صادفت اليوم التاسع والعشرين من كانون الثاني/ يناير الذكرى الرابعة والاربعون لوفاة خير الدين الأسدي علامة حلب اللغوي الأعظم في العصر الحديث ( 1900 – 1971) , وهي مناسبة تعلو على ما عداها من مناسبات وأحداث مهما كانت أليمة أو سعيدة , نظرا لما للفقيد من أهمية وقيمة, وما له من فضل على مدينته حلب التي خصها بعصارة فكره وخلاصة عاطفته وروحه , بينما لم يجد من أهلها سوى الانكار والجحود .
خير الدين الأسدي المولود في حي الجلوم عام 1900 , عاش حياة زهد واعتكاف لا يقوى عليها إلا كبار المتصوفة والرهبان المتفرغون للعبادة , وعشاق المعرفة والعلم والابداع , لم يعرف عنه اللهو أو السفه أو الجهالة , بل عرف باستثماره الدقيق للوقت, وانتاجيتة العلمية العالية, وعزلته التامة عن الناس , راحته في جهده , ومتعته الكبرى بين التحصيل والتأليف , لم يتزوج , ولم ينجب , ولم يكن له أصدقاء مقربون سوى عدد من أقرانه أهل الابداع والفكر والدأب على العلم .
كان بيته صومعة راهب لا تشغله الدنيا , وأشبه بمتحف مغلف بالطلاسم تزدحم فيه الصور والآثار والقطع النادرة التي جمعها من رحلاته وأسفاره بين دول العالم شرقا وغربا , وكانت كلها رحلات أو بالأحرى .. مهمات علمية خالصة , وكانت حياته الخاصة وبيته مغلفين بالأسرار , لا يسمح بالاطلاع عليهما سوى لقلة من أصحابه الموثوقين, ولذلك ظلت تحوطه الأقاويل والشائعات التي يروجها سقط الناس والسفال والسوقة الذين يرون الحياة ميدانا للفساد والافساد وسباقا محموما الى الكسب ليس إلا, وإذا رأوا من لا يجاريهم ولا يباريهم رأوه شاذا أو سقيما أو معتوها!.
وللأسف الشديد جاءت نهايته تطبيقا فاجعا لهذه القاعدة السوقية , مات وحيدا وغريبا في المستشفى بلا قريب ولا صديق, وغادر حلب بلا تأبين ولا وداع ولا عزاء , مات مهزوما أمام تيار الفساد والتفاهة , وبخلت عليه المدينة التي وهبها كل حياته وتوجها بأعظم عمل موسوعي علمي في العصر الحديث بقبر يحصل عليه أي فرد قد توافيه المنية صدفة على ارضها , حتى ولو كان غريبا عابر سبيل .
مات ودفن في حفرة من التراب كما لو انه قطعة لحم لا هوية لها ولا كرامة ! وظل مجهول الموقع ردحا من الزمن ولم يستدل عليه إلا بشق الأنفس !
ترك الأسدي مؤلفات عديدة متنوعة , أبرزها وأعظمها قيمة بلا ريب (موسوعة حلب المقارنة) التي أنفق على اعدادها وتحقيق موضوعاتها عشرات السنين وتقع في سبع مجلدات كبيرة , تولى نشرها معهد التراث العلمي بجامعة حلب لجسامة كلفته مما ينوء به الأفراد . وهي تتناول كل ما يتعلق بحلب , من لهجتها العامية وأمثالها , وعادات أهلها وتقاليدهم , وأسواقها وحاراتها وقراها وآثارها ومعالمها , وتؤرخ صفحات مهمة من تاريخها القريب والبعيد , وهويات أعلامها وعظمائها .
وللراحل الخالد كتاب آخر عن المعنى اللغوي لحلب , وكتاب أدبي بديع أقرب للشعر الحر ( أغاني القبة ) تندرج نصوصه في خانة الادب الصوفي الجميل . وله مؤلفات نحوية ولغوية عديدة .
في مطلع شبابي وكنت قد حددت سبيلي في الحياة محبا للأدب ومكبا على النهل من ينابيع الثقافة والمعرفة كافة , سمعت باسم خير الدين الاسدي , وعرفته بملامحه الحزينة وملابسه البسيطه وجسده النحيل , والحقيبة التي يحملها دائما بيده اليمنى السليمة , وكنت كثيرا ما أصادفه في شوارع حلب بين شارع بارون والعبارة والجميلية , وكنت أحييه باحترام , وأحيانا أسأله في عجالة عن معنى كلمة أو عبارة أو اسم أو مثل دارج .. وكان رد فعله دائما يمتاز باللطف والرقة والتواضع . وعزز العلاقة بيننا وبينه أن واحدا من أعضاء شلتنا المصغرة , وهو صديقنا العزيز مضر صقال هو ابن المربي الراحل لطفي الصقال , وهو من أهل الثقافة والعلم وأحد الزهاد بالدنيا أيضا , وقد كان صديقا مقربا للأسدي , ويحدث احيانا أن يرسل الأب ابنه مضر الى بيت الاسدي في مهمة خاصة لنقل رسالة أو استرداد كتاب .. ولذلك كان صديقنا مضر من المحظوظين القلائل الذين يدخلون صومعة الاسدي المحاطة بالاسرار , وكان يعود ليروي لنا مشاهداته الغرائبية المثيرة , ويصف التماثيل واللوحات والصور الكثيرة التي يضمها البيت والتي جمعها من كل بلد وكل مدينة في العالم .. وكنا نزداد فضولا وشغفا لرؤية البيت من الداخل .. ولكن هيهات . وكنا نكتفي بالدقائق المعدودة التي نلقاه بها في الطريق , وغالبا ما كانت تحصل أمام (مكتبة الشهباء) عند تقاطع شارعي بارون والقوتللي .. إلى أن سمعنا أنه مات فحزنا عليه وأدركنا أننا لن نستطيع لقياه مرة أخرى , وأن حلب خسرت به أحد أعظم علمائها المجدين وعباقرتها النادرين .
يرحمه الله رحمة واسعة .
المصدر: صفحة محمد خليفة على الفيسبوك
29_ 01_ 2015