نــبــيـــل الــمـــالــح: مــحـنــة الــمـــثـــقــــف الـســوري الـعـــضـــوي

محمد خليفة

سنوات وأنا أتسقط أخباره باحثاً عن عنوانه وهاتفه كصديق مميز قديم. آخر من سألته عنه قبل شهور الأخ العزيز هيثم المالح (قريبه), فأجابني إنه لا يعلم شيئاً عنه, وأضاف: لا بد أنه خرج من دمشق.. لقد تبعثرنا في الارض!

أجل تبعثرنا, وما دامت سورية ممزقة فلا مكان آخر يلمنا ويضمنا. وأقسى ما في هذه البعثرة أنها شملت الجميع أحياء وأمواتاً, فتبعثرت قبور أحبائنا أيضاً, فلا نستطيع معرفة عناوينها كلها, ناهيكم عن زيارتها ووضع الزهورعليها! هذا الرجل الذي أعنيه هو نبيل المالح أحد أركان السينما السورية الشامخين, وأكثرهم إبداعاً وعمقاً وتنوعاً, وإن كان برز كمخرج وفنان سينمائي إلا أنه متعدد المواهب والمجالات الابداعية, واقرب ما يكون الى نبع مثل عين الفيجة, يتدفق بغزارة مثل نهر بردى الدمشقي الأصيل, عطاؤه عذب وصاف. معرفتي به حدثت على مرحلتين, الأولى بداية شبابـي ووعيي. أعجبتني أفلامه القصيرة بعد هزيمة حزيران/يونيو 1967, وخاصة ((نابالم)), وعندما بدأ بتصوير فيلمه الروائي الرائع ((الفهد)) في منطقة الساحل عام 1972 كنت في حالة عشق للمسرح والسينما فعرض عليّ المشاركة في التمثيل بدور ثانوي, ولكنني اعتذرت, وتوثق إعجابـي بمدرسته السينمائية بعد ((السيد التقدمي)) عام 1975.

كنا في ريعان الشباب, وكانت أعماله تلامس أفكارنا وتغرس فينا حاسة الشك والنقد الذكي بدون تعليمية أو مباشرة أو غموض. تميز بالواقعية الفنية التي كانت مزدهرة في العالم يومها. واقعية فنية, تمتزج بالسخرية والرمزية التعبيرية الشفافة. قريب من هموم جيلنا الذي عاصر الهزيمة التي هتكت الأقنعة وأسقطت الشعارات والأوهام التي عشناها, فكانت أفلام نبيل المالح ومسرحيات سعد الله ونوس, وأشعار محمد الماغوط, وروايات وليد اخلاصي وهاني الراهب, وأبحاث صادق جلال العظم تقودنا الى مراجعة نقدية عميقة وشاملة لمنظوماتنا الفكرية السائدة.

أما المرحلة الثانية من معرفتي بنبيل المالح شخصياً, فكانت عام 1986 وأنا في المحطة اليونانية من اغترابـي حيث التقيته في اثينا, ومنذ أول محادثة هاتفية ربطتنا صداقة ثقافية وطيدة ازدادت عمقاً ومتانة مع الوقت وتميزت بتأسيسها على الحوار وتبادل الرأي في كل الأمور والقضايا الجادة: الفنية والفكرية.. والسياسية. ولم أفاجأ بشخصيته التي تتميز (بالسهولة الممتنعة) وطريقته الذكية في تناول أعقد الأمور وأصعبها: السخرية المرة, والنكتة السوداء, والعبارة القصيرة اللماحة الذكية الحساسة, لأنني وجدت هذه السجايا والمزايا صورة مشابهة لصنعته الفنية في السينما, وكان أكثر ما يتحاشاه في الحديث هو إلقاء المحاضرات, والاجابات الطويلة, واللغة الفوقية المعقدة, وكان أسلوبه دائماً صورة تنم عن شخصيته: يمارس النقد على كل شيء ولكن بذكاء ورقة متسلحاً بنظرة ثاقبة تقاوم الاستسلام للمقولات والافكار المعلبة والمقولبة. كنا جارين في ضاحية غليفادا الراقية في أثينا, وكان سهلاً علينا تبادل الزيارة (كانت معه شريكته وطفلته الصغيرة) وكثيراً ما كنا نلتقي في مقاهي غليفادا الجميلة. وكان حوارنا متصلاً.

سألته ذات مرة لماذا انت موجود في اثينا ولست في مكانك الطبيعي سورية..؟ فكشف لي بعد أن توثقت العلاقة أنه تعرض لاعتداء بدني وإهانة وسوء معاملة في دمشق من الأوباش فغادرها حزيناً ساخطاً كما غادرها قبله الفنان الراحل نهاد قلعي, وكان يعبر بطريقته الذكية عن رفضه للحال السائدة في بلدنا, وكان بلا شك ((معارضاً)) بلا حزبية, معارضاً على طريقة المثقف المتمرد. كان في تلك المرحلة يبحث باستمرار عن منتجين وممولين لمشاريعه السينمائية, وهي إجمالاً غير تجارية ولا ترضي أهل السلطة ولذلك كان يعاني, ورأيته مرة يقابل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات رحمهما الله, وكان يسرد لي معاناته جراء تعاونه مع الليبيين, وعرب آخرين. وعرض عليّ ذات مرة أن نصدر معاً (مجلة شبابية) فسألته: هل ستتوقف عن رسالتك السينمائية الى الصحافة, فقال لي أفكر بالاستثمار في عالم الشباب!.

كان متعدد المواهب الابداعية, يرسم ويكتب الادب ويصور ويخرج . ورغم آلامه وأوجاعه وغربته كان أبرز ما في معالم شخصيته الظاهرة ابتسامته وضحكته التي لا تفارق ثغره أبداً, إلا أنه لم يكن صعباً على مثلي أن أتجاوز الضحكة الدائمة الى أغواره حيث تختفي كآبة المثقف وغضب المتمرد.

 هذا الفنان أحد رواد السينما السورية البارزين, وصناعها الجادين المبدعين المحدثين, وأعماله الكثيرة ستحتفظ بقيمتها الفنية والفكرية الى الأبد, لا سيما أنها تؤرخ لمرحلة فائقة الاهمية في سيرورة العرب المعاصرة. مرحلة الانتقال من الحلم والمشروع إلى مرحلة الأزمة والاحباط . ولا شك عندي مطلقاً أن وفاته نتيجة تأثره بهول الكارثة المخيفة التي خلقها طاغية العصر بشار الاسد, وأنه مات كما يموت معظم السوريين اليوم متأثراً بعالم إجرامي هستيري فانتازي يفوق عالم الخيال والسينما. والغريب أن إحدى الصحف اللبنانية حاولت التشكيك بهوية المالح السياسية وانتمائه لشعبه وللمعارضة بطريقة فيها احتيال وتصيد, وهو فعل يشبه محاولة اغتيال للفنان في يوم وفاته, والاساءة المتعمدة اليه, وخيانته.

تجربة نبيل المالح خلال خمسين سنة هي تسجيل التاريخ بالكاميرا الذكية, وتوثيق الواقع وهو يتغير ويتحول صعوداً وهبوطاً وانكساراً. ومحنته محنة المثقف السوري العضوي, المنتمي, المتمرد في مواجهة سلطة بربرية غاشمة تعادي كل ذي فكر وفن وقلم بلا رحمة ولا هوادة

======================

المصدر: مجلة الشراع اللبنانية

11_ 03_ 2016

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى