توماس باراك: يجب حل قسد ودمجها مع مؤسسات الدولة

مع دخول سوريا مرحلة ما بعد الحرب، وبدء إعادة تعريف مؤسساتها وممثليها، يبرز سؤال ظل مؤجلاً لعقدٍ كامل: من يمثّل الفلسطينيين في سوريا الجديدة؟ الفلسطيني السوري، الذي كان شريكًا في النسيج الاجتماعي والسياسي لعقود، عاش نكبة ثانية بعد عام 2011، ووجد نفسه على هامش التمثيل، خارج دوائر القرار، وتحت وصاية فصائل فقدت شرعيتها الشعبية. هذا المقال محاولة لطرح السؤال المؤجل سياسيًا: لماذا غاب التمثيل، وكيف يمكن استعادته على أسس جديدة من الشراكة والشرعية الشعبية؟

التمثيل الفصائلي: إرث أم مأزق؟

طوال عقود، ارتبط تمثيل فلسطينيي سوريا ببنية فصائلية ركّزت على الموالاة الإقليمية أكثر من تمثيل الناس فعليًا. توزعت هذه الفصائل بين تحالفات مع النظام السوري، أو ارتباطات بأجندات إيرانية وأخرى عربية، من دون أن يكون للفلسطينيين داخل سوريا صوت حقيقي.

مع انطلاق الثورة السورية عام 2011، كُشف الغطاء عن هذا النموذج: بعض الفصائل قاتلت إلى جانب الأسد، في حين صمتت أخرى عن المجازر بحق المخيمات، خاصة اليرموك، وحندرات، ودرعا. هذا السلوك أدى إلى انهيار الثقة الشعبية بها، وفقدان الشرعية الأخلاقية والسياسية.

لم يعد من الممكن أن تُمثّل الناس فصائل لا تُراعي أمنهم، ولا تحمي وجودهم، بل تضعهم في مسارات صراعية لا علاقة لها بقضيتهم الوطنية.

لا يمكن الحديث عن أزمة التمثيل دون التوقف عند الانقسام الفلسطيني المزمن.

فتح وحماس.. حدود التمثيل وشرعية الواقع

اليوم، تحاول حركة فتح، من خلال السلطة الفلسطينية، فتح قنوات مع القيادة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع، في حين أعادت حماس بعض التواصل غير المباشر مع أطراف سورية، بعد سنوات من القطيعة.

لكن كلا الطرفين، رغم أهميتهما الرمزية، يفتقران إلى عنصر الحسم: الشرعية الميدانية داخل المخيمات. فتح لا تملك بنية تنظيمية حقيقية وازنة على الأرض، أما حماس فترتبط بتحالفات إقليمية (لا سيما مع إيران) تثير توجّس الإدارة السورية الجديدة، التي تسعى إلى فكّ الارتباط مع هذا المحور.

الحالة الفصائلية قد تُنتج تفاهمات سياسية، لكنها لا تصنع تمثيلاً حقيقيًا نابعًا من إرادة الناس.

الانقسام الفلسطيني.. مأساة مستمرة

لا يمكن الحديث عن أزمة التمثيل من دون التوقف عند الانقسام الفلسطيني المزمن، الذي تحوّل من خلاف سياسي إلى حالة إنهاك وطني، يشعر بها كل فلسطيني، داخل الوطن أو في الشتات. في سوريا، حيث عاش الفلسطينيون واحدة من أعنف فصول النزوح والخذلان، كان الانقسام أكثر إيلامًا: فالفصائل انقسمت على دمهم، لا فقط على برامجهم.

هذا الواقع ترك الفلسطيني السوري يشعر بأنه عالق بين سلطتين، لا ممثَّلًا من أيٍّ منهما.

اليوم، لا يبحث الناس عن طرف جديد في الانقسام، بل عن مخرجٍ منه. تمثيل جديد لفلسطينيي سوريا يجب أن يكون أيضًا جزءًا من رؤية تتجاوز الثنائية المتكلسة بين رام الله وغزة، وتنحاز لكرامة الناس، لا لصراع السلطات.

