قراءة في رواية: ناره. امبراطورية ورق

أحمد العربي

سميحة خريس: روائية اردنية مخضرمة تكتب منذ عقود، ولها روايات مميزة، قرأنا منها يحيى، و بابينوس.

نارة، رواية تعتمد أسلوب السرد بطريقة البوح الذاتي وبنفس واحد، دون تقطيع أو فصول.

تبدأ الرواية عبر مقدمتين إحداهما لنارة ذاتها حيث تتحدث أنها التقت بالكاتبة وطلبت منها كتابة قصتها. والثانية للكاتبة نفسها وكيف التزمت – بعد تردد – أن تكتب قصة الصحفية نارة، وعلى لسانها.

تبدأ الرواية حيث تتحدث نارة عن نفسها، نارة الصحفية التي تعمل في إحدى الصحف المحلية في الأردن، لغة السرد عندها متذمرة،  معاناة نارة كبيرة، لا ضابط في المكان أو الزمان لسرد نارة عن نفسها وحياتها، سوى ذاكرتها المتدفقة الممتلئة مواقف متنوعة اتجاه الحياة والأهل والعمل والسياسة والعالم كله، نارة رمز للفتاة المتمردة، لكن أغلب تمردها ينصب داخل نفسها، كالنار تأكل نفسها. نارة فتاة يتيمة توفيت والدتها بعد موتها بحمى النفاس،  وعاشت بحضانة جدها وعمها وزوجته، جدّها الذي كبر في العمر، وأصيب  في مرض الزهايمر،  وأصبح غريبا عن العالم والحياة، ذاكرة مفقودة، وحضور شبه معدوم، زوجة العم لم تنجب الأطفال، انها عقيم، في مكان سكناهم تتواجد جارتهم  ام صبحي وابنتها وداد، وكذلك جارهم الشاب موفق، نارة تكبر وفي نفسها احساس عميق باليتم، زوجة عمها لا يمكن أن تكون كأمها، كبرت نارة في الحي بوجود وداد وموفق، أدركت أن هناك علاقة خاصة بين موفق ووداد، وخلوة تحت درج البناء. نارة كانت تحس بوحدة مؤلمة، واجهتها باختلاق  شخصية من خيالها، أنه “حسن” تتعايش معه، تبادله المشاعر كحبيبين، تتبادل معه أفراحها  وأحزانها، كان حسن بديلا عن حب لم يأتها، وصداقة افتقدتها في الواقع. تعلمت نارة وكبرت وأصبحت صحفية، دخلت عالم الصحافة واطلعت على حقائقه  وأسراره. تعلمت أن رئيس التحرير يتصرف كحاكم بأمره، وأن هناك نماذج من الصحفيين “الأدوات”، اعطتهم ألقاب خاصة  لكل منهم، فهذا “سحلية” كنموذج عن الصحفي المتلون والمتكيف  حسب الحدث ومطالب رئيس التحرير، وكذلك “امرك سيدي” الذي يتقن تنفيذ الاوامر، و”الممحاة”…الخ، في الصحيفة اكتشفت ان هناك توجيهات عامة وسياسات متبعة، هي ما يفرض في فهم وقراءة الحدث او الموضوع المطروح، والحقائق تالية، واحيانا غير مطلوبة، ودائما غير مهمة، وقد تكون احيانا ضارة. كأن تتحدث بالسياسة وبما يخالف نهج السلطة الحاكمة، أو تنتقد واقعا اجتماعيا يزعج بعض الاطراف. تعرف نارة حدودها ولا تتجاوزها، ففي كثير من المرات كان مصير كتاباتها أو تحقيقاتها سلة المهملات، ومع التقريع ايضا، قد يوكل لها بعض الأعمال الهامشية، وقد توضع على الرف وكأنها غير موجودة، لكن نارة ممتلئة داخليا ونفسيا، وعندها في عالمها الجوّاني معرفة بحقائق الأمور، لكنها لا تملك شجاعة إعلان موقفها حول ماتعرف، خوفا من ثمن لا تود أن تدفعه. نارة غير مرتاحة في عيشها مع بيت عمها، الجد أُهمل ونقل إلى ملجأ البناء ويعيش حياة مشرد تقريبا، وهو مظلوم بذلك، هكذا أرادت زوجة العم، والعم مسيّر من زوجته، نارة تملك نصف المنزل يطلب منها عمها التنازل عنه له، وهي تعطيه له، تتطور العلاقة الجسدية بين وداد ابنة جيرانهم وموفق، تؤدي للحمل، والطفل يدعى أنه ابن زوجة العم، التي أنجبته بعد عقم، و نارة تكتشف ذلك حين ترى وداد ترضع الطفل، هناك تستر على واقعة الزنا بين وداد وموفق، ان وجود طفل للعم وزوجته، سيرث البيت التي تنازلت عنه نارة، لقد خسرت بيتها للابد، موفق يسافر إلى الخليج ويعود بعد سنين، ويطلب نارة زوجة، لكنها ترفضه، لمعرفتها بحقيقة علاقته بوداد. نارة تتابع ما يحصل في الأردن مطلع الألفية الجديدة، تواكب الانتخابات النيابية، الأقرب للمناسبات الاجتماعية، منها للاستحقاق السياسي، المرشحين وتجمعاتهم وولائمهم، المرأة المرشحة ونموذج الاستعراض الذي لا يعني الاقتراب من مشاكل الناس والنساء عموما، مجلس النواب فرصة لسيارة فارهة، ومنصب ومكاسب، أما الناس ومشاكلهم الحياتية فهي في واد آخر، وغيرها كثير. نارة تواكب ما يحصل في فلسطين، والدها كان قد ذهب لفلسطين ولم يعد، فلسطين جرح شخصي لديها، عايشت اجتياح مخيم جنين، والدبابات التي دمرت المخيم فوق رؤوس أهله، وكيف عجنت أجسادهم مع أنقاض المخيم، وكذلك قصف غزة. نارة عايشت الهجمات على برجي التجارة العالمي في أمريكا ٢٠٠١، وكيف تحول العالم كله نصيرا لأمريكا “الضحية”، وكيف يحج الناس إلى للسفارة الأمريكية لكي يضعوا الزهور على هيكل معد لبرجي  التجارة وضحاياه. أما ما يحصل في جنين وبعد ذلك وقبله في العراق، فهو خبر عادي ، وكيف وصلت امريكا لاحتلال العراق، تعايش نارة سقوط بغداد ٢٠٠٣، وما وصل إليه الوضع العربي من انتكاس وتراجع، والضحايا من الناس العاديين في كل مكان، نارة تعتاد أن تصمت عن كل الأخطاء المحيطة بها على المستوى الخاص والعام، البيت الذي تبنى لقيطا ليحرمها من حقها الشرعي في بيتها،  والزاني العائد من الخليج ممتلئا بالمال يتجرأ ويخطبها، وضحيته وداد بجواره وهو لا يهتم بها، و بتواطؤ من الكل واولهم عمها وزوجته، ادارة الصحيفة التي جمدت حركة نارة لدرجة جعلتها مهملة الوجود والفاعلية، والنفس التواقة للحب الذي لا يأتي، وحسن مجرد وهم اخترعته نارة ، تعويضا عن نقص بالتواصل النفسي والاجتماعي، حسن بديل وهمي للصديق والحبيب وكل المجتمع العدائي اتجاهها.

تنتهي الرواية عندما تعود نارة إلى البيت، وتنزل إلى الملجأ حيث جدّها، الذاهل  عن الدنيا، الذي أشعل نارا بالسجادة حيث يجلس، وبدأت تلتهم النار كل شيء، والجد، وتلقي نارة نفسها بالنار التي تأكل جدها وتأكلها.

في تحليل الرواية نقول: نجحت الرواية بنقل معاناة امرأة متمردة ، تواجه الحياة بعقل متسائل ناقد وثائر، ترفض ما تعيش في الحياة على مستواها الخاص، تدرك العيوب المجتمعية القاتلة، ترى حقائق العلاقات الاجتماعية المزيفة، والظلم المعمم، والعلاقة بين الحاكم والمحكوم ، ظلم و تبعية وطاعة، والنفاق، الصحافة وتزييف الحقائق، وتحويلها لخدمة السلطة أو مصالح الأقوى، والظلم على المستوى الدولي، جبروت امريكا واحتلال العراق، وسقوط بغداد، و الجرح الفلسطيني النازف دوما. لذلك كانت نهاية نارة بحرق نفسها في نار أكلت جدها المظلوم ، هي الحل.

الرواية تقول أن الحياة كرامة، وحرية، وحياة أفضل، وحقوق مصونة ، ومجتمع عادل، وعلاقات دولية لا مظلومة فيها.

عند ذلك الحياة تستحق أن تعاش.

١٢/٦/٢٠١٨

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى