لماذا نعود إلى نقطة الصفر!

   جمال سليمان

منذ الأسابيع الأولى لانطلاق الثورة السورية تداعت القوى السياسية والشخصيات الوطنية، التي استشعرت الثمن الباهظ الذي يمكن لسوريا أن تدفعه، لو توسع نطاق الصراع و ازداد عنفاً. إلا أن نظام الاستبداد في سوريا رفض كل دعوات الحوار الوطني الجامع، من أجل انتقال سياسي سلمي، يوقف المقتلة الجارية، و يضمن سلامة البلاد و العباد، و يؤسس لعهد جديد يكون الوطن فيه فوق شهوة السلطة، و السوريون شركاء فيه بصرف النظر عن أديانهم وطوائفهم وانتماءاتهم المناطقية أو العشائرية أو العرقية، حيث المواطنة فوق كل الاعتبارات و الانتماءات. إلا أن النظام محكوماً باستكباره ورهاناته الإقليمية والدولية، أرادها حرباً رمى في نيرانها كل سوريا وكل السوريين، ظناً منه أنه سينجو وحده من نيرانها، وسيحكم البلاد إلى الأبد. و لكن هيهات هيهات.. فإشعال النيران أسهل بكثير من إطفائها، حيث وصلت إلى قلبه، فانهار بساعات، وهرب رأسه بشكل مهين تحت جنح الظلام. حدث ذلك في لحظة ظنها هو ومؤيدوه، وحتى خصومه، أنها لحظة انتصار، حيث بدأت السفارات بنفض الغبار عن مكاتبها المغلقة وبدأ موظفوها بلم حقائبهم تمهيداً للعودة إلى دمشق لاستئناف العمل فيها.

 

خلال سنوات الصراع هذه عقدت الكثير من المؤتمرات والاجتماعات الإقليمية والدولية وتم اختراع، أو ابتكار مسارات ومجموعات عمل من أجل سوريا، وكذلك تجمعت قوى المعارضة على اختلاف أطيافها، من أجل تقديم تصورات وحلول وخرائط طريق لإيقاف المقتلة والخروج بحل ينقذ البلاد من أتون الحريق. وكان مؤتمر القاهرة عام 2015، واحداً من هذه التجمعات السياسية الوطنية، التي أرادت تغليب المصالح الوطنية على كل الاعتبارات الأخرى. ورأت أن استمرار نظام الاستبداد والقتل والاعتقال يتنافى مع هذه المصالح، وأنه لا بد من انتقال سياسي نحو نظام جامع لكل السوريين، يقوم على المشاركة السياسية ومبادئ المواطنة، محرراً الدولة السورية ومؤسساتها من هيمنة العائلة الحاكمة.

طبعاً، و كما جرت العادة تم الطعن بالمؤتمر وأعضائه واتهامهم بالخيانة. النظام اتهمهم بخيانة الوطن، وفريق من المعارضة اتهمهم بخيانة الثورة ودماء الشهداء. وأنا هنا، ومن خلال هذه السطور، لا أريد العودة للرد على هذه الاتهامات، لأنها أصبحت من الماضي ولا مكان لها الآن، ومتأكد أنه ستأتي في سوريا أجيال أتمنى أنها ستكون أفضل منا، تراجع وتحلل وتقيم تجارب الجميع وتضعها في ميزان الموضوعية والإنصاف، لأنها جزء من تاريخ ثمنه دماء ومعاناة وقهر.

 

الذي يهمني في هذه الرسالة هو ما يجري اليوم من عنف و قتل وتخوين، ونيران أملنا أنها انطفأت، إلا أنها عادت لتشتعل لا بفعل التدخلات والتأثيرات الخارجية فقط، وإنما أيضاً بفعل تقصيرنا وعدم ثقتنا ببعضنا البعض وضعف يقيننا بأننا في مركب واحد، إما أن ننجو معاً أو نغرق معاً. ولكي ننجو، لا بد لنا من نبذ فكرة التغلب والغلبة، وإجراء حوار وطني عميق وصريح من أجل الوصول إلى مشتركات نلتف حولها ونلتزم بها ونخلص لها. وكي نصل إلى هذه المشتركات، لابد من تقديم التنازلات الطوعية المشتركة، لا تنازلات يفرضها طرف على طرف. الخطابات الحماسية و العبارات البراقة والشطارات اللغوية لم تعد تنفع، ولو كانت تنفع لنفعت النظام البائد.

لا مستقبل لفريق واحد في سوريا، بل هناك مستقبل مشترك لكل من يؤمن بالوطن السوري، ولكل من لا يريد رؤية المزيد من الدماء، والضحايا المرمية بين الحقول وعلى أطراف الطرقات. وفي مسيرتنا نحو المستقبل يجب أن لا نعتمد إلا سلاح واحد وهو سلاح نزع الألغام المزروعة على طريقنا نحو السلام والاستقرار والازدهار ومواجهة التحديات التنموية الكبرى التي ما زالت تواجهنا، فما زال مئات آلاف من أطفالنا ونسائنا وشيوخنا يعيشون تحت الخيم ويكابدون أسوأ الظروف.

من هذه الألغام و ربما في مقدمتها، موضوع المركزية واللامركزية. وهو ليس بالأمر المستحدث، فقد عقدت من أجله ندوات ومؤتمرات، كان موتمر القاهرة واحداً منها، وغاصت به مراكز بحثية مرموقة، وتحدثت به عقول سورية نيرة ومخلصة، نتج عنها خزانة من الاستنتاجات والمقترحات والتصورات، فما حاجتنا لأن نبدأ من الصفر، و ما هي الحكمة من إهمال أو تجاهل كل هذا الجهد الكبير.

 

لا أزعم أبداً أن الأمر يسير والاتفاق جاهز للتوقيع. ففي الدورة الثانية من مؤتمر القاهرة، حزيران 2015، و في معرض الاتفاق على “وثيقة العهد الوطني”، كان موضوع اللامركزية واحداً من أكبر التحديات التي هددت المؤتمر بالفشل. صحيح أن جميع القوى اتفقت على مبدأ اللامركزية، ولكن الخلاف كان حول تعريف هذه اللامركزية التي أقرها النظام البائد من خلال قانون الإدارة المحلية. فأكثر القوى الكردية المشاركة في المؤتمر أرادتها “لا مركزية سياسية”، في حين رفضت القوى الأخرى، و على رأسها القوى العروبية، هذا المبدأ، واعتبرته تهديداً لوحدة سوريا، وأنه بدلاً من ذلك لا بد أن نتبنى مبدأ “اللامركزية الإدارية الموسعة”. بين هذين المفهومين اشتعل النقاش وأحياناً ارتفعت الأصوات واحتدت الطروحات. وكان واضحاً أنه وراء كل ذلك لا غياب الموضوعية فقط، بل أيضاً انعدام الثقة والشك بنوايا الآخر. فالعروبي كان يتوجس من نوايا انفصالية يضمرها الطرف الكردي، والطرف الكردي كان يتوجس من نوايا هيمنة وإقصاء وتهميش يضمرها الطرف العروبي. ولكن بعد طول نقاش، أو بالأحرى صراع، توصلنا إلى صيغة، أو ربما اصطلاح جديد و هو “اللامركزية الديموقراطية” لا “السياسية” و لا “الإدارية”.

طبعا الأمر لم يمر من دون انتقاد وتشكيك، لأن المصطلح فضفاض حمال أوجه، ويمكن لكل طرف أن يتوسع به أو يختصره بما يناسب رؤاه ومصالحه، ولكن الأكيد أنه يصلح أرضية لبناء الثقة، وتحمل المسؤوليات الوطنية، ولحوار وطني صادق و بناء. وإذا كان الشيطان كامناً في التفاصيل، فدعونا نواجهه معاً بدلاً من تركه يعبث بنا.

 

طالما أن وحدة سوريا أمر أقرت به من خلال بياناتها و تصريحات قادتها جميع القوى السياسية و المجتمعية السورية، وطالما أن اللامركزية ليست لخدمة طرف على حساب طرف آخر، ولن تهدد وحدة سوريا، بل هي مسار نحو السلم الأهلي والرضى المتبادل والمستقبل المشترك في سوريا الموحدة، تحت علم واحد وجيش واحد ودستور واحد وعملة واحدة وسياسة خارجية واحدة، فلماذا لا نبدأ، ولدينا كل هذا التراكم من العمل السابق الذي يمكن لنا أن ننطلق منه؟ ما حاجتنا لأن نعود إلى نقطة الصفر؟ الأمر ليس سهلاً ولكنه ممكن، وتكلفته أقل بكثير من ترك الأبواب مفتوحة للتدخلات الخارجية، ومن تكلفة الدماء التي تسفك، والأرواح التي تزهق، ونيران الكراهية التي تنتشر وتتوغل وستحرقنا جميعاً ما لم نتحد لإطفائها.

نعم نحن مختلفون، ولكن ما الضير في ذلك إذا استنهضنا إرادتنا المشتركة واتحدنا لنبني معاً غدنا الذي نتمناه ويستحقه أبناؤنا.

 

 

المصدر: المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى