وليمة لنادية لطفي في بيروت المحاصرة 1982

محمد خليفة

في أثناء الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1982، وبينما كنا في بيروت محاصرين حصاراً محكماً شديداً من القوات الغازية استمر أربعة شهور ونيف, نتغذى على ما تيسر من معلبات الفول والحمص والطون والسردين, بلا لحوم ولا فواكه ولا خضار, نعاني من ندرة في ماء الشرب والنظافة, في فصل شديد القيظ والرطوبة العالية ليلا ونهارا, لا سيما أننا كنا نعيش جماعيا نتكدس بالعشرات والمئات في ملاجىء اسفل البنايات الشاهقة, لا منافذ لها. ننام ونصحو على على هدير الطائرات الإسرائيلية الحربية, وقصف البوارج الحربية, وحمم المدافع والراجمات والصواريخ.

وبينما نحن على هذا الحال، وصل إلى بيروت وفد من الفنانين والمثقفين المصريين التقدميين، للتضامن مع سكانها اللبنانيين والفلسطينيين والعرب, تتقدمهم الفنانة نادية لطفي, والمخرج علي بدرخان, والكاتبة الراحلة فتحية العسال (توفاها الله عام 2014), وآخرون.

ذهبت اليهم في الفندق للترحيب بهم، وشكرهم على مغامرتهم القومية الجريئة, قابلتهم وجلسنا نتحدث, يسألونني وأجيبهم على ما يحدث، وكيف نعيش في ظل العدوان الشاروني الوحشي، وأروي لهم بعض المشاهدات والحالات التي رايناها وعشناها.

كانت نادية لطفي تبكي أحيانا, وتحبس دموعها أحيانا, والتأثر والانفعال باديان على وجهها الجميل, أكثر من بقية أعضاء الوفد.

في نهاية اللقاء التعارفي الأول, اجتاحتني النخوة العربية وغلبتني, فدعوت الجميع الى الغداء في بيتي, وقلت لهم: أريدكم أن تروا كيف نعيش ونأكل ونشرب في ظل الحرب التي كان قد مضى عليها حوالي شهرين, فوافق الجميع على الدعوة في اليوم التالي، وشكروني سلفا, وأوصوني بألا أكلف نفسي فوق ما تطيق.

في تلك الأيام، كان الحصول على وجبة دسمة وشهية شيئا من المستحيل, ولأوضح لكم واقعية ما أقول, أؤكد أن فندق البريستول (أعرق وأفخر فنادق بيروت الغربية, وكان يسكنه في تلك الأيام بعض زعماء بيروت الغربية، مثل وليد جنبلاط وانعام رعد ومحسن إبراهيم وجورج حاوي, وبعض السفراء والديبلوماسيين الأجانب), كان يقدم بعض الأيام (المجدرة) فقط وجبة رئيسية لنزلائه , وبلا سلطة!

اتكلت على الله, وتدبرت أموري, استطعت شراء بعض سمك السلطان إبراهيم اللذيذ, وبعض لحم الخروف، الذي كان يهربه التجار عبر حواجز الحصار الإسرائيلية من بيروت الشرقية، التي تنعم بالأمان تحت سلطة القوات اللبنانية, الى بيروت الغربية ليبيعوه بأسعار باهظة, كما وفقني الله بتوفير بعض الفواكه والخضار مما يزرع في حدائق الدور وبعض العصائر والمياه الغازية, والحلويات!, ومن الله عليّ بأسطوانة غاز جهزت بها الطعام (كنت أعيش عازبا ووحيدا) مائدة عامرة وحافلة بالأطباق الشهية بالقياس للوضع العام, وجاء الضيوف المصريون في اليوم التالي، وبعض الأصدقاء اليمنيين واللبنانيين, وعندما رأوا المائدة العامرة صرخوا من هول المفاجأة, وأخذت الفنانة نادية لطفي تشهق وهي تصرخ وتقول لي: أستاذ كيف وفرت كل هذه المواد والأطباق؟ فأجبتها ألم تقرأي قول الله (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا, قال أنّى لك هذا يا مريم قالت هو من عند الله)! قالت سبحان الله إنه يرزق من يشاء بغير حساب!

أكلنا وشربنا وتناولنا الفواكه والحلويات وتحدثنا لساعات, وكلما حاولت أن أصورهم على المائدة, استنكرت واحتجت نادية لطفي, وحلفت الأيمان أنها لن تسمح بأي صورة على المائدة, وتقول ضاحكة: إذا نشرت هذه الصور فكيف سنقنع الشعب المصري عندما نعود أن بيروت تعيش في ضائقة ومعاناة بسبب الحصار الإسرائيلي؟ لا لا، مستحيل أن نتصور على المائدة, سنتصور بلا مشاهد الطعام الفاخر, لكي يصدقنا الناس أننا قاسمنا اللبنانيين جوعهم وعطشهم.

سرقنا من تلك الأيام المرعبة ساعات قليلة، تمتعنا فيها بروح الدعابة والنكتة المصرية اللطيفة, وبوجبة لذيذة هي الأولى والأخيرة خلال الحرب، التي امتدت منذ 4 يونيو الى نهاية اكتوبر.

رحم الله الفنانة نادية لطفي والأديبة فتحية العسال, وأمد الله بأعمار الآخرين, وبخاصة الفنان المبدع الرائع الجاد علي بدرخان، الذي أصبح صديقاً، قابلته مرارا في أثينا خلال السنوات التالية, وكنا نتذكر “وليمة” بيروت العجيبة، كأنها معجزة خارقة!

05/02/2020

المصدر: “المدارنت”.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. موقف الفنانين والأدباء المصريين الملتزمين يرفع له القبعة سابقاً ولاحقاً وإن تماهي بعض الفنانين مع موجة “هشك بشك” واللهو اللامنتمي لا يعبر عن روح الوطنية والقومية التي يتمتع بها الفنانين المصريين وما زالوا وموقف محمد إمام إبن الفنان القدير عادل إمام ومحمد صبحي مؤشرات لها الله يرحم الراحلين الكاتب العروبي محمد خليفة والفنانة القديرة ناديا لطفي والأديبة فتحية العسال وأسكنهم الفردوس الأعلى .

زر الذهاب إلى الأعلى