لا يزال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الموقع الذي وضع نفسه فيه، لاعباً لا غنى عنه في الأزمة الأوكرانية، يملك مفتاح التجديد لاتفاق الحبوب، ولا يخذل في الوقت نفسه فولوديمير زيلينسكي، فيتحرّر من تعهّد قطعه لموسكو ويجعله يصطحب معه مجموعة من قادة “كتيبة آزوف”، كانت القوات الروسية أسرتهم في معركة ماريوبول وسلّمتهم إلى تركيا ضمن تبادل للأسرى، على ألاّ يطلقوا إلاّ بعد انتهاء الحرب.
وهي من المرّات النادرة التي تُصدر موسكو موقفاً ينتقد بشدّة سلوك أنقرة. بيان الكرملين في هذا الصدد كان صريحاً، في أنّ تركيا تراجعت عن تعهّدات في هذا الشأن. وبعد ساعات كان وزيرا الخارجية سيرغي لافروف والتركي حقان فيدان يناقشان اتفاق الحبوب، الذي لم توافق موسكو على تمديده حتى الآن، من دون الحصول على ضمانات بتسهيل صادراتها الخاصة من الأسمدة والحبوب.
لافتاً كان إعلان أردوغان بعد محادثات مع زيلينسكي في اسطنبول الجمعة، عن زيارة يعتزم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين القيام بها لتركيا في آب (أغسطس). هذه الزيارة إن حصلت، تعني أنّ روسيا لا تزال تأمل في أن تكون أنقرة مكاناً لحوار مستقبلي بين موسكو وكييف، على غرار ما كانت عليه الحال في الأشهر التي تلت الهجوم الروسي على أوكرانيا.
ورغم أن لا بوادر حتى الآن لإمكان بدء حوار روسي – أوكراني، فإنّ الطريق المسدود الذي يواجهه الهجوم الأوكراني المضاد، قد يضيّق الخيارات أمام القيادة الأوكرانية ويجعلها تراجع حساباتها.
وعلى غرار ما يتباهى أردوغان بدوره “المتوازن” في النزاع الأوكراني، فإنّ الرئيس الأميركي جو بايدن، يحتاج هو الآخر إلى الرئيس التركي، الذي يضع في جيبه مفتاح باب انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي.
يريد بايدن من أردوغان مسألتين أساسيتين تبدوان ملحّتين غاية الإلحاح بالنسبة إلى إدارته: الموافقة على انضمام السويد إلى الناتو، وعدم تطبيع العلاقات مع دمشق.
عضوية السويد في الأطلسي يعتبرها بايدن نصراً استراتيجياً في مواجهة روسيا، وفرصة لا يجب تفويتها. والعمل على تذليل الاعتراض التركي ممكن، بممارسة واشنطن بعض الضغوط على ستوكهولم، كي تشدّد إجراءاتها بحق ناشطي “حزب العمال الكردستاني” العاملين على أراضيها، أسوةً بما فعلت فنلندا، حتى ولو تطلّب ذلك تعديلاً في القوانين المرعية في البلاد.
وجد أردوغان الفرصة مناسبة كي يحصل على ثمن من أوروبا أيضاً في مقابل إعطاء تركيا الضوء الأخضر لانضمام السويد إلى الناتو، إذ طالب بمعاودة فتح ملف مفاوضات انضمام أنقرة إلى الاتحاد الأوروبي. هي فرصة ثمينة لن يضيّعها أردوغان. وهذا وقت حصد الأثمان من أوروبا أيضاً.
المسألة الثانية التي تُعتبر في غاية الأهمية بالنسبة إلى بايدن، هي ألاّ تكتمل حلقة التطبيع الإقليمي مع دمشق، بحيث تنضمّ تركيا إلى دول الخليج العربية في معاودة العلاقات الدبلوماسية ومدّ جسور الحوار مع الرئيس السوري بشار الأسد، بما يعني ذلك من تمكين لسوريا من الالتفاف على عقوبات “قانون قيصر”.
أردوغان يوازن خطواته بالنسبة إلى سوريا، ليرى أي فائدة أكبر يجنيها من التطبيع الذي تحضّ عليه روسيا، أم المضي في سياسة العداء لسوريا وفق ما تطالب واشنطن؟
واللقاء الذي سيعقده أردوغان مع بايدن في قمّة فيلنيوس الأطلسية، سيكون حاسماً لجهة تقرير الخطوات التركية التالية على صعيد العلاقات مع دمشق. هل تذهب في اتجاه استكمال حلقات المصالحة الإقليمية، أم تذهب في اتجاه التصعيد وإشعال جبهات الشمال السوري مجدّداً؟
الإغراءات الأميركية لوقف التطبيع مع سوريا قد تكون مقنعة بالنسبة إلى أردوغان، إذا انطوت على تفويض يُطلق يد تركيا في إقامة “المنطقة الآمنة” التي تُطالب بها منذ سنوات وتمتد 30 كيلومتراً في عمق الأراضي السورية، ولو على حساب حلفاء واشنطن من الأكراد. هذه المنطقة يريدها أردوغان كي يعيد توطين أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ سوري فيها.
في الماضي، كانت الولايات المتحدة تعارض تمدّد الجيش التركي في مناطق “قوات سوريا الديموقراطية” التي يشكّل المقاتلون الأكراد عمودها الفقري.
الآن، كثيرٌ من الظروف السياسية تغيّر، وواشنطن مقتنعة بأنّ انضمام السويد إلى الأطلسي ووقف التطبيع مع دمشق، أولويتان للسياسة الأميركية، وبأن لا مانع من دفع ثمن لتحقيقهما. وعلاوة على ذلك، لا ينسى أردوغان أنّ صفقة مقاتلات “إف-16” ستكون أيضاً من الأثمان المطروحة على الطاولة.
هذا الثمن الذي يمكن أن تقدّمه الولايات المتحدة. ماذا عن الثمن الذي قد تقدّمه موسكو كي لا يمضي أردوغان في تلبية رغبات واشنطن؟ الجواب ليس متيّسراً.
المصدر: النهار العربي