مع تدهور العلاقات بين الولايات المتحدة والصين إلى أدنى مستوياتها في الـ50 سنة الماضية، طفت على السطح قصة أطفال قديمة مفادها أنه يكفي لأميركا أن تتحدث أكثر مع الصين كي يعيش البلدان في سلام. وتمضي القصة لتحكي أنه مع زيادة لقاءات القمم بينهما، قد تتعرف واشنطن إلى الخطوط الحمر لبكين، وتعيد نسج الخطوط الساخنة بين البلدين وكذلك الحال بالنسبة إلى التبادلات الثقافية بينهما. ومع مرور الزمن وعبر تجمع النقاط المتأتية من اللقاءات المباشرة، بالأحرى الانخراط [بين الطرفين]، قد ترتضي الدولتان بتعايش سلمي بينهما، مع استمرارهما في الخصومة. ويحاجج بعض المحللين بأن التحادث بشكل كاف بينهما، قد تبرم واشنطن وبكين صفقة كبرى ترسي فضاءات مستقرة ومحددة من النفوذ، تغدو كأنها الجيل الثاني من الحلول للمسائل العالمية على غرار الأوبئة والتغير المناخي.
ضمن ذلك المنظور، لا تنتج الوضعية المتردية للعلاقات الأميركية – الصينية من التصادم المحتم حول المصالح الحيوية بين قوتين كبيرتين تملكان أيديولوجيتين متضادتين. بالأحرى، ينجم التردي عن التباس بين شريكين، وقد تضخم إلى أقصى حد بسبب رد فعل الأميركي مفرط الحساسية يسعى إلى مواجهة تمدد نفوذ الصين، وفق رأي صاغته الاختصاصية في شؤون الصين والمساعدة السابقة لنائب وزير الخارجية سوزان شيرك. وبحسب هذا الضرب من التفكير، لم تفعل الصين خلال العقدين الأخيرين سوى ما تفعله ببساطة، بمعنى عرض عضلاتها والمطالبة بسهم أكبر من المشاركة في الشؤون الدولية. وعلى رغم قلق دعاة إعادة الانخراط [مع بكين] حيال مجموعة من النشاطات الصينية على غرار تهديدها تايوان، فإنهم يصبون سهام نقدهم على الولايات المتحدة، خصوصاً سعيها الدؤوب المستمر إلى الاحتفاظ بأولوية التفوق، إضافة إلى انتقاداتهم أطرافاً فاعلة كثيرة تساند أميركا خدمة لمصالحها الخاصة.
في ظل تلك الصورة القاتمة، تعمل مجموعات من السياسيين الاستعراضيين، ونشطاء المناخ الفائضي الحماسة والسياسيين المتطرفين، على تأجيج نار الخصومة خدمة لمصلحتهم، مما يؤدي إلى تشكل نوع من “غرفة الصدى” تستبعد الآراء المغايرة. وبصورة مفترضة، يعمد البعض إلى تكرار سرديات المتطرفين بغية حماية حياتهم المهنية. وبالتالي، تكون النتيجة، وفق رأي الصحافي والكاتب فريد زكريا، “استسلام واشنطن لتفكير جماعي خطر في شأن الصين”. وكذلك فإن حقيقة أن معظم الأميركيين يتبنون أيضاً آراء متطرفة حيال الصين، تقدم مثلاً آخر عن مدى العدائية واللاعقلانية الذي بلغته السياسة الأميركية. وبحسب ما يشدد عليه المؤرخ ماكس بوت، “ليست المسألة اليوم أن الأميركيين ليسوا قلقين بشكل كاف بصدد صعود الصين. لقد غدت المسألة أنهم باتوا ضحية هستيريا وعقلية مستنفرة قد تقود الولايات المتحدة إلى حرب نووية لا جدوى منها”.
بالنسبة إلى دعاة إعادة الانخراط مع الصين، ثمة حل مباشر لهذه الدائرة من العدائية. يجب أولاً تبديد التوترات عبر دبلوماسية نشطة وتجارة وتبدلات بين الناس. ويلي ذلك تكوين منتدى جديد يتلاقى فيه رسميون من البلدين للتوصل إلى اتفاقات. ووفق المؤرخ آدم تووز، فبغض النظر عن بنية المفاوضات، يبقى الموضوع الرئيس نفسه متمثلاً بـ”التأقلم مع الصعود التاريخي للصين”. وبالنسبة إلى بعض مناصري إعادة الانخراط، لا تستلزم إعادة الانخراط سوى خفض العوائق التجارية مع الصين، وتلك خطوة اقترحتها وزيرة الخزانة جانيت يلين في وقت مبكر من هذه السنة. في المقابل، يفضل مراقبون آخرون تنازلات أكثر جذرية. ومثلاً، ناقش عالم السياسة غراهام آليسون على هذه الصفحات [مجلة فورين أفيرز] وجوب أن تقبل الولايات المتحدة بالفضاء التقليدي للنفوذ الصيني في آسيا. وبداهة، يعني ذلك إعطاء بكين حرية أكبر في بحر الصين الجنوبي، والتخلي عن تايوان وتقليص القوة الأميركية في تلك المنطقة.
تشكل المعطيات السابقة رؤية مثيرة. وبالتأكيد، يغدو العالم أفضل إذا سوت القوى الكبرى الأمور في ما بينها عبر الدبلوماسية بأكثر من الإصرار على التنازع الأمني، لكن، يوحي تاريخ التنافس بين القوى الكبرى، خصوصاً العلاقات بين الولايات المتحدة والصين، بأن زيادة الانخراط لا ترجح أن تصلح العلاقات بين الدولتين، وكذلك فإن الاستعجال في تنفيذه قد يشكل عنصراً في تغذية صراعات عنيفة. وضمن ما يفوق 20 صراعاً تخاصمياً شهدتها السنوات الـ200 الأخيرة، لم ينته أي صراع بمحادثات بين الجانبين عن كيفية خروجهما من الورطة بينهما. وبدلاً من ذلك، ثابر الخصمان على الصراع إلى أن يصل أحدهما إلى وضع لا يعود فيه قادراً على القتال، أو أن يتحد الطرفان ضد عدو مشترك. مثلاً، أوقفت أميركا والصين الخصومة بينهما كي يتحالفا ضد الاتحاد السوفياتي خلال النصف الأخير من “الحرب الباردة”، ولم ينته ذلك الصراع إلا حينما هرول الاتحاد السوفياتي صوب انحداره النهائي. في الحالات كلها، شكلت التبدلات في موازين القوى شروطاً مسبقة للتسويات المستدامة. قبل تلك التبدلات، لم تكن فترات الوفاق في العادة، سوى مجموعة فرص لإعادة التنظيم والتجهز لخوض الجولة التالية من التنازع. وأحياناً، على غرار ما حدث حينما فكرت المملكة المتحدة في تحسين علاقتها مع ألمانيا بين عامي 1911 و1914 ثم مرة أخرى في 1938، مهد الوفاق الطريق أمام الحرب.
