“ثورة المقاهي” في سورية… ما سرّها؟

طارق علي

تعيش سوريا ما يمكن لحظه بيسر شديد وتسميته اصطلاحاً وشعبياً بثورة المقاهي التي انتشرت حتى كادت تسيطر على شوارع وتجمعات بأكملها، شوارع فرعية ورئيسية، طبقات أرضية وسفلية وعلوية، استثمارات في كل مكان وأينما أتيح ذلك، في العقارات والحدائق وعلى الطرق العامة أيضاً.

قد يبدو اتخاذ مدينة حمص مثلاً لذلك الأمر أكثر شمولية وإيضاحاً، وهو ما يحاول “النهار العربي” العمل على مقاربته انطلاقاً من مدينة أكثر من نصفها مهدم وأكثر من نصف سكانها مهجر ولم يعد.

في مدينة كتلك من البديهي ألّا نجد المولات والحدائق الكبرى وسبل الترفيه بجلّ أنواعها، لكنّها اليوم تتسيد مشهد المدن التي طغت عليها المقاهي في كل زواياها. حيٌّ واحد فيها اليوم مثلاً تحول بأكمله إلى مقاهٍ بينها منازل سكنية، لدرجة وجود نحو 12 مقهى في مساحة داخله لا تتجاوز ألفي متر مربع، وحسابياً ذلك الرقم كفيل بإيضاح كمّ التجاور بين المقاهي، بل والتصاق بعضها ببعض إلى حدّ بنائها مخالفات على حساب بعضها.

وكذلك حال بقية المحافظات، ولكن بنسب متفاوتة، ودمشق دائماً على رأس القائمة، تليها حلب واللاذقية وطرطوس، واليوم حمص تنافس العاصمة، هذه المقاهي شكلت مصادر دخل إضافية مرتفعة جداً لأصحابها المؤجرين والمستأجرين.

كانت تلك العقارات تؤجر في مراحل سابقة، في الحرب، أو قبلها، كعقارات استثمارية لمهن ومصالح متنوعة، لكن دخول المقاهي على قائمة الحسابات غيّر المعادلات والأسعار، فصار ينحو معظم أصحاب تلك العقارات لتأجيرها مقابل بدلات مادية باهظة وبغير الليرة السورية رغم المخاطر القانونية التي لا بد من أنّهم وجدوا حلاً لها.

علاء عمر مستثمر لأحد تلك المقاهي في مدينة اللاذقية، يدفع شهرياً ما يعادل قيمة 15 غراماً ذهباً لصاحب العقار، صحيح أنّه يدفعها بالليرة السورية ولكن بحسب سعر صرف الذهب، وكذا يحمي صاحب العقار نفسه.

يقول علاء: “هي طريقة يلجأ إليها معظم أصحاب العقارات، فـ 15 غرامَ ذهبٍ تعادل شهرياً نحو 12 مليون ليرة سورية بسعر اليوم أي 850 دولاراً تقريباً، ولأنّ القانون يمنع أن نكتب في العقد أي قيمة غير الليرة فنحن نكتب عقدنا السنوي بأي قيمة نقدية منخفضة لا أهمية لها، ولكنّه يأخذ عليّ “سندات أمانة” ليضمن حقه”.

وكذلك حال ناصر سليمان الذي يدفع قرابة 1400 دولار شهرياً لقاء إيجار مقهى في دمشق، يدفعه أيضاً بالليرة السورية، ولكن وفق سعر صرف الدولار، يقول: “سجلنا العقد في البلدية بقيمة 5 آلاف ليرة شهرياً (ثلث دولار)، (هذا مسموح تاريخياً كعرف للتهرب من ضرائب باهظة)، لكنّ صاحب العقار حصل مني على 12 سند أمانة بقيمة الدولار، وهو أمر مسموح به حين يكون على شكل سند أمانة، مقابل اتفاق (برّاني) على تجديد مدة العقدة لخمس سنوات ولكن كل سنة برقم جديد بحسب ما تكون عليه الأحوال الاقتصادية”.

في هذا الإطار يعتقد مراد عباس، وهو مستثمر سابق، أنّ ما تعرض له هو سابقاً، وما يتعرض عليه مستثمرون حاليون الآن هو أقذر أشكال الاستغلال على حدّ وصفه، قائلاً: “الآن أصبح من يملك مقهى – عقاراً يستأهل الحسد ويتطلب ويتشرط من دون أن يراعي إمكان أن يصيب سوء الطالع هذا المقهى وألّا يتمكن من العمل، وكثير من المقاهي تعرضت للخسارة والانكسار وعاد المستثمرون على الحديدة”.

التكلفة المتوقّعة

“النهار العربي”، بعدما التقى العديد من المستثمرين، توصل إلى أنّ افتتاح مقهى يكتسب الصفة العصرية الجيدة وبمساحة مئة متر وسطياً قد يحتاج أكثر من 30 ألف دولار وربما إلى مئة ألف دولار.

وإذا كان العقار أساساً ضمن الحالة المتوسطة الإنشائية وما دون، فهنا يخضع الأمر لاتفاقيات جديدة تتعلق بالأجور الشهرية والمدد الزمنية كما فعل حسّان حمادة، وهو مستثمر لأحد المقاهي في حمص حيث حصل على الاستثمار بأجر لا يتعدى 300 دولار شهرياً وبعقد زمني يمتد لـ10 سنوات مقابل إكساء العقار وتجهيزه وإرجاعه بحالة ممتازة حين انتهاء المدة.

“حرّكت البلد”

تلك المصالح حققت نشاطاً اقتصادياً واسعاً وحركة لليد العاملة، إذ يبدأ اعتماد تلك المقاهي في الحالة المتوسطة على ما لا يقل عن عشرة عاملين وقد يصل حتى خمسين عاملاً وفق توزيع ساعات الدوام، وفي الوقت ذاته تشكل متنفساً هائلاً لفئة شابة لا أعمال لديها إلا في النهار (طبيعة سوق العمل).

فطبيعة سوق العمل السوري لا تسمح غالباً بممارسة الأعمال الليلية أو بالأصح لا تتيحها، وإن كان الأمر في دمشق نسبياً أفضل بقليل، ولكنّه دونها معدوم تماماً، فينتهي الناس من وظائفهم في القطاعين الخاص والعام مع ساعات الظهيرة التي يحصلون على قسط استراحة بعدها لتبدأ حياتهم الاجتماعية في ما بعد ساعات العصر وحتى قرابة منتصف الليل تقريباً.

تظل تلك المقاهي ممتلئة عموماً (ما رزق منها) لتعطي انطباعاً جميلاً عن شكل الحياة ودورانها تحت ظرف أسعارها المقبولة وما دون المتوسطة (بالمتوسط “تصنيف نجمتين” لا يتخطى حساب طاولة شخصين 3 دولارات – 2 قهوة مع نرجيلة ومياه في مجمل المحافظات، وقد يصل إلى الضعف في دمشق). وليس خفياً أن السر في جذب الزبون اليوم هو أن الجميع صار يقدم المتة التي سيطرت على الناس في الحرب بفعل الحصار داخل المنازل والتي لم تعد حكراً على أحد أو منطقة.

زبائن دائمون

ميرنا جمال طالبة جامعية اعتادت ارتياد المقهى مرتين أو أكثر أسبوعياً في مقاهي حمص، تقول لـ”النهار العربي”: “غالباً أنا زبونة لمكان واحد أرتاح فيه، وغالبية الزبائن كذلك، يختارون مكاناً واحداً ومع الوقت يحظون بمعاملة جميلة ولطيفة، وقد تنكسر تلك القاعدة عند افتتاح مقهى جديد، إذ تجربه أعداد كثيرة، بعضهم يصبح زبونه والآخر يعود إلى مقهاه القديم”.

وتضيف: “هناك أنواع للنراجيل، فمثلاً إذا كنا أربعة أشخاص مع نرجيلتين و4 كؤوس متة، مع سعر عبوة المياه، لن يتجاوز الحساب 70 ألف ليرة سورية (5 دولارات)، والأمر مقبول قياساً إلى ثورة الأسعار التي لا تصدق حولنا، فالتكسي اليوم تأخذ منك في مشوار بسيط هذا الرقم، علماً أنّ المقاهي لا تلزمك بوقت للجلوس، يمكنك أن تظلّ ما تشاء”.

وكذلك يجد مؤيد سليمي راحته في أحد المقاهي التي يواعد أصدقاءه فيه بعد التاسعة ليلاً بغرض لعب الورق، “يمكننا أن نظلّ للثانية أو الثالثة فجراً، يكون قد خفّ عدد الزبائن، وكل تلك الجلسة لن تكلف 50 ألف ليرة من دون نراجيل (3 دولارات)”.

ثورة حقيقيّة

“النهار العربي” لم يكن يبحث عن المقاهي، فهي موجودة في كل وقت، بل عن ثورة حقيقية في تعدادها الذي يقترب من ألّا يُحصى إذا استمرت هذه الحال، وكذلك عن قدرتها جميعها على العمل وإغراء الزبون والمنافسة واجتراح حلول التشغيل وابتداع الديكور واستسقاء نماذج عالمية وأفكار جديدة في بلد كانت مقاهيه قبل الحرب معدودة (حمص كمثال من جديد كان فيها 3 مقاهٍ فقط عام 2011).

تلك المقاهي مزدحمة ومتنوعة وغنية وجديرة بمكانها وشغل حيزها هذا، وفضلها في تأمين الكسب الإضافي وتشكيل مصدر أرزاق لمئات وربما آلاف الشبان في ظل مصالح أخرى قد تكلف أكثر وتتطلب وقتاً وجهداً أعلى لكنّها لا تؤمن ذلك الدخل.

وكلّ ذلك يتماشى مع جانب عصري يواكب نتاج هذا المشروع في الخارج ويحاول نقله كتجربة إلى الداخل، تجربة تقدم للزبون كل ما يحتاجه وضمناً الكهرباء التي توفر للمهندسين وغيرهم إمكان العمل على أجهزتهم، فضلاً عن الدفء في الأيام القادمة من دون إلزام الزبون بساعات جلوس محددة أو مدفوعات إضافية، ما يضمن استمرار إيجاد بيئة تعوض السكان عن غياب الرفاهية دون دفعهم لإغداق أموال تتجاوز قدراتهم.

المصدر: النهار العربي

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. لقد أصبحنا في عصر التفاهة ، كثرة المقاهي ليس لتبادل الآراء الفكرية والسياسية ولكن لتكريس التفاهة ولعب الورق وطاولة الزهر و,, والنرجيلة بالإضافة لتوفر النيت والكهرباء والدفْ .إنها سورية الأسد سورية عصر التفاهة بالمقاهي .

زر الذهاب إلى الأعلى