في ذكرى مجزرة حماة 1982

محمد خليفة

في مثل هذه الأيام من شهر سباط / فبراير قبل ثلاثين سنة وقعت مجزرة حماة , كانت تمرينا عمليا لعصابات الأسد العلوية على ما يجري اليوم من مذابح , ربما كانت ( بروفة ) على تدمير سوريا كلها , بلا رحمة ولا تردد , القتل بقلب بارد , بلذة واستمتاع يفوقان لذة الفعل الجنسي . روى لي شاب في لحظة تطهر شارك في المذبحة ( اسمه ع . غ ) كان عسكريا يخدم في سرايا رفعت الأسد .. قال : كنا نقتحم البيوت نزرع الرعب في كل خطوة , فلا نجد في الغالب رجالا , فهؤلاء فروا وهاموا على وجوههم في اللامكان , اعتقادا منهم أنهم هم المستهدفون فقط , وأننا لن نمس نساءهم وأطفالهم . أما عاثروا الحظ الذين لم يتمكنوا من الفرار ووقعوا في أيدينا فكانوا يقتلون على الفور بطرق تقشعر لها الأبدان , لم يكن هناك شي محظور علينا , كل شيء مباح ومتاح : الاغتصاب والقتل والنهب . كنا نعاقب على أي تقصير في تنفيذ هذه الأفعال , كنا نحاسب إذا أبدينا شيئا من الرأفة بالسكان وكأننا نتخاذل أمام العدو . أضاف كنا نقتحم المساكن فنجد امرأة وكومة أطفال يتجمعون في إحدى الزوايا ينوحون ويرتجفون هلعا , وقال : كنا نقول للمرأة كم طفلا عندك فتقول خمسة , فنقول لها بينما نركلهم بأحذيتنا أهؤلاء هم أم هناك مزيد مختبئون ..؟؟ فتقسم أنهم هؤلاء فقط , نقول لها اختاري واحدا منهم , ثم نقتاد الآخرين , إلى الشرفة أو السطح أو حتى النافذة ونبدأ بحملهم واحدا بعد آخر وتلويحه في الهواء من ساقه أو تلابيب قميصه ثم قذفه بعيدا في الهواء ليسقط على الأرض مهشم العظام ..!! وأضاف كنا أحيانا نختصر المهمة والوقت فنذبحهم , ونجز رقابهم أمام أمهاتهم .
في مؤتمر للمعارضة السورية حضرته في جنيف عام 1989 وقف واحد ممن نجوا بمعجزة من تلك المذبحة الرهيبة , فروى ما وقع . قال : جمعونا في أحد الشوارع كنا حوالي ثلاثين رجلا طلبوا منا أن نتراص مكونين كتلة لحمية واحدة , ثم قصفونا بقذيفة آر . بي . جي , وسط قهقاتهم المجنونة , تطاير اللحم والأشلاء واصطبغت جدران المبنى , وسقط ما تبقى منا على الأرض , وكنت من بين من سقطوا على الأرض , وفوقي كوم من اللحم والجثث والدماء تغطيني , فظنوا أني قتيل , ولم يخطر ببالهم أني حي , تركونا ومضوا إلى مهمة أخرى , بقيت في موضعي بلا حراك حتى جن الليل وانقطعت أصوات الوحوش حولي فزحفت ثم نهضت ولذت بالفرار وقيض الله لي النجاة لأكون شاهدا على ما جرى !! وكتب الرجل كتابا عن تلك الحادثة التي لم تسترعي انتباه الاعلام الكوني يومها . وروى آخر أنهم جمعوا عشرات الموقوفين رجالا وأطفالا في أحد مخازن الخشب , وسكبوا عليهم البترول ثم أضرموا بهم النار ووقفوا يتفرجون باستمتاع على وليمة الشواء !
كم بلغ عدد شهداء حماة 1982 ؟؟ لا أحد يمكنه الجزم . تتراوح التقديرات بين 30 ألفا و50 ألف حموي . وهناك آلاف اعتقلوا واقتيدوا إلى سجن تدمر , فماتوا هناك ببطء , ومازال بعض الحمويين ينتظر حتى اليوم أن يعود مفقودوهم من ذلك البرزخ الذي وضعهم الأسد في غياهبه المخيفة , يعيش هؤلاء على سلوى الوهم .
لا بد أن يأتي وقت ويفتح تحقيق قضائي رسمي لتحديد ما وقع في حماة في تلك الحادثة المروعة . من بين شهداء حماة (الكبار) الذين أذكرهم في تلك الفترة , وقبل وقوع المجزرة الدكتور عمر الشيشكلي رحمه الله . شخصية مرموقة , نبيلة , سليل عائلة حموية عريقة , كان وجيها محبوبا محترما , زعيما بالفطرة , حصيف الرأي , كلمته مسموعة , خلقه الله ليكون كذلك , وكل واحد منا ميسر لما خلق له . عيادته مفتوحة دائما أمام الفقراء لطلب العلاج مجانا , وبيته مفتوح أمام الناس ليل نهار لاستقبال وجهاء المدينة ورجالها للتشاور في كل شؤونهم . وكان أمثال الدكتور عمر يخيفون السلطات وأجهزة الأمن أكثر من المعارضين السياسيين المحترفين لأنهم مراكز قوة وعناصر جذب منافسة لها , وكان عمر يجمع الشأنين , كان عمر زعيما بالفطرة وزعيما سياسيا معارضا بالتجربة , لم يكن سلفيا من جماعة مروان حديد أو اتباع الشيخ سعيد حوى , بل ولا إخوانيا من جماعة المرحوم عندنان سعد الدين , وإنما كان واحدا منا في حزب ( الإتحاد الإشتراكي ) حزب سياسي وطني لا يحرض على العنف أو التطرف الطائفي , كان مناضلا من أجل الديمقراطية بالكلمة , وكان وسطيا معتدلا , وطنيا وقوميا مشهودا له بالحرص على الوحدة الوطنية في كل تصرفاته . في إحدى العشيات في تلك الفترة الكالحة , دخل عيادته مجموعة من أوباش السلطة , طلبوا منه مرافقتهم ب(أدب ) وبلا (شوشرة ) .. الأمر معتاد في سوريا , ولا سيما في موسم الجنون آنذاك , ظن عمر أنهم من الاستخبارات جاؤوا لاعتقاله . ذهب معهم , وضعوه في سيارة جيب , عصبوا عينيه وكبلوا يدية , ومضوا به . قطعت السيارة مسافة طويلة أكثر من اي مسافة داخل المدينة , ثم توقفت , في مكان غير محدد , وسط ضجيج وضوضاء وجلبه يتراوح بين الغناء والهتافات الطائفية المعادية للمسلمين السنة , والمؤيدة للنظام ولحافظ الأسد .. نزل أشباه الرجال من السيارة وأنزلوا صيدهم الثمين , ورموه وسط حلقة من الأوباش تضم عشرات منهم , وفي الوسط كومة حطب مشتعلة . وبدأت وليمة لا ينافسها حتى طقس أكلة لحوم البشر البدائيين وهم يلتهمون أحد ضحاياهم , أخذ هؤلاء الأسديون المتوحشون يهاجمون الرجل المقيد المرمي وسط الحلقة , وكل واحد منهم يتفنن في طعنه أو ضربه بأداة حادة معه , أو بحرقه بعود مشتعل بالنار , وكأنه يريد شواءه . ساعات من هذا التعذيب الوحشي المروع . طبعا قضى الدكتور عمر الشيشكلي بين أيديهم , وصار جثة مشوهة بلا ملامح واضحة .. حملوها بالسيارة مسافة كيلومترات ورموها على الطريق العام ليراها الناس , لم يكونوا عابئين بافتضاح فعلتهم , بل كانوا يريونها رسالة دامغة إلى حماة والحمويين الذين كانوا دائما في مقدمة المدن المتمردة على حكم الأوباش .
مع بداية الثورة السورية الحالية 2011 صادفت الصديق المعارض أديب الشيشكلي في مؤتمر أنطاليا , تعرفت عليه , وقلت له كنت أعرف الشهيد الدكتور عمر الشيشكلي , وسألته : هل تعرف كيف قتل ..؟؟ ابتسم بحزن وهز رأسه وتركني استرسل في حديثي وذكرياتي عنه حتى انتهيت , فسألني هل تريد أن تقرأ وثيقة رسمية عن تلك الجريمة . قلت يا ليت !! أخرج من جيبه هاتفه الآيفون , وداعب مفاتيحه ثم قدمه لي فرأيت صورة لمحضر ضبط شرطة رسمي عن الحادثة يبدأ هكذا : نحن الضابط فلان الفلاني من مخفر شرطة قرية كذا .. وبناء على اتصال من مواطنين عن وجود جثة ملقاة على الطريق العام بين مدينة حماة ومنطقة مصياف , توجهنا إلى هناك فوجدنا جثة رجل في العقد الخامس مشوهة ومطموسة الملامح وفيها آثار طعنات بآلات حادة وآثار حروق بالغة .. ويتابع الضابط محرر الضبط في سرد أوصاف ما رأى . وعندما أنهيت قراءة الضبط , كنت قد أضفت لمعلوماتي عن النهاية التراجيدية للمناضل الشريف الصديق عمر الشيشكلي معلومات موثقة ومهمة عن مصرعه على أيدي شبان أوباش من قرية سلهب ذات الغالبية العلوية ( لعلهم كانوا بداية إنشاء فرق الشبيحة التي ذاع صيتها الان !) . ولا بد أن الجريمة كانت مدبرة بعناية من جهات رسمية داخل السلطة بدليل اصطفاء الضحية بعناية شديدة .
ما وقع في حماة قبل ثلاثين سنة جريمة موصوفة غير قابلة للتقادم .. ولا بد من إعادة فتح ملفاتها , وتوثيق أحداثها , لأنها صفحة كئيبة من تاريخ الإرهاب الأسود لنظام الأسد , ولا بد من القصاص العادل , ومحاسبة فرسان تلك الجرائم وأبطالها الأحياء حتى الآن , وعلى رأسهم المجرم الحقير رفعت الأسد الذي يعيش حياة بذخ وترف في عواصم أوروبا الكبرى : لندن وباريس ومدريد وماربيا وجنيف , محاطا بكل مظاهر الأبهة والرعاية والحماية التي تمنح للأثرياء الشرفاء ومسؤولي الدول السابقين .. لا بد أن نلاحقهم قانونيا بعد انتصار الثورة وإلقاء القبض عليهم لمحاكمتهم , وتوقيع العقوبات المناسبة ( ولن تكون مناسبة بأي حال مهما كانت قاسية !! ) , وتجريدهم من الثروات الضخمة التي نهبوها من دماء الشعب السوري وهي بمئات المليارات من الدولارات لا ستعمال ما بقي منها في إعادة بناء بعض بعض بعض ما هدموه ودمروه من مبانينا وعمارتنا ومنشآتنا .
اليس من المعيب جدا أن يحظى شخصية من صنف رفعت الأسد بالاستقرار ورغد العيش والحفاوة في العواصم الأوروبية وكأنه كان داعية سلام ختم حياته بالخلود للراحة على ضفاف السان والتايمز ومنتجعات ماربيا والكناري ..؟؟!!
روى لي الرئيس الجزائري الاسبق المرحوم أحمد بن بلة انه قصد يوما أحد مستشفيات لوزان لعيادة مريض مغربي صديق له , وبينما كان يلج بوابة المشفى رأى مشهدا غير مألوف في سويسرا النموذجية بهدوئها وسلامها وحسن تنظيمها , كان هناك بضعة رجال من (البودي غارد ) ينتشرون في ممرات المستشفى ويأمرون الناس بإفساح الطريق والوقوف جانبا ما يدل على أن شخصية غير عادية سيدخل . قال لي المرحوم بن بلة : لا أخفي عليك اني أحسست بالخوف وخشيت أن تكون محاولة لاستهدافي , ولكن مخاوفي تبددت وانا أرى رجلا يدخل ويسير بسرعة بالقرب من سرير متحرك عليه جسد امرأة مريضة , وسرعان ما اكتشفت أن الشخص هو رفعت الأسد جاء مصطحبا زوجته ( واحدة من نسائه الست ) إثر أصابتها بأزمة تستدعي جراحة عاجلة فحجز رفعت الأسد جناحا كاملا في المستشفى , وسبقه مرافقه لاتخاذ الاحتياطات الأمنية وكأنه في دمشق لا في لوزان ..!!
من يعرف سويسرا سيشكك بصحة هذه الرواية , لكنها حقيقية تماما , وتصرف بمثلها رفعت الأسد في فرنسا , وفي قلب باريس !!

المصدر: مجلة الشراع اللبنانية
01_ 03_ 2013

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. مجزرة حماه الكبرى 2شباط/فبراير 1982، هل كانت تمرينا عمليا لعصابات الأسد الطائفية الإرهابية لما جري ويجري اليوم من مذابح بحق شعبنا الثائر ؟ ,أم ( بروفة ) على تدمير سوريا كلها , بلا رحمة ولا تردد ، قراءة دقيقة وموضوعية من قبل الراحل محمد خليفة منذ إحدى عشر عاماً الله يرحمه ويغفر له ويجعل مثواه الفردوس الأعلى .

زر الذهاب إلى الأعلى