من غير المرجح أن تعيد الصين والولايات المتحدة هذا النمط [الوفاق ثم الحرب]، إذ تتعارض مصالحهما الحيوية معه لأنها منغرسة بعمق في نظاميهما السياسيين وجغرافيتهما وخبرتيهما الوطنيتين. ثمة مجموعة من العلاقات التي تربط البلدين ببعضهما بعضاً، كالتجارة الواسعة والكثيفة بينهما، لكنها تباعد بينهما في الوقت نفسه لأنها تعطي صناع السياسة أسباباً إضافية للصراع، وتشكل نقاط ضغط قابلة للاستغلال سياسياً. لا يستطيع أي من الطرفين تقديم تنازلات رئيسة من دون تعريض نفسه للانكشاف. وبعد عقود من التعامل بينهما، راكمت الحكومتان قوائم طويلة من الشكايات وتنظران إلى بعضهما بعضاً بريبة عميقة. لقد حاولت الولايات المتحدة العمل مع الصين بشكل متكرر في حقبتي السبعينيات من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحالي. في المقابل، نظر القادة الصينيون بشكل دائم إلى تقرب أميركا، خصوصاً المحاولة الأميركية لإدماج الصين ضمن نظام عالمي ليبرالي تقوده الولايات المتحدة، بأنها خطة مصممة بهدف إضعاف قبضة الحزب الشيوعي الصيني وتقييد الصين بالاعتماد الاقتصادي والتبعية للغرب. حدث التقرب الأميركي من الصين في تلك الفترات بصورة أشد توسعاً وكثافة من المقترحات الجدية التي يتقدم بها صناع السياسة اليوم. على رغم ذلك، أخفقت تلك المبادرات في إحداث تغيير جذري في التقييم الصيني للنوايا الأميركية أو إفشال جهود الحزب الشيوعي الصيني في الهيمنة على شرق آسيا وما بعدها.
تبقى الحقيقة متمثلة في ترجيح عدم ميل الخصومة الأميركية الصينية إلى التخافت، من دون حدوث تبدل جذري في ميزان القوى بينهما، إذ تحتاج الولايات المتحدة إلى بلورة خيارات سياسية مستندة إلى تلك الحقيقة، وعدم البقاء أسيرة للخيالات الوهمية. في المقابل، لا يعني ذلك قطع العلاقات الدبلوماسية أو غلق الباب كلياً أمام الحوار، بل الحفاظ على نظرة واقعية في شأن نوع الانخراط الذي يمكن تحقيقه بصورة واقعية. ثمة أسباب للتفاؤل على المدى المتوسط بتليين موقف السلطة الصينية التي قد تفسح في المجال أمام اختراقات دبلوماسية فعلية. واستدراكاً، يستلزم الوصول إلى تلك النقطة أن تعمل الولايات المتحدة مع حلفائها على ردع العدوانية الصينية على المدى القصير، وتجنب تقديم تنازلات قد تحدث اضطراباً في المسارات المتوخاة على المدى الطويل.
إرث دام وسيئ
لقد دخلت الصين والولايات المتحدة ضمن ما يسميه علماء السياسة “الخصومة المستمرة”، بمعنى أنهما اختارتا بعضهما بعضاً كطرفين في منازعة أمنية كثيفة. خلال القرون القليلة الماضية، لم يشكل ذلك الترادف المزدوج إلا واحداً في المئة من العلاقات العالمية لكنها حضرت في أكثر من 80 في المئة من الحروب. لنفكر في التصادمات المستمرة بين الهند وباكستان، واليونان وتركيا، والصين واليابان، وفرنسا والمملكة المتحدة.
لا تشتعل المنافسات بين طرفين لأنهما لمجرد أنهما يثقان ببعضهما بعضاً، بل يضاف إلى ذلك أن كلاً منهما يعرف الآخر جيداً. ويملك الطرفان صراعات أصيلة تتصل بمصالحهما الحيوية وغير القابلة للتجزئة، إذ يشمل ذلك في العادة النزاعات الإقليمية والحدودية التي تشكل السبب الرئيس للحروب. وكذلك تتداخل الخطوط الحمراء لدى الطرفين بمثل تقاطع فضاءات نفوذهما. وإذا حاول طرف منهما حماية نفسه بإجراء مثل تحديث الجيش، فسيشعر الآخر بأنه مهدد بشكل بديهي. وإذا تشابك اقتصادهما، وذلك ما يحدث غالباً، فسيستعمل الطرفان التجارة سلاحاً، ويسعى إلى احتكار إنتاج السلع الاستراتيجية والهيمنة عليها، على حساب الطرف الآخر. ومثلاً، اشتعل الصراع التجاري بصورة شرسة بين المملكة المتحدة وألمانيا قبل أن تتبادلا الضربات في الحرب العالمية الأولى.
في الإطار نفسه، يتبنى الخصمان [المنخرطان في تبار متبادل بينهما] أيديولوجيات متباعدة ويرى كل منهما نجاح نظام قيم الطرف الآخر، أو انتشاره، خطراً هداماً لطريقته في العيش والحياة. ومثلاً، لم تكتف فرنسا الثورية بهزيمة خصومها الأوروبيين، بل هددت بإطاحة النظم الملكية بقوة نموذجها. وفي سياق اشتعال الحرب العالمية الثانية، تواجهت قوى الفاشية مع النظم الديمقراطية، وفي “الحرب الباردة”، قسمت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي الشطر الأكبر من العالم، بين الكتلتين الرأسمالية والشيوعية. أكثر من ذلك، يتقاسم الخصمان من ذلك النوع، إرثاً تاريخياً دامياً. وتتغذى عدائيتهما المشتركة حيال بعضها بعضاً، بأفعال عدائية من الماضي مع مخاوف من أن يأتي مزيد منها. يكفي أن تسأل الصينيين اليوم عمَّ يشعرون به حيال اليابان.
يصعب إنهاء ذلك النوع من الخصومة “المزدوجة” المتبادلة. وبحسب بيانات جمعها علماء السياسة مايكل كولارسي وكارين راسلر وويليام تومبسون، شهد العالم 27 تنافساً من هذا النوع بين قوى كبرى، منذ عام 1816 [أي منذ نهاية الحروب الإمبراطورية لنابليون بونابرت]. استمرت تلك الصراعات أكثر من 50 سنة كمعدل وسطي، واختتمت بواحدة من ثلاثة طرق. ووفقاً لملاحظاتي، وصل 19 صراعاً منها، ما يمثل غالبيتها العظمى، إلى حروب انتهت باستسلام أحد الطرفين. وآلت ستة صراعات إلى تحالف بين الطرفين لمواجهة عدو مشترك. ومثلاً، في مطالع القرن العشرين، نحت المملكة المتحدة خلافاتها مع فرنسا وروسيا والولايات المتحدة بغية التآزر ضد ألمانيا، وقد نجم عن ذلك الحرب العالمية الأولى. وأخيراً، هنالك “الحرب الباردة”. وحينما انهار الاتحاد السوفياتي، أنهت الولايات المتحدة والصين خصومتيهما معه بصورة سلمية، على رغم أن روسيا أججت حرباً حدودية صغيرة مع الصين وعدداً كبيراً من الحروب بالوكالة مع واشنطن في أنحاء متفرقة من العالم. وحاضراً، تخشى شعوب كثيرة اندلاع حرب باردة بين الصين والولايات المتحدة، لكن من الناحية التاريخية، فإن مثل تلك المواجهة المتوترة شكلت أفضل المخارج الممكنة لأنها تجنب اندلاع قتال واسع النطاق.
وحيال هذا السجل، قد يرد مناصرو زيادة انخراط الولايات المتحدة مع الصين، بأنهم لا يسعون إلى نهاية مباشرة للخصومة بين الولايات المتحدة والصين، بل إلى تحقيق مجرد وفاق بينهما، بمعنى إحداث فترة من التبريد للتوترات تتيح للجانبين وضع دروع واقية على علاقتهما. لم تدم مثل تلك الفترات إلا نادراً، حتى في ظل ظروف مناسبة لها. تجسدت الحالة الأكثر نجاحاً في “الائتلاف الأوروبي”، أي ذلك التحالف بين الملكيات الذي أرسي بعد الحروب النابليونية بهدف تحطيم الثورات الليبرالية. وقد امتلك ذلك الائتلاف كل المكونات اللازمة لوفاق مديد، وشمل ذلك وجود أيديولوجية مشتركة، وعدو مشترك وشراكات نسجت أثناء الحرب، لكن، توقف قادة “الائتلاف الأوروبي” عن اللقاءات بعد عام 1822، مكتفين بإرسال مبعوثين من رتب متدنية. ومع حلول ثلاثينيات القرن التاسع عشر، تخلخل الائتلاف بحرب باردة بين أعضائه الليبراليين والمحافظين. استمر الائتلاف في العمل بفاعلية حينما تلاقت المصالح العميقة لأعضائه، لكن حينما تمزق التوافق المحافظ، انهار الائتلاف، مما أدى إلى اشتعال حرب ساخنة في شبه جزيرة القرم في عام 1853. يظهر هذا الفشل نقطة أوسع بأن الدروع الواقية تنجم غالباً عن السلام، لكنها لا تشكل وسيلة فاعلة في الحفاظ عليه. وغالباً ما ترفع تلك الدروع في الأوقات الطيبة أو تلك التي تلي الأزمات مباشرة، حينما تتدنى الحاجة إليها، لكنها سرعان ما تتحطم في الأزمنة الصعبة. لقد نصبت الدروع الواقية الأكثر تعقيداً في التاريخ، بعد الحرب العالمية الأولى، بما في ذلك “حلف كيلوغ برايند” الذي حظر الحروب قانونياً، و”عصبة الأمم” التي مثلت منظمة رسمية للأمن الجماعي. وقد فشلا في منع الحرب العالمية الثانية. [جاءت تسمية حلف كيلوغ برايند من اسمي المفاوضين اللذين صاغاه وهما وزير الخارجية الأميركي فرانك كيلوغ ونظيره الفرنسي أرستيد برايند. وعرف أيضاً باسم حلف باريس].
كذلك يصنف دعاة تعميق انخراط واشنطن مع بكين، السعي إلى الوفاق بأنه خال من الأخطار بمعنى أنه قد يفشل لكنه لن يضر ويستحق أن يجرب، لكن، حينما تشتد الصراعات على المصالح بين الخصوم على نحو حاد، فإن المساعي المفرطة في توقها إلى الوفاق قد تزعزع الاستقرار، إذ أسهم الوفاق الأنغلو – ألماني بين عامي 1911 و1914 في اندلاع الحرب العالمية الأولى عبر تغذية آمال ألمانية زائفة بأن المملكة المتحدة ستبقى على الحياد إذا اندلعت حرب في القارة الأوروبية. وبين عامي 1921 و1922، استضافت أميركا لقاء بين القوى البحرية الأضخم في العالم للنقاش عن نزع الأسلحة في “مؤتمر واشنطن البحري”. وبالنتيجة، أدى المؤتمر إلى نتيجة عكسية وقرب آسيا من الحرب العالمية الثانية، لأن الولايات المتحدة شددت على أنها ستعارض التمدد الياباني لكنها لن تبني القوة البحرية اللازمة لحظر ذلك التمدد. وقد أعطت “معاهدة ميونيخ” في عام 1938 لألمانيا الإذن بضم جزء من تشيكوسلوفاكيا مما مكن النازيين من غزو بولندا في السنة التالية. في عام 1972، أعلنت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي التزامهما سياسة “التعايش السلمي” ووقعا اتفاقين عن التبادل التجاري والحد من التسلح. في السنة التالية، شرع ذلك الوفاق في التفكك مع المواجهات بين الطرفين في “حرب يوم كيبور” [حرب السادس من أكتوبر 1973] التي تلتها حرب بالوكالة في أنغولا 1975، والغزو السوفياتي لأفغانستان 1979 ومجموعة من الأزمات النووية في مطالع الثمانينيات من القرن العشرين. وعلى غرار ما يحصل غالباً، فهم كل طرف الوفاق بطريقة مختلفة عن خصمه، إذ فكر الأميركيون أنهم جمدوا الأمر الواقع، فيما اعتقد السوفيات أنه جرى الاعتراف بهم كقوة عظمى مع كل ما يرافق ذلك من امتيازات، بما في ذلك الحق في نشر الثورة. وإذ كشفت مجريات الحوادث ذلك التضارب في التفسيرات، عادت الخصومة الأميركية – السوفياتية بصخب مرتفع.
ويستخلص من ذلك أن الخصومات بين القوى العظمى لا يمكن ترجمتها على الورق عبر مذكرات تفاهم. ثمة ضرورة للدبلوماسية لكنها لا تكفي لحل النزاعات بطرق غير عنيفة. كذلك تتطلب التسويات المستدامة وجود توازن مستقر في ميزان القوى، ولا يحدث ذلك عبر الحوار المتفائل بل حينما يدرك أحد الخصمين أنه لم يعد بمكنته الاستمرار في التنافس.
تفاقم الكراهيات
حاضراً، تشوب العلاقة بين الولايات المتحدة والصين كل التعقيدات التي تتسم بها الخصومة الدائمة. كبداية، تتصف القضايا الرئيسة المتنازع عليها بين البلدين بأنها شؤون لا تحتمل سوى الربح أو الخسارة، فقد تحكم تايوان من بكين أو تايبيه لكن ليس من الاثنين معاً. وكذلك قد تغدو شرق الصين وبحر الصين الجنوبي مياهاً دولية أو بحيرة تهيمن عليها الصين. ومن المستطاع دحر روسيا أو دعمها. من الممكن ترويج الديمقراطية أو تركها لشأنها. يمكن جعل الإنترنت مفتوحة أو فرض رقابة الدولة عليها. بالنسبة إلى الولايات المتحدة، تمثل سلسلة تحالفاتها في شرق آسيا ضمانة حيوية لها وقوة مهمة في الاستقرار، لكنها تبدو بالنسبة إلى الصين كطوق من العداوات. كيف يمكن التعامل مع المناخ؟ من أين جاء فيروس “كوفيد-19″؟ إذا طرحت هذا السؤال في واشنطن وبكين، فستحصل على إجابات متناقضة تماماً.
في مدى أعمق، يتمسك الخصمان [أميركا والصين] برؤى متباينة في شأن النظام الدولي. ويرغب الحزب الشيوعي الصيني في عالم تمتلك فيه الحضارات الأوتوقراطية القديمة، وفق نظرته لها، بالحرية في التحكم بفضاءات نفوذها التقليدية. على العكس من ذلك، تريد الولايات المتحدة رمي تلك الفضاءات في مزبلة التاريخ عبر حماية سيادة البلدان الأضعف وإدماجها ضمن نظام تجارة حرة ومفتوح. إن الخصومة الأميركية – الصينية تزيد على كونها مجموعة من الخلافات الدبلوماسية، بالأحرى إنها صراع لنشر طرق مختلفة من العيش والحياة.
في سياق متصل، تتفاقم صعوبة الأمور مع ملاحظة أن أياً من الخصمين لا يستطيع طمأنة الآخر بشكل موثوق، من دون أن يفقد شيئاً من صدقيته. ويدعو مناصرو إعادة الانخراط، الولايات المتحدة والصين إلى احترام الخطوط الحمراء لكل منهما. في المقابل، قد يتطلب تحريك الجمود في العلاقات بينهما أن يتخلى أحد الطرفين عن مجموعة من الخطوط الحمراء لديه، إذ ترغب الصين في أن توقف الولايات المتحدة مبيعات الأسلحة إلى تايوان، وإجراء خفض كبير في إجمالي الوجود العسكري الأميركي في شرق آسيا، وتشارك التكنولوجيا الأميركية مع الشركات الصينية، وإعادة فتح السوق الأميركية أمام فيوض الصادرات الصينية، ووقف تعزيز الديمقراطية في الدول المجاورة للصين، وإفساح المجال أمام روسيا كي تكسب الحرب في أوكرانيا. في المقابل، تريد الولايات المتحدة أن تخفض الصين إنفاقها العسكري إلى مستوياته السابقة، وتنأى بنفسها عن العدوانية في مضيق تايوان، وتضبط الدعم الحكومي للصناعات وتوقف التجسس الصناعي، وتسحب دعمها لروسيا وغيرها من الدول الأوتوقراطية.
ويضاف إلى تلك الأمور أن لا طرف يستطيع أن يقدم ضمانات لتلك التنازلات من دون تمكين الآخر من المطالبة بمزيد منها. ومثلاً، إذا تراجعت الصين عسكرياً في تايوان، فقد تسير الجزيرة نحو الاستقلال، في المقابل، إذا أنهت الولايات المتحدة تسليح تايوان، فسيميل ميزان القوى العسكري بشكل كبير لمصلحة بكين. إذا أتاحت الصين خسارة روسيا في أوكرانيا، فقد يواجه الحزب الشيوعي الصيني وضعية تترنح فيها قوة نووية كبرى بجوار حدوده فيما ستنتقل أميركا المنتصرة إلى التركيز على آسيا، لكن إذا أفسحت الولايات المتحدة المجال أمام انتصار روسيا فقد يتجرأ المحور الصيني – الروسي على ابتلاع مزيد من المناطق كجزيرة تايوان أو دول بحر البلطيق، وانتزاعها من يد الغرب المحبط. إذا تخلت الصين عن سياساتها في التصنيع، فلسوف يتراجع تفوقها التقني باطراد لمصلحة الولايات المتحدة، لكن واشنطن لن تلتزم بانفلات عقلية الصين في ربح السوق من دون المخاطرة بتجويف الاقتصاد الأميركي وما تبقى من نظام التجارة العالمي. إذا أوقف الحزب الشيوعي الصيني دعم النظم الأوتوقراطية الاستبدادية، فسيخاطر باندلاع موجات من الثورات الشعبية على غرار ما حدث في 1989 ومطالع القرن الحادي والعشرين، التي قد تحفز نشطاء ليبراليين داخل الصين بالترافق مع ظهور أنظمة خارجها تكون ميالة إلى فرض عقوبات على الصين بسبب سجلها في حقوق الإنسان. إذا توقفت الولايات المتحدة عن مساعدة تلك الديمقراطيات الصاعدة الجديدة، فقد تختفي خلف ستار حديدي رقمي في بكين. [في الحرب الباردة، أطلق تعبير الستار الحديدي للإشارة إلى ضوابط استراتيجية صارمة فصلت دول الكتلة الاشتراكية عن العالم الرأسمالي].
استطراداً، من الصعب إيجاد حلول متبادلة لتلك المصالح المتصارعة، عبر مفاوضات دبلوماسية، لأنها منغرسة في صلب النظام السياسي للبلدين، وكذلك في تاريخ ذاكرتيهما وجغرافيتهما، إذ تضرب الثقافة السياسية الصينية جذورها في حدثين كارثيين هما “قرن الإذلال” (الذي امتد بين عامي 1839 و1949)، حينما تقاسمت القوى الإمبريالية الصين، وثورات عام 1989 التي أطاحت الاتحاد السوفياتي والنظم الشيوعية الأخرى، وكادت تنهي الصين. وثمة دافع رئيس لدى الحزب الشيوعي الصيني يتمثل في عدم السماح بأن يعاد تقسيم الصين أو التنمر عليها، ويتطلب تحقيق ذلك الهدف، وفق اعتقاد قادة الصين، مراكمة الثروة والقوة بصورة مستمرة، وتوسيع السيطرة الإقليمية، والإمساك بالسلطة بقبضة حديدية. وباعتبارها قوة اقتصادية دخلت عهد الازدهار بشكل متأخر، يجب على الصين استعمال الأساليب التجارية الزبائنية [بمعنى التركيز على الأرباح والتوسع في الأسواق، بغض النظر عن القيم والتوجهات السياسية]، كي ترتقي في سلاسل توليد القيمة عالمياً التي اعتاد الغرب على احتكارها. ومع وجود 19 دولة على حدود الصين، بعضها معاد لها والآخر غير مستقر، يعتقد قادة بكين أنهم ملزمون بصنع خط دفاع أمني واسع حول بلادهم يشمل تايوان وأجزاء من الهند ومعظم بحري الصين الشرقي والجنوبي اللذين تجري عبرهما 90 في المئة من تجارة الصين ومعظم إمدادات النفط. وكذلك يشكل التوسع حافزاً سياسياً، إذ يبرر الحزب الشيوعي الصيني حكمه الأوتوقراطي جزئياً، عبر استعادة المناطق التي فقدت خلال قرن الإذلال. وبالتالي، فإن إزالة الأسلحة من تلك المناطق الآن قد تعني التخلي عن المهمة الإلزامية للحزب الشيوعي الصيني بجعل الصين موحدة مرة أخرى، بالتالي، تقليص قدرته [الحزب] على استعمال النزعة الوطنية المعادية للأجانب كمصدر لشرعيته.
في ملمح مقابل، قد تكون المصالح الأميركية أقل قساوة لكنها تمتلك من الصلابة ما يكفي لعدم التخلي عنها من دون صراع. وبوصفها ديمقراطية غنية محاطة بحلفاء ومحيطات، تميل الولايات المتحدة إلى إبقاء الأشياء على حالها. ويتمثل الهدف الرئيس لسياستها الخارجية في منع التهديدات الخارجية من إفساد ما ينعم به مواطنوها من حرية وثروات. يرغب أميركيون كثيرون في تجنب التشابكات مع الخارج، لكن الحربين العالميتين والحرب الباردة أثبتت أن الطغاة الأقوياء يجب أن يصار إلى احتوائهم، بل إن ذلك ممكن أيضاً. واستطراداً، يفضل أن يفعل ذلك في وقت مبكر عبر الحفاظ على تحالفات قوية في أوقات السلم، وقبل أن يسيطر بلد عدواني على جواره. وفي النهاية، قد ينسى الأميركيون ذلك الدرس مع وفاة الأجيال التي ربحت الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة. وفي الوقت الراهن، يستمر ذلك التوجه [حيال الطغاة الخارجيين] في رسم السياسة الخارجية الأميركية، خصوصاً حيال الصين. حينما يلاحظ صناع السياسة الأميركية أن الصين تحاول إعادة رسم الخريطة في شرق آسيا، وتدعم الغزو الروسي لأوكرانيا أو تدخل الأقليات في معسكرات اعتقال، فإنهم ينظرون إلى ذلك بوصفه سلسلة من الخروج عن اتفاقات السياسة إضافة إلى كونه اعتداء متعدد الأبعاد على النظام الذي يستند إليه أمن الولايات المتحدة والرخاء في الأجيال المقبلة. ومع وجود تلك الرهانات الشديدة الارتفاع ظاهرياً، يغدو التوصل إلى تسوية من الأمور التي يستصعبها القادة على الجانبين.
في ملمح متصل، يشير أنصار إعادة الانخراط، وبصورة صحيحة إلى أن الصين والولايات المتحدة تربط بينهما أنواع عدة من نقاط الانكشاف والهشاشة، إذ لا يرغب البلدان كلاهما في الحرب، أو انفلات التغير المناخي والأوبئة أو حدوث ركود عالمي. وقد بات اقتصاد الطرفين كليهما متشابكاً ومتداخلاً مع الآخر. وتملك الحكومتان الأميركية والصينية كلتاهما ترسانة من الأسلحة النووية وترغبان في منع بلدان أخرى من امتلاكها. ومع الكلف المهولة الكامنة للصراع، إضافة إلى المنافع البينة للتعاون، يغدو من السهولة بمكان، نظرياً في الأقل، الحفاظ على السلام.
ومن الناحية العملية، قد تتفاقم الخصومة على وقع الانكشاف والهشاشة المتبادلين. ومثلاً، إن البلدين كليهما منخرط في استفزازات عسكرية تقليدية، ربما في ظل افتراض أن الطرف الآخر لن يخاطر أبداً باستخدام متبادل للسلاح النووي في رده على استفزاز بسلاح تقليدي من الطرف الآخر. ويسمي الأكاديميون تلك الوضعية بأنها “الإشكالية المتناقضة للاستقرار”، بمعنى أن الإيمان الزائد بأن الردع النووي يزيد إمكانية اندلاع الحروب التقليدية، إذ يحاجج بعض المحللين الصينيين بأن “جيش التحرير الشعبي” قد يدمر قواعد الولايات المتحدة في شرق آسيا فيما ستنهض القوات النووية الصينية بمهمة ردع الولايات المتحدة عن الرد عبر استهداف أهداف في الأراضي الصينية. في الوقت نفسه يناصر بعضاً من تحطيم الأسطول الصيني وقواعد قواتها الجوية خلال وقت مبكر من الصراع، مع قناعتهم بأن التفوق النووي للولايات المتحدة سيرغم الصين على التوقف كبديل من التصعيد. إذاً، بدلاً من أن تفيد الأسلحة النووية في إنهاء التوترات، فإنها قد تعمل على تأجيجها.
ينطبق وصف مماثل على الاعتماد المتبادل في الاقتصاد. ووفق ما لاحظ المختص في العلاقات العالمية دايل كوبلاند على صفحات مجلة “فورين أفيرز”، حينما يصبح شركاء تجاريون خصوماً في الجغرافيا السياسية، فسرعان ما تظهر لديهم مخاوف من انقطاعهم عن السلع الحيوية والأسواق وطرق التجارة. وبغية سد ثغرة الانكشاف هذه، فإنهم يسارعون إلى الانخراط في مساع محمومة للاعتماد على الذات، ويستعملون أدوات الدولة المختلفة كالمساعدات والديون والرشى ومبيعات الأسلحة ونقل التكنولوجيا والقوة العسكرية، بغية تأمين ديمومة إمداداتهم التجارية. ويوصل ذلك إلى “حلقة مقفلة متصاعدة بين التجارة والأمن”، وقد بين كوبلاند أنها غذت عدداً من أكبر الحروب في التاريخ. وعلى العكس من ذلك، عملت الاستقلالية الاقتصادية للولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي كقوة تساعد على الاستقلال خلال “الحرب الباردة”، وفق ملاحظة من المؤرخ جون لويس غاديس.
يحمل الاقتصاد الصيني اليوم عناصر تجعله أشد شبهاً باقتصادات ألمانيا وإيطاليا واليابان خلال النصف الأول من القرن العشرين، إذ تستورد الصين معظم المواد الخام عبر نقاط اختناق لا تملك سيطرة كافية عليها، وتعتمد أيضاً بشكل كثيف على صادراتها إلى الولايات المتحدة وحلفائها من أجل الحصول على مردودات وفيرة، ويضاف إلى ذلك أنها تملك أسباباً كافية للقلق من أن تلك الدول قد تقطع عنها سبل الوصول إلى الأسواق والمصادر، في الأزمات. وإذ راقبت تقييد الغرب الاقتصاد الروسي بواسطة العقوبات، باتت الصين تضاعف جهودها في الابتعاد عن الولايات المتحدة، وفق تقارير عدة. وبالاستناد إلى ما يسمى سياسة التدوير المزدوج، تستعمل الصين مزيجاً من تقديم الدعم والقيود على التجارة بغية إعادة توجيه اقتصادها كي يتمحور حول السوق المحلية، إضافة إلى أنها تصنع مناطق تتمتع بامتيازات خاصة في دول عدة كي تضمن المواد الخام والأسواق التي تفتقدها محلياً. في المقابل، نبهت تلك الولايات المتحدة التي استجابت بأن أطلقت حملتها الخاصة المتعلقة بالتفوق الاقتصادي. وبدلاً من تقارب البلدين معاً، صارت التجارة عنصراً يباعد بينهما باطراد.
انخراط أم احتواء؟
يحاجج دعاة زيادة الانخراط مع الصين بأن الولايات المتحدة يجب أن “تختبر فرضية” أن المبادرات الدبلوماسية قد تعطي دفعة الانطلاق لدورة من التفاعل مع الصين، وفق ما اقترحته الباحثة جسيكا شين ويز في مجلة “فورين أفيرز” السنة الماضية. في المقابل، لقد اختبرت تلك الفرضية مرات عدة خلال العقود القليلة الماضية، ولم تأت النتائج بما يبعث على الرضا، إذ قدمت الولايات المتحدة تنازلات عدة خلال حقبة الانخراط يصعب حتى التفكير في تقديم ما يوازيها اليوم. وشمل ذلك الإدماج السريع للصين في خطوط الإمداد الغربية، ونقل الأسلحة إلى الجيش الصيني مع إعطاء تكنولوجيا متقدمة إلى شركات يملكها الحزب الشيوعي الصيني، والترحيب بدخول الصين إلى منظمات دولية كبرى، وتشجيع تايوان بهدوء على التفكير في الوحدة السلمية مع الصين، وغض الطرف عن انتهاكات الحزب الشيوعي الصيني لحقوق الإنسان. وعلى رغم ذلك، تظهر وثائق داخلية أن كبار القادة الصينيين فسروا تلك المبادرات الأميركية باعتبارها غير ودية أو محملة بالخطورة.
ثمة أمثلة وافرة عن ذلك. وعقب مذبحة “ميدان تيانانمين” في 1989، أرسل الرئيس جورج بوش (الأب) رسالة اعتذارية إلى القائد الصيني دينغ هيسياو بينغ يعبر فيها عن عزمه على “إعادة العلاقات إلى مسارها” عقب فرض الولايات المتحدة عقوبات رداً على إجراءات القمع الوحشية التي نفذها الحزب الشيوعي الصيني. ويفترض بداهة أن بوش قصد العودة إلى العمل كحلفاء ضمناً، مع إسقاط أميركا العقوبات بالترافق مع إعطائها الصين التكنولوجيا والمعلومات الاستخباراتية ومداخل الوصول الاقتصادية، لكن، لم يلق العرض قبولاً حسناً لدى دينغ. وبدلاً من ذلك، بحسب الباحث (والمسؤول في “مجلس العلاقات الخارجية” حاضراً) راش دوشي، فكر دينغ أن الولايات المتحدة “متورطة بعمق” في “تمرد الثورة المضادة” وبالتالي، فإنها “تطلق حرباً عالمية من دون دخان المدافع” بهدف إطاحة الحزب الشيوعي الصيني.
بعد تسع سنوات، زار الرئيس الأميركي بيل كلينتون بكين بهدف تمتين سياسته في الانخراط مع الصين التي شملت إعطاءها مرتبة “الأمة الأكثر تفضيلاً” في الوضعية التجارية من دون اشتراط معايير حقوق الإنسان التي تطلب في العادة من “الاقتصادات التي لا تديرها قوى السوق”، وهي التسمية التي أعطتها الولايات المتحدة للدول الشيوعية السابقة والباقية على تلك الحالة في ذلك الوقت. وفي بادرة حسن نية، أضحى الرئيس كلينتون أول رئيس للولايات المتحدة يتبنى علانية “اللاءات الثلاثة” في مسألة تايوان، أي لا استقلال ولا صينيين ولا عضوية لتايبيه في المنظمات المخصصة للحكومات. في المقابل، عقب بضعة أشهر، حذر الزعيم الصيني جيانغ زيمين مسؤولي العلاقات الخارجية في الحزب الشيوعي الصيني من أن “ما يسمى سياسة الانخراط” الأميركية تحمل الهدف نفسه الذي تتضمنه “سياسة الاحتواء”، المتمثل بـ”أن تحاول عبر دوافع خفية تغيير نظام بلادنا الاشتراكي”. وكذلك أصر جيانغ على أن “البعض في الولايات المتحدة وبلدان غربية أخرى، لن يتخلوا عن مخططاتهم الرامية إلى فرض النمط الغربي على بلادنا وتقسيمها. وسيضغطون علينا في محاولة لإنهاكنا وإسقاطنا”. وتمثلت الخلاصة التي قدمها جيانغ بأنه “من الآن فصاعداً، ولزمن طويل نسبياً، ستكون الولايات المتحدة خصمنا الدبلوماسي الرئيس”.
خلال العقد التالي، عملت إدارة جورج دبليو بوش (الابن) على تشجيع الصين كي تصبح “مساهماً مسؤولاً” في النظام الدولي، وأطلق مجموعة من “الحوارات الاقتصادية الاستراتيجية” بين واشنطن وبكين، ثم وسعت إدارة أوباما تلك الحوارات فصارت تغطي كل القضايا الرئيسة في العلاقات بين البلدين، وصاغ إعلاناً مشتركاً عن احترام “المصالح الأساسية” للصين. وجاءت تلك الخطوات كلها توخياً لإحداث “تطمين استراتيجي”، لكن، لم تحدث تلك الطمأنينة لدى القادة الصينيين. ووفق ما كتب الباحثان آندرو ناثان وآندرو سكوبل في 2012، عقب مراجعتهما مصادر صينية، “يعتقد الصينيون بأن الولايات المتحدة قوة رجعية تسعى إلى محاصرة التأثير السياسي للصين، وإيذاء المصالح الصينية”. وعلى رغم أن قادة الصين رحبوا بالتكنولوجيا الأميركية والوصول إلى الأسواق العالمية، فإنهم صدموا بمدى التهديدات التي تفرضها الولايات المتحدة على نظامهم، بما في ذلك وجودها العسكري الكثيف في منطقتهم، وجهودها في التفاوض حول إنشاء كتلة تجارية عبر المحيط الهادئ تستثنى الصين منها، وتولي جيش من المنظمات الأميركية غير الحكومية مهمة التدخل في الشؤون الصينية الداخلية، وتكرار إعلان عدد من كبار المسؤولين الأميركيين أن الهدف من الانخراط مع الصين يتمثل في نقل الصين إلى الليبرالية. وكذلك حضرت الذكريات السيئة في عقول القادة الصينيين أكثر من الطيبة منها على غرار قصف أميركا السفارة الصينية في يوغوسلافيا عام 1999، مما يعتبر من العلامات النفسية عن ظاهرة الخصومة.
في ملمح متصل، يرغب مناصرو إعادة الانخراط في أن تقدم واشنطن شرحاً عن رغبتها في انضمام الصين إلى نظام دولي تكون محصلة توازنات القوى فيه إيجابية لجميع المشاركين فيه. في ذلك المنحى، يفهم القادة الصينيون جيداً الفرص التي تقدمها واشنطن في الانضمام، ربما أفضل مما يفعله أميركيون كثيرون، إذ ينظر أولئك القادة إلى ما حدث مع الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف حينما حاول إدماج الاتحاد السوفياتي في النظام الغربي. ووفق توقع من دينغ، فإن فتح النافذة أمام “الهواء المنعش” الآتي من الانخراط مع الولايات المتحدة، يتيح أيضاً “للذباب” أن يتكاثر على هيئة قوى سياسية تعيث خراباً. وتوخياً لعدم حدوث شيء مماثل في الصين، طور الحزب الشيوعي الصيني نظاماً رأسمالياً سلطوياً صمم لاستخراج المنافع من نظام دولي مفتوح مع إبقاء الضغوط السياسية الليبرالية تحت السيطرة. بالنسبة إلى الأميركيين، تبين أن ذلك الأمر جيد بمقدار كونه كذلك، بمعنى أن الانخراط الجزئي للصين ساعد الحزب الشيوعي الصين على تقوية نفسه استعداداً لخوض منازلة مستقبلية في شأن الحدود والقوانين الدولية.
لقد بات الصراع الملحمي في متناول اليد الآن. وإذ عقد الرئيس الصيني شي جينبينغ العزم على تلافي مصير غورباتشوف أو أسوأ من ذلك، فقد انصرف طيلة أوقات ولايته إلى بناء قلعة حول الصين، ومثلها حول نفسه. وتدعو استراتيجيته في الأمن القومي إلى كل ما يعاكس الإصلاحات والتنازلات التي دمرت الحزب الشيوعي السوفياتي لكنها أوصلت “الحرب الباردة” إلى خاتمتها السلمية. وعمل على بناء قوة عسكرية ضخمة، وإعادة تشديد سيطرة الحزب على المؤسسات كلها، وأطلق حملة ملحمية لجعل الحزب الشيوعي الصيني حصيناً حيال العقوبات. واستطراداً، لا ترسم تلك المعطيات السابقة صورة نظام مهتم بإعادة الانخراط مع القوة الليبرالية العظمى. بالأحرى، إنها العلامات الدالة على قيادة ديكتاتورية تعاني عقدة اضطهاد وتبني قواها كي تواجه “السيناريوهات الأسوأ والاختبارات الأشد قسوة من الرياح العاتية، والمياه المضطربة، بل حتى العواصف الخطرة”، وفق كلمات اعتاد تشي تكرارها في تحذير رفاقه.
فلنتأهب للأزمات
يتمثل السيناريو الأكثر ترجيحاً خلال السنوات المقبلة في حرب باردة تدأب فيها الولايات المتحدة والصين على فك الارتباط بين القطاعات الاستراتيجية في اقتصادهما، والحفاظ على خطوط المواجهة في شرق آسيا، وتعزيز رؤيتيهما المتصارعتين عن النظام الدولي، والتنافس في استنباط حلول للمشكلات العابرة لحدود الدول. إن الحروب الباردة كريهة لكنها أفضل من نظيراتها الساخنة. لقد غدا كثير من الروابط بين الولايات المتحدة والصين، خصوصاً روابطهما الاقتصادية الكثيفة، مصدراً لتفاقم انعدام الأمن والثقة، بالتالي صارت حلبات جديدة للصراع بينهما. بالنسبة إلى صناع السياسة في الولايات المتحدة، يكون من الأفضل التوصل إلى طرق في صنع مساحات لامتصاص الصدمات بين الجانبين، بأكثر من السعي إلى تعزيز الاعتماد المتبادل بينهما.
استطراداً، لا تستبعد الحرب الباردة كل أشكال التعاون. وبعد كل حساب، تعاونت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي معاً في القضاء على وباء الجدري مع استمرارهما في الصراع على الهيمنة. وتاريخياً، استمرت القوى الكبرى المتخاصمة، بل حتى المتحاربة، في المحافظة غالباً على بعض التبادل التجاري في القطاعات غير الاستراتيجية، وكذلك الحال بالنسبة إلى العلاقات الاجتماعية بينهما. من المستطاع الاستمرار في المحادثات الدبلوماسية، إلا إذا سبقتها تنازلات مزعزعة للاستقرار، لأنها تعطي إشارات إلى الحلفاء والخصوم على حد سواء بأن الولايات المتحدة لا تلقي بوزنها كقوة عظمى في الأشياء كلها وبأي ثمن. في المقابل، تعني الحرب الباردة سلوك سياسة الاحتواء حيال الصين، وتلك استراتيجية تختلف عن إعادة الانخراط في ثلاثة مناح أساسية.
أولاً، يعطي الاحتواء الأولوية إلى الردع والمنع بأكثر من اهتمامه بإعطاء الضمانات وطمأنة الخصم. يجب على الولايات المتحدة استمالة الصين أنى استطاعت ذلك، لكن ليس بما يفضي إلى إضعاف القدرات الأميركية أو إرسال إشارات ملتبسة عن عزم الولايات المتحدة في شأن قضايا حيوية. ومثلاً، تستطيع الولايات المتحدة الامتناع عن دعم استقلال تايوان، لكن يجب عليها تسريع مبيعات الأسلحة إلى تايبيه، وتعزز وتنوع بنيتها الأساسية في شرق آسيا، وتحرص على وجود عسكري متين وقريب كي تعطي بواسطته إشارة مفادها أن هجوماً صينياً على تايوان سيلاقى برد أميركي حاد. وعلى نحو مماثل، تستطيع الولايات المتحدة أن تخفض قيودها الاقتصادية على الصين وصولاً إلى “مجموعة قليلة وحاسمة” من القطاعات، على غرار ما تسعى إدارة بايدن إلى فعله حاضراً. وفي المقابل، يترتب على ذلك أن تعكف أميركا على مراكمة الذخائر، خصوصاً الصواريخ المضادة للسفن، بغية تجنب المزاوجة بين الضغوط الاقتصادية والإهمال العسكري، مع التذكير بأن تلك المزاوجة مهدت الطريق أمام وصول اليابان الإمبراطورية إلى بيرل هاربور. [المقصود أن تلك المزاوجة شجعت اليابان على توجيه ضربة عسكرية إلى الولايات المتحدة في جزيرة هاواي الأميركية، عبر غارة شنتها في أواخر 1941، أثناء الحرب العالمية الثانية].
ثانياً، تؤدي سياسة الاحتواء إلى قلب الأدوار في معادلة الجزرة والعصا أثناء المفاوضات الدبلوماسية. وفيما تتضمن سياسة الانخراط استمالة الخصم إلى طاولة التفاوض، تستهل سياسة الاحتواء ببناء القدرات ثم الانتقال إلى المسار الدبلوماسي من موقع القوة. ومثلاً، اقترح بعض أعضاء إدارتي ترمب وبايدن خفض التعريفات الجمركية بشكل أحادي أو إرجاء تنفيذ بعض العقوبات على بكين كإشارة عن حسن النية. ولكن، ثمة مقاربة أفضل من ذلك قوامها إجراء محادثات مع الحلفاء، على غرار ما جرى في قمة “مجموعة السبع” في مايو (أيار) الماضي، بهدف تعزيز كتلة العالم الحر في الاقتصاد والأمن، حيال مجابهة الضغط الصيني، ثم السعي بصورة جماعية إلى تسوية حروب التجارة والتكنولوجيا مع بكين.
ثالثاً، يقاس نجاح إجراءات الاحتواء بمدى دفاع الولايات المتحدة بصورة فاعلة عن مصالحها وقيمها، وليس بمقدار الود والصداقة في العلاقة بين الولايات المتحدة والصين، لكن الولايات المتحدة تبنت الرؤية نفسها طيلة عقود. تتمثل تلك الرؤية في النظام الليبرالي العالمي، ونظام تجاري مفتوح يتمكن المشاركون فيه من تبادل التجارة والازدهار بسلام من دون مخاوف تتعلق بابتلاعها من قبل إمبراطوريات انتقامية. لقد أدى هذا النظام نفسه إلى إفلات الصين من ربقة الفقر عبر تعميق سلمية اليابان وإعطاء الشعب الصيني وصولاً غير مسبوق إلى رأس المال الأجنبي والتكنولوجيا والأسواق. وكذلك إنه ذلك النظام الذي طلب صناع السياسة الأميركيون من الصين اتباعه تكراراً ومراراً. وبدلاً من ذلك، أصبح الحزب الشيوعي الصيني تهديداً خطراً لذلك النظام بسبب مزاعمه الإقليمية العدوانية، وتفشي عقلية تجارية خالية من القيم، ودعم روسيا في وحشيتها ضد أوكرانيا. ينادي بعض دعاة إعادة الانخراط بالتضحية ببعض ملامح ذلك النظام، على غرار قوانين التجارة العالمية وقوانين حقوق الإنسان، بغية تحسين العلاقات مع الصين. ويذهب بعضهم إلى حد اقتراح تقديم تنازلات في مسائل الحدود الدولية وحرية الوصول إلى المياه في شرق آسيا. ولسوف تسير سياسة احتواء الصين على عكس تلك المناحي، عبر الإصرار على أن تتوصل الصين إلى تسوية في شأن أهدافها الرجعية وكذلك، في حال رفض الحزب الشيوعي الصيني تحقيق تلك التسوية، أن تقبل الصين بحقيقة أن النظام الليبرالي لن يتمحور حول شراكة متينة بين الصين والولايات المتحدة ضمن أي مدى منظور.
في نظرة أولى، قد تبدو سياسة الاحتواء عديمة الجدوى وتثير العراقيل، لأن قادة الصين سيهولون بصرخات الغضب النموذجية في سياستهم المعروفة باسم “الذئب المحارب”. في بعض الأحيان، تؤدي السياسة التي تبدو مغلوطة على المدى القريب، إلى إعطاء أفضل الفرص لسلام مديد، فيما قد تغدو السياسة التي تبدو الأكثر أماناً في اللحظة الراهنة، شديدة الكوارثية على المدى البعيد. واستكمالاً، إن سياسة إعادة الانخراط التي تبدو حلاً وسطاً متزناً بين الاحتواء والاسترضاء، قد تكون الأشد خطورة بين الخيارات كلها لأنها لا ترضي مطالب الصين ولا تردع بكين عن انتزاع ما ترغب به بالقوة. ولأن قادة الصين فهموا المرة تلو الأخرى، عروض الولايات المتحدة في الانخراط بوصفها سياسة احتواء خفية، فإن الولايات المتحدة لا تواجه خيار المفاضلة بين الانخراط والاحتواء، بل بين احتواء مملوء بالخنوع والثرثرة الجوفاء، لكنها قد تكون استفزازية أيضاً، وشكل واضح وحازم من الاحتواء يحمل في الأقل بعض الأمل بردع العدوان الصيني. [قبل الحرب العالمية الثانية، حاول قادة أوروبيون، خصوصاً رئيس وزراء بريطانيا نيفل تشمبرلين، تجنب الحرب مع النازية عبر تقديم تنازلات ترضي بعض مطامح هتلر. عرفت تلك المقاربة بسياسة الاسترضاء، ونالت سمعة سيئة بعد الفشل في تجنب الحرب العالمية الثانية].
بعد ذلك كله، يبقى بالطبع خيار الاستسلام، إذ تستطيع الولايات المتحدة تجنب صراع مع الصين، ضمن المدى القصير في الأقل، عبر الاعتراف بالمزاعم الإقليمية للصين وسحب القوات الأميركية من شرق آسيا. إنها تنازلات متطرفة لا تميل إليها سوى ثلة قليلة. في المقابل، يتمثل جزء مما يعطي الانخراط جاذبيته بالافتراض المضمر بأنه إذا فشل التقرب، فإن الولايات المتحدة تستطيع دوماً العودة إلى المربع الأول، وتعطي الصين دائرة ما من النفوذ، وتخرج بلا خدوش نسبياً كأن لم يمسها شيء. واستطراداً، يصبح من الأفضل التأقلم مع الصين ومعاناة خطر حدوث نوع من الاسترضاء، بدل احتواء الصين والمخاطرة بنشوب حرب.
في ذلك الإطار، تتبدى المشكلة مع الاستسلام في أن المطالب الصينية لا يمكن تلبيتها بواسطة الولايات المتحدة وحدها. ولن تسري السعادة في صفوف الحزب الشيوعي الصيني إلا إذا قبلت تايوان بأن يجري امتصاصها من قبل ديكتاتورية متوحشة، وسيجب على دول الجوار أن تتوسل الصين كي تعطيها الإذن بأن تبحر أبعد من سواحلها. لا يحتمل حدوث أي من تلك الأمور، بالتالي فالأرجح أن ما سينجم عن تراجع الولايات المتحدة لن يكون انتقالاً سلمياً إلى الهيمنة الصينية بل فوضى عنيفة. وستشمل قائمة أبرز الأخطار ظهور يابان معسكرة بالكامل، واختراقات نووية من قبل سيول وتايبيه وطوكيو، إضافة إلى كوريا شمالية متزايدة الجرأة. وثمة أخطار أقل وضوحاً قد تتأتى من مفاعيل الانهيارات على غرار انهيار سلاسل الإمداد الآسيوية وتفكك التحالفات الأميركية في أوروبا لأنها لن تصمد أمام صدمة مشهد الفراغ الأمني الذي تحدثه الولايات المتحدة كي تتولى الصين تعبئته.
قد يستطيع الأميركيون النجاة من العاصفة الناجمة من انهيار الأمن في النصف الشمالي من الكرة الأرضية، لكن تاريخ الحربين العالميتين يشي بأنهم [الأميركيون] سينجرون في النهاية إلى قلب الإعصار الأوراسي. في الحد الأدنى، ستحتاج الولايات المتحدة إلى التسلح حتى الأسنان كي تصنع توازناً مع ذلك الاحتمال، وكذلك إمكانية ظهور مارد صيني يضع عينيه على المناطق الأميركية في غرب المحيط الهادئ بعد هيمنته على شرق آسيا. في الحالتين كلتيهما، ستعود الولايات المتحدة إلى نقطة البداية، أي احتواء الصين، لكنها ستغدو من دون حلفاء، وستفقد خطوط الإمدادات، ومن غير قوات في الخطوط المتقدمة، وكذلك ستفقد الكثير من صدقيتها. لتعويض ذلك، سيجب على الولايات المتحدة التحول إلى دولة حصن تنوء بعبء عسكرتها التي ستأكل ثرواتها وحرياتها المدنية.
وربما لن يمسي الاستسلام خياراً يستحق التجربة إلا إذا تمثلت بدائله في حرب ملتهبة كوارثية أو حرب باردة لا نهائية بعواقب مالية معيقة للتقدم. في المقابل، ثمة أسباب للتفاؤل بأن احتواء الولايات المتحدة للصين قد يغدو محطة انتقالية على الطريق إلى مستقبل أكثر إشراقاً. خلال “الحرب الباردة” الأصلية [بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي في القرن العشرين]، صمم الاحتواء بهدف منع الاتحاد السوفياتي من التقدم بانتظار أن تنمحي قوة موسكو بفعل ضعف النظام الشيوعي، ويجبر السوفيات على تقليص طموحاتهم. يجب أن يغدو ذلك الأمر نفسه هدف احتواء الصين اليوم، وقد لا يستلزم الأمر أربعة عقود للوصول إلى الخاتمة. لقد شرعت محفزات الصعود الصيني في التآكل بالفعل، إذ باتت القوة الوطنية الإجمالية للصين متأثرة بتباطؤ النمو، وارتفاع صاروخي للدين، والبيروقراطية غير الكفؤة، وهجرة رأس المال، وبطالة الشباب وتقلص حجم السكان. ويضاف إلى ذلك أن الحزب الشيوعي الصيني صنع لنفسه أعداء في الجوار القريب والجغرافيا البعيدة، إذ شرع عدد من جيران الصين بتقوية عضلاتهم العسكرية، فيما بدأت الاقتصادات الكبرى، تحت قيادة “مجموعة السبع” التي تتحكم بأكثر من نصف مجموع ثروات العالم، في فرض مئات من القيود الجديدة سنوياً على الاستثمار والتجارة مع الصين. لقد نالت الصين صيتاً حسناً في الجنوب العالمي بفضل إنفاقها أكثر من تريليون دولار على هيئة قروض لما يزيد على 100 دولة. في المقابل، لن تستحق تلك الديون قبل عام 2030، وبعضها لن يدفع أبداً. ويصعب تصور كيف سيستطيع بلد تثقله تلك الأعباء ويواجه أعداء متكاثرين، أن يستمر في المنافسة مع قوة عظمى يساندها حلفاء أثرياء. لا يستلزم الأمر أن تنهض الولايات المتحدة بأمر احتواء الصين إلى الأبد، بل يلزم أن يستمر ذلك إلى حين ظهور تأثيرات المسارات الجارية حاضراً. في حال تحقق ذلك، سيتبدى أن حلم شي بالهيمنة الصينية ليس واقعياً، وقد يشعر خلفاؤه بأنهم مضطرون إلى التعامل مع الركود الاقتصادي للبلاد والطوق الجغرافي – السياسي المضروب حولها، فيلجأون إلى الاعتدال الدبلوماسي والإصلاح الداخلي.
استكمالاً، أثناء حدوث ذلك، ليس من الضروري أن يقود الاحتواء إلى صراع مسلح. وقد تشمل المنافسة انخراط الولايات المتحدة والصين في سباق تكنولوجي يؤدي إلى توسيع حدود المعرفة الإنسانية كي تصل إلى ذرى جديدة، بالترافق مع إيجاد حلول مبتكرة للمسائل التي تهتم جموع الأمم بها. وكذلك قد يعني الاحتواء أن يشكل الخصمان كلاهما تكتلات سلمية من دول متقاربة في التفكير، مع استعمالهما وسائل سلمية غير عنيفة فيها تشمل تقديم المعونات، بغية بهدف استمالة القلوب والعقول وتوسيع هوامش نفوذهما. لعله ليس من السيئ بالنسبة إلى العالم خوض غمار خصومة تنافسية من هذا النوع، وبالتأكيد فإنها أفضل من حروب القوى الكبرى التي وسمت معظم التاريخ الحديث. لربما بات “العالم الواحد” بنظام عالمي متجانس، حلماً مستحيلاً في الوقت الحاضر. في المقابل، لا يعني ذلك عدم إرساء علاقات سلمية، وربما متوترة أيضاً، بين نظامين خصمين متنافسين. وقد تترتب على احتواء الصين في سياق تلك المنافسة، أخطار حادة ومكلفة، لكنها الطريقة الأفضل لتجنب صراع أشد ضراوة وتدميراً.
* مايكل ببكلي، أستاذ مساعد للعلوم السياسية في جامعة تافتس، وزميل غير مقيم في “معهد المشروع الأميركي” ومدير برنامج آسيا في “معهد السياسة الخارجية”. ووضع كتاب “لا تنافس، لماذا ستبقى أميركا القوة العظمى الوحيدة في العالم”.
فورين أفيرز سبتمبر (أيلول)/ أكتوبر (تشرين الأول) 2023
المصدر: اندبندنت عربية
هل التنافس والصراع بين الولايات المتحدة والصين دخل ضمن ما يسميه علماء السياسة “الخصومة المستمرة” ، قراءة وتحليل ومقاربات موضوعية لطبيعة العلاقة بيننهما ، فهل يمكن أن تدخل ضمن التنافس مع استبعاد الصراع؟ لتكون لصالح المجتمع الدولي والشعوب؟ ،