حلب.. وآل الأسد!

محمد خليفة

كان بين حافظ الاسد وحلب كراهية متبادلة. هذه حقيقة تاريخية لا يدركها الا الشهود على حقبته. لم يزرها وهو رئيس إلا مرة واحدة ليوم واحد في الشهور الأولى من حكمه طالباً منها المبايعة. وتعمقت الكراهية بعد الانتفاضة المزدوجة المسلحة والمدنية التي انطلقت منها ضد حكمه بدءاً من1976 واستمرت حتى 1982 وهزت عرشه بقوة. في 1983تشكل وفد كبير من وجهاء حلب وقصد الاسد وكان الغرض من الزيارة: إتمام مصالحة بين حلب والرئيس. ويروي لنا مصدر كان ضمن الوفد ان اللقاء استمر ساعات، سادته اجواء طيبة وبدا على أساريرالاسد الانفراج والانشراح وكان يضحك كثيراً. وقبل نهاية اللقاء بقليل استأذن المرحوم ظافر خيرالله نقيب المحامين الرئيس بطلب بسيط فأذن له, فرجاه ان يفرج عن المحامين والأطباء والمهندسين الحلبيين المعتقلين منذ عام 1980 لأنهم قادوا انتفاضة حلب المدنية والنقابات العلمية, وقال: يا سيادة الرئيس نريد لهذه المصالحة ان تكون طياً لصفحة الماضي, وبداية لمرحلة جديدة. يقول الراوي: ما إن سمع الاسد هذا (الطلب البسيط) حتى اعتدل في جلسته واكفهر وجهه وأخذ لسانه يرعد ويبرق ويقذف الحمم رافضاً الافراج عن الخونة أبداً.. ثم توقف هنيهة وجال ببصره على أعضاء الوفد الكبير يمنة ويسرة وقال لهم بخشونة: هل جئتم لتقنعوني ان ما حدث في حلب كان مؤامرة من الاخوان (المسلمين) فقط..؟؟! هل تريدون إقناعي ان الحلبية لا يكرهونني..؟ لا.. لا.. أصدق هذا.. كانت حلب كلها مشاركة في التمرد ضد النظام وفي هذا ما يكفي للتعبير عن عداء جماعي لي.
وفشل الاجتماع بعد ست ساعات من الانس والرياء والتزلف!!
العداء والكراهية بين الأسد وحلب واقع وحقيقة, لهما أسباب تاريخية وثقافية واجتماعية موغلة في الزمن. فالمدينة الكبيرة هي أكثر المدن السورية تمثيلاً للأصالة السورية والعراقة والثقافة الاسلامية والوطنية, وهي التي تمثل الهوية السورية الثقافية العروبية والاسلامية والوطنية ومنارة المسيحية السريانية التقليدية والحديثة في آن معاً, وهي كانت الأهم اقتصادياً وتجارياً على مدى قرون بحكم موقعها ودورها في التجارة العالمية اللذين قضي عليهما بعد شق قناة السويس 1868. وفي حلب لم يكن للطائفة العلوية وجود يذكر, باستثناء ما يروى عن خادمات البيوت اللواتي كن يبعن بيعاً من ذويهن لبيوتات البورجوازية فيها, وفي الغالب كن يتبنين ويمنحن اسماءها ويصبحن جزءاً من هذه العائلات, مما أورث بعض الاحقاد المفهومة.
في السنوات العشر الاولى من حكم الاسد تعرضت حلب لتهميش وتنكيل جماعي لا مثيل له ابداً في اي محافظة أخرى, ويمكنني أن استشهد بأرشيف القضاء السوري الذي يثبت أن (الأحكام العرفية) كانت سوطاً غليظاً يجلد الحلبية جميعاً بطريقة لم تعرفها بقية المحافظات, وكانت التعليمات للشرطة وأجهزة الاستخبارات والمحافظين المستوردين من خارجها ان يكونوا قساة لا يرحمون الحلبية لكسر أنوفهم. وهذا ما جرى بالفعل ويمكن للباحثين والشهود الأحياء الرجوع لتلك الفترة الرهيبة للتثبت مما أدعيه عن معرفة ومعايشة. ولعل ذلك التنكيل المميز والخاص الذي تعرضت له الشهباء هو ما جعلها السباقة للتمرد على النظام عدة سنوات متتالية كانت خلالها بقية المحافظات تنعم بالهدوء فيما عدا حماه. وبعد ان أخمدت انتفاضتها عام 1982 فرض الاسد على حلب عقوبات سرية فريدة بإفقارها وحرمانها من حصص التنمية, ويستطيع الجميع ان يلاحظ انه بين ذلك العام وحتى انفجار الثورة عام 2011 (30 سنة) لم ينجز مشروع واحد كبير ذو اعتبار في مدينة تعتبر قاعدة الاقتصاد السوري التجاري والصناعي والزراعي, ويبلغ تعدادها ستة ملايين نسمة, أي ربع اجمالي سكان سورية.
ولم أعجب قدر عجبي من افتراءات المتحاملين والجهلة الذين ادعوا في العام الاول من الثورة ان سبب تأخر حلب في الالتحاق بالثورة يعود لعلاقة الشراكة المالية والاقتصادية بين نظام الأسد وبورجوازيتها..!! عن أي شراكة تتحدثون يا ذباب الحقيقة الذي يطوف حولها ليلوثها..؟؟!
الكراهية والعداء بين بشار الاسد وعائلته وزمرته ومدينة حلب موروثة ومتوارثة ولها اسباب موضوعية ضاربة الجذور. هل تريدون دليلاً على ذلك أكثر مما يجري الآن في حلب..؟
التدمير الذي تتعرض له حلب الشهباء أقدم مدينة في العالم وأغناها بالتراث العالمي النادر إنما هو عمل ممنهج ومتعمد ومقصود.. يستهدف أثمن ما فيها من معالم حضارية وكنوز وآثار ومتاحف ومقومات وهوية ومعابد وأسواق ومصانع. ولا شك عندي أن ما تتعرض له المدينة حالياً حتى ولو تم بأيادي شبيحة الثورة وزعرانها وعصاباتها الوافدة إنما هو عمل منظم ومبرمج من قبل أخطبوط السلطة الأمنية التي اخترقت معظم تشكيلات المسلحين والجهاديين وحددت لهم أمر عمليات ينفذونه. لقد كان لانضمام حلب المتأخر للثورة انعكاسات حاسمة وفورية على النظام, وقلبت معادلات القوة على الارض, وكان لا بد من الانتقام منها بحقد طائفي واضح, وباعتراف منظمة ((هيومن رايتس ووتش)) في تقريرها الاخير الموثق من داخل المدينة عن القصف الجوي الذي لا يستهدف المسلحين ابداً بل يستهدف المدينة وسكانها حصراً. الغريب ان ((الاونيسكو)) ما زالت لا ترى ولا تسمع ولا تعلم شيئاً عما يجري وهي التي صنفت حلب بكاملها في قائمة التراث العالمي. ولم تكترث حتى الآن بسرقة المتاحف والآثار وتدمير الاسواق والمساجد التاريخية بالجملة!
وقبل ايام سمعت محللاً عسكرياً يقول: العمليات العسكرية للنظام في حمص ذات هدف استراتيجي لم يعد سراً. العمليات في دمشق وريفها هدفها حماية النظام من السقوط. في حوران ودرعا سببه وجود خزان الاحتياط العسكري وهدفه الحفاظ على عمق للعاصمة. أما في حلب فقال المحلل: لا هدف له.. سوى التدمير والقتل والانتقام من سكانها!!
رفعت الأقلام وجفت الصحف!

====
هذا المقال منشور في مجلة الشراع اللبنانية بتاريخ 10آيار/ مايو 2013

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى