سوريا بلاد الفزعة.. بين العشائرية والطائفية والوعي العشائري والطائفي

أحمد جاسم الحسين

تعادل الفزعة في الشرق، بمعنى ما، العمل التطوعي في أوروبا، غير أن الآليات والأهداف تختلف تبعاً لاختلاف ظروف البلدان الأوروبية ونمط الشخصية وما يراد منها، فالعمل التطوعي في أوروبا عمل غير مأجور، يفعله الشخص في حيه أو عبر منصة وطنية للعمل التطوعي، وفقاً لما يرغب أن يفعله، وقد عملت شخصياً إبان إقامتي 12 عاماً في هولندا، عدداً من الأعمال التطوعية ومنها العمل في مكتبة كدليل للقراء.

الفزعة في الشرق هي كذلك عمل إسعافي تطوعي لتغطية حالة طارئة أو مساعدة أقارب أو معارف أو جيران بعمل في الأرض أو البناء أو سوى ذلك، وأذكر في أيام الطفولة أن الفزعة كانت تحضر كثيراً إبان فترة الحصاد، أو نتيجة تعرض محصول ما للتلف، أو تعرض عائلة ما لحريق، أو صب سطح بناء ما ، أو إبان “فتل الشعيرية اليدوية” أو حالة طارئة ما، سرعان ما يهب كل من يرى الحدث للمساعدة.

قد يكون جانب من الفزعة ما تفعله سيارات الإسعاف من خلال سرعة التلبية مثلاً، والفزعة عادة ما تكون عند الخلافات والنزاعات أو فزعة مالية أو فزعة مناسبات أو قتال ودفاع لحماية أرض أو عرض.. وهي تعكس روح التضامن والوفاء والانتماء.

كان السوريون قبل أحداث الأيام الأخيرة يكادون أن يكونوا مجمعين على أن الاستعانة بإسرائيل ضرب من الخيانة نتيجة ترسيخ الفكرة من قبل النظام السابق، وكون مفهوم الاستعانة على ابن البلد بالخارجي الآخر منافية لمفهوم المواطنة والدولة..

والمقارنة بين دول مستقرة ودول خارجة من النزاع الأهلي أمر غير سليم تماماً؛ إلا من حيث محاولة تحديد المصطلحات واختلاف المفاهيم بهدف تشكيل معرفة أكثر دقة من باب أن الشيء يعرف بمقارنته بضده، ذلك أن البلدان المستقرة لم تصل إلى ما وصلت إليه إلا بعد المرور بمخاض عسير طويل.

سوريا اليوم تمر بمرحلة صعبة جداً، لذلك تتم الاستعانة بكل انتماءات ما دون الدولة والمواطنة نتيجة الخوف وعمد الثقة بين أبناء البلد الواحد، بل إن البلاد تشهد استعمال مصطلحات ما قبل العمل السياسي من مثل الفزعة العشائرية نتيجة فائض القوة عند طرف ما على حساب طرف آخر، أو استعانة طرف داخلي بدول للشعور بالضمان والأمان.

كان السوريون قبل أحداث الأيام الأخيرة يكادون أن يكونوا مجمعين على أن الاستعانة بإسرائيل ضرب من الخيانة نتيجة ترسيخ الفكرة من قبل النظام السابق، وكون مفهوم الاستعانة على ابن البلد بالخارجي الآخر منافية لمفهوم المواطنة والدولة، بل إن القانون السوري يجرم ذلك.

اليوم تغيّرت كثير من المفاهيم، الوضع السوري ركوة قهوة تغلي على النار لذلك كل دقيقة يمكن أن تطفو القهوة خارج الحسابات، خارج الركوة والصندوق المخصص لها، يمكنك أن تحاول أن تبعد الركوة عن الغاز فتنحرق يدك، يمكنك أن تصب منها للضيف فيمتلئ الفنجان أو يفسر ضيفك ذلك عدم تقدير، كل كلمة اليوم في سوريا تقبل أن تفهم بغير سياقها أو المراد منها.

الوضع السوري اليوم ليس مشكلة فصائل عسكرية مختلفة فيما بينها، بل استعصاء سياسي، واختلاف رؤى وصراعات لها مظاهر متنوعة، قد يكون الصراع الطائفي والعشائري أحد جوانبه، وهي أنواع من الصراعات الأهلية قد تبرز بقوة بعد مراحل انتصار الثورات أو الرحيل المفاجئ للأنظمة القمعية خاصة إن تمّ إشعاله بأيد خارجية.

من السهولة اليوم التبرؤ أو الانتساب إلى الطائفية أو العشائرية أو رمي الآخر بها، لكن من المهم كذلك ألا ننسى الوعي الطائفي والعشائري فكثير ممّا يرمي به سوري اليوم سورياً آخر يكون هو واقع فيه، ولا يدري حتى إن اختلفت اللغة أو المصطلحات.

الخلاف في سوريا اليوم في أحد جوانبه خلاف على شكل الدولة، واعتراض على المنتصرين ورغبة بالمشاركة في رسم شكل الدولة السورية المستقبلي، وكذلك خوف السوري من السوري الآخر، وعدم الثقة.

من الصعب الطلب من السوريين اليوم بعد هذه التجارب الصعبة التي مروا بها الانتقال مباشرة من العشائرية إلى الوعي العشائري أو من الطائفية إلى الوعي الطائفي، وقد يكون هذا الوعي مدخلاً لتوظيف انتماءات ما دون المواطنة لتكون سبباً في بناء الدولة، من خلال التعويل على إدراك الوعي الاجتماعي والمدني للعشيرة والطائفة وأعرافها في حفظ الأمن المحلي وحل النزاعات دون عنف وعدم المصالحة الوطنية ومواجهة الفوضى ودعم الاستقرار.

صحيح أن الطائفية تقوم على الانتماء الديني أو المذهبي، والعشائرية تقوم على الانتماء العرقي والقراباتي، إلا أنّ التوظيف الطائفي تتم ترجمته في الخطاب السياسي والديني، فيما العشائرية تكون فكرة الولاء فيها للتضامن الاجتماعي خاصة، هنا يحضر جدل الدين الطائفي وهناك يحضر شيخ العشيرة.

يمكن في إطار الصراع الدائر في سوريا أن تكون مغنياً وفناناً تغني في عدة أماكن من العالم، لكنك يمكن أن تعود إلى استعمال الزيت المغلي ضد كل من يمر أمامك!

السؤال المؤلم: كيف تحوّلت الفزعة اليوم من فزعة على الخير أو إغاثة الملهوف أو المساعدة إلى فزعة فريق سوري ضد فريق آخر وكل منهما يعتقد أنه صاحب الحق، وأنه مالك للحقيقة وأنه الأجدر بها؟

قبل سنوات لم يكن ليختلف سوريان حول مفهوم الفزعة وأنها نصرة منظومة قيم، لكنها اليوم هي فزعة من أحبّة على أحبّة لسوريا، كل منهم يعتقد أنه أولى بها أو أجدر برسم مستقبلها، الصراع اليوم بين البدو والدروز في سوريا وما يستحضره من مصطلحات ومنظومات وقيم وأفكار في جانب من جوانبه صراع اجتماعي ومفاهيمي.

يمكن في إطار الصراع الدائر في سوريا أن تكون مغنياً وفناناً تغني في عدة أماكن من العالم، لكنك يمكن أن تعود إلى استعمال الزيت المغلي ضد كل من يمر أمامك.

البداوة اليوم ليست إشارة إلى مرحلة اجتماعية هي ما قبل عهد الفلاحة والتمدن والمدينة، بل اليوم هي حالة تفكير ونمط استعلائي انغلاقي على الذات، لذلك قد تكون فناناً أو موسيقياً أو ممثلاً وتظن أنك أبعد ما تكون عن البداوة والعشائرية بمفهوم العصبة ولكن يجلس في رأسك مجرم متحضر، بلا قيم أو مبادئ، فنتحسر على أيام البداوة بما فيها من فطرية وقيم بسيطة.

الوعي العشائري والطائفي والبدوي اليوم في سوريا يتم توظيفه بطريقة مؤلمة، فبدل أن يكون عامل رفعة وخطوة إلى الأمام في الجانب الإنساني، ها هو يصبح عامل فرقة وتوظيف لمعركة لمزيد من اللاإنسانية بين أبناء البلد الواحد الذين يدعي كلهم وصل ليلى/ وليلى هذه المرة هي سوريا ولا تقر لأي منهم بالأحقية بتمثيلها، لأنّها ترى أنهم يجب أن يكونوا أجمل من ذلك وأكثر إنسانية.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى