين السريان الذين ساهموا مساهمة تاريخية رائدة في الحضارة الاسلامية الأولى بترجمة الفكر اليوناني والفارسي والعبري والهندي في القرون الثلاثة الاولى من تاريخنا الهجري .
نعم إن جورج طرابيشي أحد هؤلاء الذين تركوا بصمات واضحة على حضارة وتراث العرب وتاريخهم منذ القرن الثامن الميلادي وحتى القرن الحادي والعشرين , باعتبارهم جزءا من مجتمع متعدد المكونات , متفاعل لا تكاد تميز بينهم .
ومسيرة جورج الشخصية والنضالية لا تختلف أيضا عن مسيرته الفكرية والادبية , فهو وطني وعروبي يساري وثوري , بدأ حياته (بعثيا) ثم تحول تدريجيا الى الماركسية , ومع انه تبوأ منصبا في أول عهود البعث عام 1963 , فإنه سرعان ما طلق الحزب والنظام , ثم غادر سوريا في بداية السبعينات الى لبنان , ومنها الى فرنسا في بداية الثمانيات . ومكث في باريس حتى وفاته يوم أمس 16 مارس . أي أنه كان أحد أوائل المثقفين والاكاديميين السوريين الذين وجدوا منذ وقت مبكر في حقبة حافظ الاسد بيئة معادية للتفكير الرصين والنقد الجاد والتعبير الحر فحمل (عقله وقلمه ) وهاجروا الى أمكنة أقل وحشية وأكثر رحابة .
الرجل الذي ولد في حلب وعاش فيها وتعلم وبدأ مسيرته الفكرية حتى العقد الرابع من عمره , تميز بغزاره انتاجه وتفرغه الكامل للكتابة والبحث والقراءة فكان لا يضيع ساعة من وقته في غير اختصاصاته الجادة . كما تميز بتعدد مجالات ابداعه بين الادب والنقد والفن والفلسفة والترجمة والفكر والتاريخ علم الاجتماع دون أن ننسى السياسة بل والصحافة التي عمل فيها سنوات طويلة ( مسؤولا في مجلة الوحدة وكاتبا في صحيفة الحياة ) .
تعرفت عليه في حلب عام 1969 عندما تأسس ( نادي السينما ) وكان يشرف عليه جورج ويحرص على أن يدير حوارا بيننا وبينه بعد كل فيلم من الافلام الأجنبية المميزة ( للمخرجين الكبار جودار وفيلييني وبازوليني .. إلخ) ولا شك أنه عمق ثقافتنا النقدية وتذوقنا للغة السينمائية , وإن كان يجنح دائما لتحليل الافلام تحليلا ماركسيا أو فرويديا . وقد قلت له ذات مرة كأنك ترى في كل مخرج ماركس أو فرويد آخر ..؟ ولم يغضب بل رد عليّ : وهل هناك مخرج في هذا العصر لم يتأثر بماركس أو فرويد أو فرويد ..؟!
عدت والتقيت به في منتصف الثمانينات في باريس , وكان في ذروة عطائه واشتغاله وتفرغه , ولمست تماهيه التام مع الثقافة الفرنسية وحداثتها , فكانت فرنسا كما لاحظت قد أصبحت وطنه الفكري والذهني . ولكنه كان أيضا دائم التعبير عن الحنين الى سوريا وحلب , ودائم التعبير عن اعتزازه ببلاده الاصلية وبعروبته وظل في غربته قريبا على الدوام من التيارات العروبية التقدمية .
وداعا جورج طرابيشي أيها العملاق الحلبي السوري العربي العالمي : علما بارزا للتنوير والعقلانية والابداع .
ولزوجته الأديبة السورية السريانية المبدعة هنرييت عبودي صاحبة الملحمة الرائعة وداعا يا ماردين .. كل العزاء .
المصدر: صفحة محمد خليفة على الفيسبوك
17_03_ 2016