غياب التمثيل لا يعني فقط غياب الصوت، بل غياب القدرة على الدفاع والمبادرة. ومع استمرار التهميش، وغياب الأفق أمام جيل جديد من اللاجئين، تتفاقم المشكلات: من البطالة، إلى التسرب المدرسي، إلى ضعف الخدمات، وحتى غياب المرجعية السياسية التي يمكن أن تتحدث باسم الفلسطيني السوري لدى الدولة أو المنظمات الدولية.

هذا الفراغ أفرز نتائج خطيرة، منها انفصال المخيمات عن القرار، وسيطرة فصائل أو مجموعات غير خاضعة للمساءلة، وتكريس حالة من العزلة القانونية والسياسية.

الرؤية البديلة: مجلس شعبي مستقل

ما يُطرح اليوم من قبل فاعلين فلسطينيين وسوريين هو تأسيس مجلس شعبي منتخب يمثل فلسطينيي سوريا، ويكون مستقلاً عن الفصائل، وغير خاضع للمحاور الإقليمية، ومرتبطاً بتطلعات الناس داخل المخيمات وفي الشتات.

مجلس كهذا يمكن أن يعيد بناء العلاقة مع الدولة السورية الجديدة على أساس الشراكة لا التبعية، ويكون منصة للمساءلة، ومرجعًا للأونروا والمؤسسات الحقوقية، وصوتًا يعبر عن جيل فلسطيني فقد الإيمان بالنموذج الفصائلي التقليدي.

من المقترح أن يتكوّن هذا المجلس من أعضاء موزعين جغرافيًا (الشمال، دمشق، لبنان، أوروبا…)، وأن تُشرف على تأسيسه لجنة مستقلة، وأن تُبنى آلياته على التوافق المجتمعي، أو الانتخابات، أو التمثيل المحلي المرن.

لا تمثيل بلا انتخاب، ولا كرامة بلا صوت. آن لنا أن نستعيد موقعنا، لا بالنيابة، بل بالشراكة.

شراكة ضمن السيادة لا فوقها

ينطلق هذا التصور التمثيلي من إيمان عميق بأن الفلسطينيين في سوريا هم جزء من نسيجها الوطني، لا حالة فوقها ولا هامشًا خارجها. لذلك، فإن أي مجلس فلسطيني منتخب من المخيمات يجب أن يعمل تحت مظلة احترام السيادة السورية الجديدة، وضمن رؤية مشتركة تحفظ أمن البلاد واستقرارها.

التمثيل المنشود لا يسعى إلى بناء كيان سياسي منفصل، بل إلى استعادة الصوت المجتمعي الفلسطيني ضمن شراكة مع مؤسسات الإدارة السورية التي تولدت عن الثورة، وعلى قاعدة التكامل لا التوازي.

إذا لم يُبادر الفلسطيني السوري اليوم إلى ملء هذا الفراغ التمثيلي، فسيُملأ عنه، إما بجهات خارجية، أو بفصائل تكرّر أخطاء الماضي. المخيمات لا تحتمل المزيد من التسييس الفصائلي، ولا يمكن أن تستمر كمساحات بلا صوت ولا أفق.

إن من يطالب بالكرامة، لا بد أن يكون له صوت. ومن يرفض التهميش، عليه أن ينظّم نفسه. المجلس الشعبي ليس كيانًا فوق المجتمع، بل تعبير عن إرادته. تمثيل ديمقراطي شعبي يعيد الثقة، ويكرّس الكرامة، ويمنع الاستغلال السياسي لمعاناة اللاجئين.

خاتمة: من التفكير إلى الفعل

هذه الدعوة ليست إعلانًا عن كيان، ولا تأسيسًا لمبادرة مغلقة، بل هي محاولة لفتح الباب أمام تفكير جماعي بين فلسطينيي سوريا: كيف نُمثّل أنفسنا؟ كيف نُعبّر عن قضايانا؟ وكيف نخرج من عباءة الماضي من دون أن نتخلى عن قضيتنا الوطنية؟

لا تمثيل بلا انتخاب، ولا كرامة بلا صوت. آن لنا أن نستعيد موقعنا، لا بالنيابة، بل بالشراكة، وأن نقول: نحن هنا، ونحن من يمثّلنا.

هذه المقالة ليست خاتمة، بل بداية نقاشٍ واسع نرجو أن يشارك فيه كل من يعنيه مستقبل فلسطينيي سوريا.

المصدر: تلفزيون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى