بـــلـــــقــــــنـــــــــــــــة ســــــــــــــــــوريــــة

محمد خليفة

منذ الفي سنة وحتى سنوات قليلة مضت ظلت بلاد ما بين النهرين – سوريا والعراق , بما فيهما فلسطين ولبنان- نموذجاً فريداً للتعايش الديني والمذهبي والعرقي في العالم , نموذج طبيعي غير اصطناعي ولا متحفي , وتعايش انساني حقيقي غيرمفروض بالقوة , كما في بلدان ونماذج أخرى . ومن يرجع الى مؤلفات الرحالة الأوروبيين الذين زاروا الشرق في القرنين الثامن عشر والتاسع عشرسيجد أمثلة حضارية باهرة لهذا التعايش الذي صنعه التاريخ وثقافة التسامح العميقة بين جميع الديانات السماوية الأصيلة الاسلامية والمسيحية واليهودية بتعددياتها , والمجموعات العرقية : العربية والسريانية والكلدانية والآشورية والكوردية والارمنية والشركسية والالبانية والشيشانية .. إلخ .

وإذا كان للسلطنة العثمانية التي عمرت خمسة قرون حسنات كبيرة وكثيرة في مراحل ازدهارها ويفاعتها فإن حماية التنوع والتعدد يأتي في مقدمها , وهو نفسه دعامة مناعتها وديمومتها . ويعرف ( أو يعترف !) كثير من المؤرخين والباحثين الغربيين بأن مفهوم التسامح الديني انتقل الى أوروبا عبر التوسع العثماني في اوروبا , بما في ذلك تعزيز الكنائس الحرة البروتستانتية ( بول كولز) .

 الفضل الأول يرجع الى الاسلام السمح الذي يؤمن بالمسيحية واليهودية وبقية الديانات بما فيها الصابئية ويحترم البوذية , ويسمح بالتزاوج ويحض على التعايش والشراكة , ويحرم البغي والعدوان لأسباب دينية على المؤمنين من الديانات الأخرى . ووأرسى العثمانيون نظامهم المللي على قاعدة الاعتراف بكل الملل والنحل مهما كانت صغيرة مما وفر الحماية للفسيفساء الديني والعرقي , ولم يتعرض هذا الفسيفساء للخطر إلا بعد أن مدت أوروبا الاستعمارية في القرن التاسع عشر اصابعها وبدأت تعبث بمجتمعاتنا , وتنشر ثقافتها المعادية للتنوع والتسامح باسم الحداثة والقومية . وكانت بلاد البلقان ساحة التدخل الأولى , حيث ركز الاوروبيون مؤامراتهم لاشعال الفتن والحروب الدينية ضد المسلمين واليهود بشكل رئيسي بحجة تحرير الشعوب ودعم تطلعاتها القومية, مما أدى لتغييرات جذرية في تكوين مجتمعاتها خلال مائة سنة . وتكفي المقارنة بين ما كانت ثم اصبحت عليه الآن مدن مثل : سالونيك , سراييفو , اوخريد , كريت , سكوبيا , تيرانا .. إلخ . فقد اختفى أو كاد اليهود , كما تقلص الاسلام حتى انحصر في مدن ضيقة , ومرت هذه التحولات عبر حروب أهلية ومجازر جماعية وحرب ابادة وعمليات تهجير جماعية استمرت مائة وخمسين سنة ذهب ضحيتها ملايين البشر وفي الغالب كانت بتحريض أوروبي . وبلغت هذه السياسات ذروتها في مطلع القرن العشرين مع انهيار السلطنة حيث اصبحت منطقة البلقان( برميل بارود اوروبا) ومنها انطلقت الرصاصة الأولى للحرب العالمية الأولى 1914 – 1917 . ولنفس الاسباب ظل التركيب السكاني الفسيفسائي للبلقان يتعرض لعمليات تدمير منظمة من دول ومنظمات لا تؤمن بالتعدد والتسامح والتعايش , وكان آخرها حربا البقان (البوسنة 1992 – 1995) و(حرب تحرير كوسوفا 1997 – 1998) وسبقهما تهجير مئات الوف المواطنين المسلمين من بلغاريا عام 1987 , ومثيله في مكدونيا .

 و ما حدث في فلسطين بين 1948 و1967 هو شيء مشابه لما سبق في البلقان , تدمير للتركيب السكاني جراء سياسة مبرمجة وممنهجة استمر العمل على تنفيذها مائة سنة واشتركت فيها غالبية دول أوروبا وانتهت بتجميع يهود العالم في فلسطين على حساب أهلها وسكانها العرب الاصليين , مسيحيين ومسلمين الذين طردوا من وطنهم ووطن أسلافهم .

ما يحدث حاليا في سوريا والعراق هو عملية أخرى مشابهة تستهدف التدمير المنظم للتركيب السكاني الفسيفسائي التاريخي لبلدان المشرق العربي , تهجير للمسيحيين الى الغرب يشبه تهجير يهود اوروبا الى فلسطين , ونقل لمئات الوف الشيعة من افغانستان وايران الى سوريا , وابادة منظمة للسنة في العراق وسوريا . مؤامرة تتورط فيها روسيا الارثوذكسية بحجة أن (الاسلام السني) تحديدا يشكل خطرا داهما على مصالحها وأمنها القومي .

وهناك ما يكفي من الأدلة مصدرها رجال دين (مسيحيون أحرار) على تورط جهات روسية استخباراتية وكنسية في وضع خطط لتهجير المسيحيين الشرقيين جماعيا من سوريا بدعم وتمويل روسي منذ عام 2011, وبتعاون استراتيجي مع ايران التي عملت منذ ثورة الخميني على تصدير مذهبها وربط الشيعة في كل البلدان بها , وتسعى الآن لخلق واقع ديمغرافي جديد يحتل الشيعة فيه موقعا مركزيا على حساب أهل السنة تحديدا . والتحالف الأمني والسياسي بين روسيا وايران ذو أهداف تتجاوز ذلك الى أهداف دينية وديمغرافية أعمق وأبعد .

اخطر ما في الحريق الضخم الذي اشعلته ايران وروسيا في الشرق العربي تدميره لأحد أروع نماذج التعدد الديني والمذهبي والقومي والذي ظل ألفي سنة قائما ومتماسكا , ولا يتعذر علينا ملاحظة أن التهجير والتدمير المتعمد للنسيج السكاني في العراق وسوريا يمثل هدفا مركزيا للعدوان الايراني والروسي , وأن آثاره تمتد الى لبنان , ويلتقي في النتائج والأهداف البعدية مع ما جرى وما زال مستمرا في فلسطين , الأمر الذي يجعلنا نقول إن الشرق العربي يفقد الآن أعظم خصائصه التاريخية الحضارية بفعل (الغزو المغولي الجديد) الذي تمثله ايران من ناحية , والأرثوذوكسية الصليبية الروسية من ناحية ثانية . وبفضل هذا التحالف العميق الذي يحاول دغدغة مشاعر الكنيسة الكاثوليكية لجرها للحرب على الاسلام التاريخي وتوسيع جبهاتها ونشر الفوبيا والكراهية .

 ولكن هذا المخطط المتطرف لن يصل الى مبتغياته بسهولة كما يقدر ويخطط بوتين وكنيسته , وملالي طهران والدليل هو هذه المقاومة العنيدة التي نراها في شمال حلب خاصة وسوريا عامة , فضلا عن الاحتشاد الاسلامي والاقليمي دفاعا عن سوريا كنموذج حضاري منافس للنموذج الايراني والروسي القائمين على الابادة والتطهير الديني يترجم حجم المقاومة انما يمثلان رد فعل مقاوم يتشكل الان لمواجهة المغول والصليبيين الجدد , لكي لا يتكرر ما سبق أن رأيناه في البلقان في بلاد ما بين النهرين , أو المشرق العربي .

لقد أصبحت بلاد ما بين النهرين برميل بارود العالم , ويخاطر الذين يلعبون به وبمكوناته الدينية والاجتماعية بإشعال حرب لن ينجوا من سعيرها وسعارها , فهذا اللعب بالنار والديناميت قابل لإشعال حرب عالمية لا تبقي ولا تذر , تهدد الحياة على كوكب الارض , وتعيد الجنس البشري الى العصور البدائية الفكرية والدينية .

´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´

هذا المقال منشور في العدد 315 من ( مجلة الشراع اللبنانية ) الصادر في 19 / 2 / 2016

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى