30 يونيو في مصر.. انقلاب أم ثورة؟

بشير حنيدي  

بعد سبع سنوات مرت على الحدث ، سؤال لا زال مشروعاً ، وإن بدا للبعض أنه قديم فات أوانه وفقد شرعيته ، خاصة بعد أن اتضحت النتيجة النهائية بعودة حكم العسكر ، وقطع المسار الديمقراطي الذي أطلقته ثورة يناير .
سؤال يبحث بطبيعة الحدث ومدى شرعية الحدث في حينه منطلقاً ومساراً وهدفاً ، ومن ثم يبحث عما وراء الحدث من دلالات ثقافية فكرية سياسية .. بصرف النظر عن النتيجة النهائية للحدث .. وكم من الأحداث المشروعة قد آلت إلى نتائج معاكسة  أفقدتها مشروعيتها عند البعض ، خاصة عند من يقرأ الأحداث قراءة سطحية بعيداً عن عمق الأسباب والعوامل الموضوعية التي تفاعلت في عمق الواقع فأنتجت الحدث  .
اختلفت المواقف من الحدث في حينه ، ولا تزال مختلفة تبعاً لمعايير مختلفة ، أهمها الموقف من جماعة الإخوان المسلمين أولاً ، والنتيجة النهائية للحدث بعودة حكم العسكر ثانياً .. لهذا طفت على السطح نظرية المؤامرة عند معظم رافضي الحدث .
بعيداً عن نظرية المؤامرة ، وعن الموقف من جماعة الإخوان المسلمين ، أعتقد أن الجواب على السؤال سوف يكون سطحياً قاصراً إن جاء مقتصراً على خلفية النتيجة النهائية للحدث ، ويستبعد الأسباب والعوامل التي أنتجت الحدث .. ذلك أن لما حدث في ــا 30 / يونيو أبعاداً مجتمعية تربوية ثقافية فكرية موروثة لا يمكن تجاهلها ، تفاعلت سياسياً في عمق التركيبة السياسية والمجتمعية ، فأسهمت بإنتاج الحدث بمرحلة انتقالية توافرت فيها لأول مرة على مدى عقود كل شروط وعوامل التفاعل السياسي إيجابياً على المستوى الشعبي   .
وباعتبار الحدث يتعلق بمسار التحول الديمقراطي الذي أطلقته ثورة 25 يناير ، فلا بد من الحديث بداية عن الثقافة الديمقراطية وآثارها على الحدث ، إذ لا يمكن فصل الحدث سياسياً عن هذه المسألة ، وعن مسألة الوعي الشعبي لمفهوم الديمقراطية ، خاصة عندما ينتقل المفهوم من دائرة التجريد النظري إلى حيز التطبيق العملي على أرض الواقع .
باختصار ، لقد تعددت واختلفت مفاهيم الديمقراطية بفضاء الثقافة الشعبية وفي أدبيات الفكر السياسي العربي ، وذلك تبعاً للتعدد والاختلاف بالرؤى والمذاهب الفكرية والأيديولوجية من يسارية وقومية وإسلامية وليبرالية وغيرها .
إلا أن كل هذه الاتجاهات أخيراً ، مع كل اختلافاتها وتناقضاتها الفكرية ، قد تبنت ” عملياً ” مفهوماً واحداً ، وهو المفهوم ( الليبرالي ) الذي يقوم على قاعدة ( التداول السلمي للسلطة )  .
من أجل إقامة البناء الديمقراطي على هذه القاعدة ، بأي أسلوب من أساليب البناء ، ثورياً كان أم إصلاحياً ، لا بد أولاً من إقامة القواعد اللازمة لمثل هذا البناء  ثقافياً وسياسياً ودستورياً وتنظيمياً .
ليست عملية سهلة إقامة مثل هذه القواعد ، خاصة بمجتمع لا يعرف على مدى قرون أولى أبجديات العملية الديمقراطية ، إنها عملية شائكة في غاية التعقيد ، ذلك أن الديمقراطية أولاً وقبل كل شيء ( ثقافة .. وتربية .. وسلوك ) ، وللأسف فإن مجتمعنا العربي عموماً – لأسباب وعوامل كثيرة – لا زال أبعد ما يكون عن هذه الثلاثية ..
الديمقراطية في الممارسة لا تقتصر على تغيير أو إصلاح منظومة المؤسسات والقوانين والتشريعات الدستورية ، إنما لا بد من تجاوزها إلى ما هو أبعد ، إلى تهيئة وتأسيس البنى التحتية الفكرية والثقافية .. كي تتحول الديمقراطية إلى سلوك مجتمعي عام ، يضمن توفير عوامل الثبات والاستقرار لتلك القواعد ، وإلا أصبحت عرضة للاهتزاز ، بالتالي أصبح البناء بأكمله عرضة للتداعي والانهيار .. وهذا ما حصل في مصر .. الانهيار في مرحلة إقامة القواعد .. قبل أن يرتفع البناء .
وأعتقد أن ما حصل أمر طبيعي جداً ، ذلك أن الموروث الثقافي الفكري يتناقض كلياً مع أبسط الشروط اللازمة لإقامة البناء الديمقراطي وفقاً للتصميم الليبرالي ( التداول السلمي للسلطة )  .
الموروث الثقافي الفكري ، لم يكن من  مخلفات النظام السابق لينهار بسقوطه إن سقط ولو بعد حين  ، إنما هو متجذر في عمق البنية الثقافية للمجتمع .. على مدى قرون وقرون في الكثير من جوانبه ، وعلى مدى عقود وعقود في جوانب أخرى  .
ما يهمنا بهذا الموضوع من هذا الموروث ، هو ما يرتبط مباشرة بمستحقات التحول الديمقراطي ، ذلك أنه قد أفرز تاريخياً إشكاليات سياسية فكرية معقدة ، تتناقض بالمطلق مع مستحقات العملية الديمقراطية بالمفهوم الليبرالي  .
إشكاليات إذا ما انتقلت إلى ساحة الممارسة السياسية بأعقاب الثورة ، لا بد أن تنعكس على أرض الواقع صراعاً سياسياً مباشراً ، ليس بين قوى التغيير والثورة وقوى المحافظة والثورة المضادة فحسب ، بل حتى بين القوى التي توافقت سياسياً على التغيير والثورة ، وهذا ما يصب في مصلحة قوى المحافظة والثورة المضادة ، بالتالي سوف يعرقل مسار التحول الديمقراطي ، وقد يجرد الثورة من مضمونها التقدمي ، أو حتى من شرعيتها الموضوعية .. فينظر إليها البعض أنها لم تكن إلا مؤامرة .. وهذا ما حصل في مصر .
نخرج قليلاً من دائرة التجريد الفكري ، لنتابع ما حصل سياسياً على أرض الواقع ، من خلال رصد الإحداثيات السياسية التي تفاعلت فأنتجت ما حدث في 30 يونيو .
بدأ مسار التحول الديمقراطي بعد تنحّي الرئيس المخلوع حسني مبارك ، بتهيئة الأجواء لإطلاق اللعبة الديمقراطية على أسس وقواعد النظام الليبرالي ، وقد دخلت جماعة الإخوان المسلمين اللعبة بواسطة جناحها السياسي ( حزب الحرية والعدالة ) تحت شعارها الأيديولوجي المعروف ( الإسلام هو الحل ) ، وهو شعار سياسي له من الجاذبية بعالمنا العربي ما يكفي لاستقطاب الأكثرية أمام صناديق الانتخاب ، بصرف النظر عن البرنامج السياسي لمرشح الإخوان ، وهكذا باختصار وصلوا إلى السلطة .
ما أن وصلوا إلى السلطة حتى وجدوا أنفسهم بمواجهة مباشرة مع كل التيارات السياسية الأخرى .. المؤدلجة منها والرافضة للأدلجة .. وإن تعددت أسباب وعوامل المواجهة ، فإن السبب الأبرز والأهم هو التمسك بالحق الأيديولوجي الموهوم عند كل المؤدلجين سياسياً ، وهو الحق بـ ( قيادة الدولة والمجتمع ) ، وحتى عند غير المؤدلجين ( الليبراليين وغيرهم –  وهنا المفارقة – بذريعة أن الأيديولوجيا فكر ماضوي متخلف لم يعد مناسباً للعصر ، وهم وحدهم من يمثل فكر الحداثة الجديد المناسب للعصر ، فهم وحدهم أصحاب الحق بقيادة الدولة والمجتمع كما يعتقدون ) .. إنها العصبية الفكرية السياسية كجزء من الموروث الثقافي الذي يتناقض بالمطلق مع أبرز استحقاقات التحول الديمقراطي .
ضمن هذه الأجواء .. لا بد من الصراع مع من يصل ديمقراطياً إلى موقع القيادة ، أياً كان انتماؤه السياسي أو الأيديولوجي ، ولهذا بدأ الصراع مع الإخوان المسلمين  .
وفقاً لمنطق العصبيات السياسية الأيديولوجية ، فالإخوان مثل غيرهم تماماً ، يعتبرون أنفسهم هم أصحاب الحق بقيادة الدولة والمجتمع ، بالتالي فمن حقهم تنفيذ مشروعهم الأيديولوجي الذي اختارته الأكثرية الشعبية عبر صندوق الانتخاب الليبرالي .
لتنفيذ مشروعهم الأيديولوجي .. فمن حقهم العمل على  ( أخونة الدولة والمجتمع ) ، كقاعدة للانطلاق نحو المشروع .. وقد عملوا بهذا الاتجاه منذ أن تسلموا مقاليد السلطة .
سياسة الأخونة كانت واضحة تماماً على كل المستويات ، حتى على مستوى الخطاب الإعلامي للجماعة ، دون أي إدراك لخطورة هذا النهج بمرحلة انتقالية على قدر كبير من الاضطراب والتعقيد .
ولعل ما قاله محمد البلتاجي يشير إلى أخطر مضامين هذا النهج  : ( البلد بلدنا ، واللي مش عاجبه يروح كندا أو استراليا ) .. وصفوت الحجازي أكد هذا النهج بصيغة اخرى ، وكأنه يتحدث وكيلاً عن الله في أرض مصر : ( .. إنتم يا علمانيين .. ما لكمش مكان في هذا الشعب .. اللهُ غالب على أمره ، اللي يزعل يزعل ، واللي يكرَه يكرَه .. لكن ربنا عز وجل غالب على أمره ، واللي مش عاجبه يعيش على أرض الله ، وتحت سماء الله ، وفقاً لدين الله .. فليبحث له عن أرض غير هذه الأرض ، وعن سماء غير هذه السماء .. ولن يكون على أرض مصر إلا ما يرضي الله عز وجل ، وشرع الله عز وجل ) .
هذا منذ البداية .. إنه نهج العداء والإقصاء باسم الدين لكل المعارضين لنهج الإخوان ، المؤدلجين منهم وغير المؤدلجين ، تمهيداً لإقامة البناء أيديولوجياً على قاعدة ( الحزب القائد للدولة والمجتمع ) ، وهذا ما يتناقض بالمطلق مع أبسط قواعد البناء الديمقراطي الليبرالي ..  وهنا بدأت قواعد البناء بالاهتزاز قبل أن يرتفع البناء .
تجاهل الإخوان أو جهلوا أن الديمقراطية الليبرالية التي قبلوا بها أخيراً بعد أن كانت كفراً وخروجاً عن الدين ، والتي توافقت عليها كل القوى السياسية ، ترفض بالمطلق حق الحزب الفائز انتخابياً ( بقيادة الدولة والمجتمع / وفقاً للمنطق الأيديولوجي التقليدي ) ، والحق الأقصى المقبول ليبرالياً للحزب الفائز في الانتخابات – خاصة بهذه المرحلة الانتقالية المرتبكة – هو ( إدارة الدولة والمجتمع ) / إدارة وليس قيادة .. إدارة من خلال العملية الديمقراطية ، بإشراك القوى السياسية الأخرى .. وليس إقصاءها عن مسرح العملية السياسية .
وقد عمل الإخوان منذ وصولهم إلى موقع القيادة ، على إدارة العملية السياسية بذات العقلية والأسلوب الذي ينتهجه مكتب الإرشاد بحكم وإدارة الجماعة ، أسلوب ( السمع والطاعة ) .
لتعميم سياسة السمع والطاعة للإخوان على مستوى مصر ، فقد ألغى محمد مرسي مثلاً الإعلان الدستوري المكمل الذي أصدره المجلس الأعلى للقوات المسلحة في ــا 17 / يونيو / 2012 ، وأصدر إعلان / 22 / نوفمبر الذي يقضي بحظر جواز الطعن على قراراته الرئاسية .. وباعتبار الطعن دستورياً يكون أمام القضاء ، يكون محمد مرسي قد صادر قرار القضاء مسبقاً وبشكل نهائي ، بالتالي أمسك بيده السلطة القضائية – التي يُفترض أن تتمتع بكامل الاستقلالية – إلى جانب السلطتين التنفيذية والتشريعية ، ولم يعد أمام أي من السلطات الثلاثة إلا السمع والطاعة لسيادة الرئيس المنفذ لسياسة الجماعة ..  وهذا ما يتناقض مع أبسط قواعد الديمقراطية بالمفهوم الليبرالي .. بل تلك ردة سياسية إلى الوراء ، وتأسيس لنظام ديكتاتوري جديد ، لا يختلف عن نظام ما قبل الثورة  .
مع استشعار الشارع السياسي بنهج الارتداد  –  وبعد فشل محمد مرسي خلال عام كامل بإنجاز أبسط الوعود التي تعهد بإنجازها خلال مئة يوم  ( حل مشكلة الخبز ، النظافة ، أزمة المرور … ) –  انتفض الشارع بموجته الثورية الثانية في ــا 30 / يونيو / 2013 ، مطالباً بعزل محمد مرسي وخروج جماعة الإخوان من الحكم  .
هذا باختصار أبرز ما حصل في ظاهر المشهد ، تعبيراً عن فشل الإخوان بإدارة المرحلة ، وهي مرحلة انتقالية مرتبكة على درجة كبيرة من التعقيد والحساسية ، تقتضي استيعاب شركاء الثورة من القوى السياسية الأخرى ، والتوافق معها على اسس مشتركة لإدارة المرحلة ، خاصة ان قوى الثورة المضادة لا تزال نشطة فاعلة ، وقادرة على العمل بالخفاء والعلن .
لم يكن فشل الإخوان ناتجاً عن قصور أو تقصير في الوعي السياسي فحسب كما يرى الكثيرون  ، ولا فقط عن نقصٍ في الخبرة السياسية بإدارة شؤون الدولة  ، إنما يعود إلى ما هو أبعد ..  إلى العقلية الأيديولوجية والثقافة الأيديولوجية ، التي تتناقض بالمطلق مع أبرز استحقاقات التحول الديمقراطي بالمفهوم الليبرالي ..
وأعتقد أنه لو كان غير الإخوان بموقع الإخوان ، أياً كان ( ناصرياً مثلاً ، أو يسارياً ، أو حتى ليبرالياً ) لفعل ما فعل الإخوان تماماً ..  ولو كان الإخوان في الطرف الآخر من المعادلة ، لفعلوا ما فعل غيرهم تماماً في 30 يونيو ..  وما فعل أي من الطرفين يكشف بوضوح عمق الإشكاليات الثقافية والفكرية التي تتناقض مع مستحقات العملية الديمقراطية بالمفهوم الليبرالي تحديداً  .
أمام هذه الإشكاليات وما نتج عنها ، توافقت موضوعياً الرؤى والمواقف في الفضاء المصري عموماً ، وفي الشارع السياسي تحديداً في مواجهة الإخوان ، توافقات شملت كل مكونات الدولة والمجتمع بدون استثناء ، الاجتماعية منها والسياسية والاقتصادية والثقافية والدينية وغيرها ، بما فيها ما يسمى مؤسسات الدولة العميقة ( الجيش والقضاء والشرطة وأجهزة المخابرات وغيرها ) ، وهي مؤسسات لا تزال تمسك بقوة بكل مفاصل الدولة والمجتمع .
أدت هذه التوافقات موضوعياً إلى وحدة كاملة في الهدف ، بين ما كان يشكل أقليات سياسية مبعثرة أمام صندوق الانتخابات الليبرالي ، لتنقلب المعادلة في الشارعين الشعبي والسياسي ، فتحولت الأقليات السياسية المبعثرة مجتمعة .. إلى أكثرية سياسية معارضة للإخوان ، وأصبحت أكثرية الأمس الإخوانية تعتبر أقلية اليوم ، واصبحت الجماعة الإخوانية الحاكمة لا تمثل في الفضاء السياسي والشعبي إلا الأقلية ، والإخوان بالأساس لم تكن لهم الأغلبية الشعبية كما كانوا يتوهمون ، أو كما كان يعتقد الكثيرون ، وأعتقد أن نتائج الانتخابات التي أوصلتهم إلى الحكم بتاريخ ـا 17 / يونيو / 2012 .. كانت دليلاً قاطعاً أن حجم شعبيتهم في الشارع المصري كانت أقل من 26 % ، فتكون نسبة معارضيهم أكثر من 74 % ، ومن هذه النسبة خرجت المليونيات إلى الشارع في ــا 30 / يونيو / 2013 ، بعد أن أصبح رصيد الكراهية للإخوان بلا حدود ، خلال عام واحد من الحكم كما قال أحمد منصور ، وباعتراف مفوض العلاقات الدولية للإخوان يوسف ندا في برنامج ( بلا حدود ) .
وإن كانت الشرعية الدستورية الليبرالية ( صندوق الانتخابات ) ، داعماً دستورياً لحكم الأقلية الإخوانية ، فإن الشرعية الثورية لا تزال في أوج فاعليتها ولم تهدأ بعد ، والشارع الشعبي لا يزال يعيش مرحلة الحراك الثوري بكل أشكاله وأساليبه ، لهذا فمن الطبيعي أن تتمرد قوى الأغلبية على الشرعية الدستورية ، لإعادة فرض الشرعية الثورية من جديد .. ومن هنا بعيداً عن نظرية المؤامرة ، تستمد الموجة الثورية الثانية شرعيتها  .
وإذا كان حسم الحدث في 30 يونيو قد جاء عسكرياً ، فذلك أن الجيش يمثل أهم مكونات الدولة والمجمع ، التي شملتها حالة التوافق في الرؤى والمواقف ووحدة الهدف .
وقد تجاهل الإخوان منذ تسلمهم موقع القيادة قوة المؤسسة العسكرية التي كانت ولا تزال هي صاحبة القول الفصل ، وهي المؤسسة الأقوى في الدولة والمجتمع ، وأهم عوامل قوتها ليس هو السلاح والتنظيم ومركزية القيادة فقط ، إنما هو تربية وثقافة العسكر المتجذرة على مدى عقود من الزمن ، وهي التربية والثقافة التي تتناقض كلياً مع أهم استحقاقات الديمقراطية الليبرالية ، وأهم هذه الاستحقاقات هو إبعاد الجيش عن السياسة ، وهذا ما لا يقبله العسكر ، ذلك أن منظومة العسكر اعتادت على مدى عقود أن تكون هي الأحق في السياسة ، وهي صاحبة الحق بقيادة الدولة والمجتمع .
بصرف النظر عن المواقف المختلفة من تحرك العسكر ..  فإنه بعودة الملايين إلى الشارع ، والانقسام العمودي الخطير الذي حصل في الشارع المصري ، أصبح الوضع ينذر بمواجهة دموية خطيرة جداً ، والإخوان كعادتهم منذ نشأتهم الأولى .. على استعداد تام ، مادياً ومعنوياً وتربوياً لمثل هذه المواجهة ، والجيش هو المؤسسة الوحيدة القادرة على حسم الموقف قبل أن تحدث المواجهة .
وقبل أن تحدث المواجهة بلحظة خطيرة من تاريخ مصر ، وجد الجيش نفسه بموقف تاريخي حرج ، وضعه أمام خيارين لا ثالث لهما :
–    إما مواجهة الحشود المليونية المنتفضة – فيحرق البلد كما فعل غيره من الجيوش العربية – دفاعاً عما يسمى بالشرعية الدستورية الجديدة ( وهو غير مقتنع بها أساساً ) .
–    أو الانحياز إلى شرعية الشارع المنتفض على حكم الإخوان .
وبدفع من الثقافة والعقيدة التي نشأ وتربى عليها ، اختار الجيش الخيار الثاني ، فجاء الحسم الثوري عسكرياً ، تأكيداً لحق الجيش بقيادة الدولة والمجتمع ، وحفاظاً على أمن وسلامة البلد  .
وبالحفاظ على أمن وسلامة البلد ، تكمن شرعية الحسم العسكري ، بصرف النظر عما يراه أنصار الإخوان أو أنصار الشرعية الدستورية من غير الإخوان ، ليأتي الحسم العسكري آنياً على الأقل متفقاً مع توجهات الغالبية الشعبية الساحقة ، وهكذا جاء الحسم العسكري انحيازاً لشرعية الموجة الثورية الثانية ..
وعندما اختطف الجيش الموجة الثورية الثانية لإعادة حكم العسكر ، فذلك طبيعي جداً ، ذلك أن عقيدة وثقافة العسكر تمثل جانباً من الموروث الثقافي والتربوي ، الذي يتناقض مع استحقاقات العملية الديمقراطية .
وفي ظل غياب أية حركة سياسية مؤهلة لأن تكون طليعة ثورية قادرة على تصحيح واستكمال مسار الثورة ، لإقامة البناء الديمقراطي وفقاً للتصميم الليبرالي على قاعدة ( التداول السلمي للسلطة ) ، فمن الطبيعي أن ينهار البناء في مرحلة رفع القواعد .. قبل أن يرتفع البناء .
بصرف النظر عن الموقف من جماعة الإخوان المسلمين ، هذا ما حصل بأعماق الحدث ، ليس تحليلاً سياسياً استناداً إلى موقف مسبق من جماعة الإخوان ، إنما هو رصد لإحداثيات الحدث كما حدثت على أرض الواقع ، وتشريح لما وراء الحدث من اسباب وعوامل فكرية ثقافية سياسية متوارثة ، تفاعلت موضوعياً وأسهمت بإنتاج الحدث  .
لا أحد ينكر غياب التدخل الخارجي عن الحدث ، وقد كان واضحاً كما في كل ساحات الربيع العربي ، وإن كان التدخل الخارجي قد جاء في إطار نظرية المؤامرة .. نتمنى من أنصار نظرية المؤامرة ، إن كانوا من أنصار الإخوان المسلمين ، أو من أنصار الشرعية الدستورية من غير الإخوان ، ألا يتجاهلوا أسباب وعوامل الفشل في الداخل ، التي لولاها .. لما نجحت المؤامرة .. إن كان هناك مؤامرة .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى