ظلَّ نزار قبَّاني عقوداً طويلة مالئَ الدُّنيا وشاغلَ النَّاس في الفضاء الشِّعريّ العربيّ الحديث، وتمَّ الحُكْمُ على فرادةِ تجرِبتِهِ ذات الجُمهور الأكبَر في الوطن العربيّ من قبَلِ (بعضِ/ كثير) منَ النُّخَبِ الشِّعريَّة والنَّقديَّة والفكريَّة بأحكامٍ تبخيسيَّةٍ، وأحياناً بأحكامٍ شُموليَّةٍ تسفيهيَّةٍ للأسف، من دونِ مُحاوَلةِ الحفر الجادّ والعميق في هذهِ (التَّجرِبة/ الظَّاهِرَة) لفَهْمِ ماهيَّتِها الثَّقافيَّة والمَعرفيَّة خارجَ منطق الثُّنائيَّات الحدِّيَّة والتَّفاصُليَّة المُتناحِرَة التي سادتِ الفكر العربيّ إلى حدٍّ كبيرٍ في القرن العشرين.
وهُنا، تحضرُني جُملة (مُلاحظات/ تساؤلات) أشعرُ بضَرورةِ طرحِها بوصفِها مداخلَ محوريَّة للمُراجَعة والتَّنقيح، ليسَ في مضمارِ الشِّعر وحدَهُ؛ إنَّما في معظَمِ مُستوياتِ وعينا الوُجوديّ العربيّ؛ أوَّلُها يتعلَّقُ بعدم قدرة القراءات الأُحاديَّة النِّهائيَّة على الإحاطةِ والحسمِ على نحْوٍ عامّ، وفي إطارِ الشِّعر والشِّعريَّة على نحْوٍ خاصّ، فقراءةُ النُّصوصِ هيَ عمليَّة تفسيريَّة تأويليَّة مفتوحة على مدار الزَّمان والمُستقبَل، والحركة الدَّوريَّة للفَهم عند (غادامير) لا تعني، في اعتقادي، أنَّ اللَّعبَ الحُرّ للعلامة (الدِّيريديَّة) غير قابلٍ لتعيينٍ آنيٍّ مُفيدٍ نسبيَّاً، قبلَ الارتماءِ في حركةِ إرجاءٍ جديدة.
ليسَ من أصالةِ النَّقدِ البنَّاءِ أنْ يكتفيَ المُتلقِّي العربيّ (النُّخبويّ تحديداً) بالقول إنَّ ظاهِرَةَ شِعر نزار قبّاني تحقَّقتْ تحقُّقاً عريضاً لكونِها، فقط، ظاهِرَةً (شعبويَّة) سطحيَّة تُجارِي المَكبوت والمَسكوت عنهُ والتَّابوهات المُحرَّمة (وهُنا، وفي جميعِ الأحوالِ، لا أُعدُّ هذا الأمر بسيطاً أو ثانويَّاً لشُعوبٍ خرجتْ من عباءَةِ قرونٍ طويلةٍ منَ الانحطاط).. ثُمَّ، وبعدَ إطلاق هذا الفرمان الفوقيّ والنِّهائيّ (غير القابل للنقض)، يغطُّ النُّقَّادُ والمُتلقُّونَ في سُباتٍ عميقٍ بضَميرٍ مُرتاحٍ، وهيَ المَسألةُ التي تنطوي على استسهالٍ وتعميمٍ وتسطيحٍ لمَن يدَّعي العُمق.
على أنَّ تمحيصِي هذا لا يعني أنَّ نصَّ نزار لم يكُن شعبويَّاً في مكانٍ ما، أو لم يكُن مُستجيباً للمِخيال الجمعيّ المَكبوت في مُستوىً ما؛ غيرَ أنَّ مَداراتِ الرُّؤية ينبغي ألّا تُغلَقَ عندَ هذا الحدّ القاصِر في رأيي، فشاعر كبير واستثنائيّ كنزار، ومهما قُلنا إنَّ جماهيريَّتَهُ هيَ (حجاب) و…، يستحقُّ بُحوثاً وحفريَّاتٍ أكثر جِدَّة، ليسَ، فقط، لأهمِّيَّةِ نزار فحسب؛ إنَّما إمعاناً في تأصيلِ الوعي الوُجوديّ الثَّقافيّ والمَعرفيّ عربيَّاً، وهذا الاعتقادُ هوَ خارِج ثُنائيَّة الذَّائقة أو الشَّخصنة التَّائِهَة بينَ حُكمَي: (أحبُّ أو أمدحُ شِعرَ نزار/ أكرَهُ أو أذمُّ شِعرَ نزار _ أحبُّ أو أمدحُ شخصَ نزار/ أكرهُ أو أذمُّ شخصَ نزار)؛ إذ حانَ الوقتُ العربيُّ بعدَ كُلِّ هَزائمِ القرن العشرين ومَطلعِ هذا القرن، وبعدَ كُلِّ التَّقدُّمِ الفكريّ والعلميّ والتِّقنيّ والرَّقميّ الحالي، أنْ نخرُجَ من هذا النَّفق (البِنيويّ رُبَّما) بمَا هوَ أسلوبُ تفكيرٍ ورؤيةٌ مُبتسرَةٌ ومُتعاليةٌ واختزاليَّةٌ للذَّات والعالَم والحياة.
ينطلِقُ اقتراحي المُغايِرُ لإعادةِ فَهْمِ (شِعر/ ظاهِرَة) نزار قبَّاني (كمَا أعتقدُ) من ستَّةِ مُستوياتٍ (غير مَسبوقةٍ عربيَّاً) قدَّمتْها تجرِبتُهُ على نحْوٍ لافتٍ، وهيَ:
- أوَّلاً: الرَّقصُ فوقَ جُسورِ (الإبداعيَّة/ الابتداعيَّة)
تُمثِّلُ قصائدُ نزار المَرحلة الثّانية أو الانبثاق الثّاني في (تصفيةِ اللُّغة الشِّعريَّة العربيَّة) منذُ مرحلة ما سُمِّيَ بحقبةِ (النَّهضة العربيَّة/ اليقظة العربيَّة)؛ بمَعنى أنَّهُ قد ساهمَ في تنقيةِ الجُملة الشِّعريَّة والصُّورة الفنِّيَّة والأسلوب التَّكوينيّ/ الدَّلاليّ من الكثير من مَحمولِ الخطابة التَّقليديَّة وشوائبِها البَلاغيَّة.
فشعرُهُ، بهذا المَعنى، يُمثِّلُ الانطلاقة أو الحلقة الثّانية الأهمّ (مُتفوقاً في هذا الإطار على سعيد عقل وآخرين)، في رأيي، بعدَ الحلقة الأُولى مُتجسِّدةً بجناحيْها الشَّاميّ (خليل مطران وجبران خليل جبران والأدب المهجريّ)، والمصريّ (أحمَد زكي أبو شادي وعلي محمود طه وإبراهيم ناجي، إلى جانب التُّونسيّ أبو القاسم الشَّابِّي) في إنجاز هذِهِ القفزة الجَماليَّة والخَطابيَّة المُهمَّة في الشِّعريَّة العربيَّة، والتي تجاوَزتِ المدرسة الكلاسيكيَّة، ومالَتْ باتِّجاه المدرسة الرُّومنسيَّة (أو: المدرسة الإبداعيَّة/ الابتداعيَّة).
وسببُ اعتقادي بتفوُّق نزار في إنجاز هذا التَّحوُّل العربيّ على بقيَّة شُعراء الحلقة الرُّومنسيَّة الثَّانية، ولا سيما سعيد عقل، يرتبطُ بالعناصر الآتية التي سأتناولُها في سُطوري القادمة، والتي تُظهِرُ اختلافَ نزار الجديد والحاسِم، وقدرتَهُ التَّأثيريَّة، وبوجهٍ خاصّ بمَا يتعلَّقُ بشِعرِهِ اليوميّ وأبعادِهِ الإيروتيكيَّة.
ولابُدَّ أنْ أؤكِّدَ أيضاً، في هذا الإطار، أنَّ نزاراً كانَ أكثر تأثُّراً بجَماليَّاتِ المدرسة الشَّاميَّة من جماليَّاتِ المدرسة المصريَّة، كمَا أرى، ليسَ لأسبابٍ جغرافيَّةٍ أو إقليميَّةٍ أو بيئيَّةٍ بحتةٍ؛ بقدرِ كون القفزة الكبيرة التي أنجزها في تصفيةِ اللُّغة الشِّعريَّة تنتمي إلى مُهيمناتِ رومنسيَّةِ المدرسةِ الشَّاميَّةِ أكثَر من مُهيمناتِ رومنسيَّةِ المدرسةِ المصريَّةِ التي تقدَّمتْ فيها عناصِر ابتداعيَّة أُخرى.
- ثانياً: نثرُ بُذورِ الحداثةِ بينَ مَدنيَّةِ الشِّعرِ اليوميِّ، ونفيِ الأيديولوجيا
تبدو الفضيلَةُ الثَّانية في شِعر نزار مُؤسِّسةً للحداثةِ على نحْوٍ غيرِ مُباشَرٍ، حيثُ تعاضَدَ في نصِّهِ على نحْوٍ جديدٍ ولافتٍ، الانتقالُ إلى اللُّغة الابتداعيَّة (الرُّومنسيَّة) على حامِلِ مَشهديَّةٍ سَرديَّةٍ ناهِضَةٍ على الانحيازِ إلى (الشِّعر اليوميّ)، بمَا ينطوي عليهِ هذا الاتِّجاهُ الشِّعريُّ من تجارِبَ مَعيشةٍ وبسيطةٍ كانَ يُنظَرُ إليها أنَّها قضايا هامشيَّة وصغيرة، ولا سيما عبرَ توظيفِ هذا المَنحى في مَوضوعةِ (الحبّ) المحوريَّة والأثيرة لديه.
لعلَّ نزاراً في اعتقادي، رائدُ (القصيدة اليوميَّة) في الشِّعر العربيّ بامتياز، ولهذا فهوَ مُؤسِّسٌ حداثيٌّ (وإنْ لم يكُنْ مُنتمياً حداثيَّاً بالمَعنى المَدرسيّ أو التَّنظيريّ أو الخطابيّ إلى حدٍّ ما نسبيَّاً) عبرَ ثلاثةِ أبعادٍ، هيَ:
1_ بُعد الانتماء إلى مَفهوم الحداثة عبرَ (الانتماء إلى رومنسيَّةٍ يوميَّة) تقومُ على تفاصيلَ سَرديَّةٍ تبتعدُ نوعاً ما عن التَّجريد (المَشهديَّةُ لا التَّجريدُ)، وتقترِبُ، نسبيَّاً، من الحركة (الحدَثُ قبلَ الفكرةِ أحياناً).
وهو بهذا مهَّد للمَرحلة الشِّعريَّة الحداثيَّة اليوميَّة (أو الشَّفويَّة في اصطلاح بعض النُّقَّاد)، والتي جاءَتْ في السَّبعينيَّات ردَّاً على (حداثةِ قصيدة الرُّؤيا) التي هيمنَتْ على المَشهد الشِّعريّ العربيّ منذُ أواخر الخمسينيَّات، وبلغتْ ذروتَها في الستينيَّات، وكانَ جزءٌ كبيرٌ من تجارِبِها مُشبَعاً بالأيديولوجيا والنَّبرة الخطابيَّة الشُّموليَّة.
2_ بُعد الانتماء إلى مَفهوم الحداثة عبرَ (الانتماء إلى لُغة العصر)؛ بمَعنى أنَّ أحد تعريفاتِ الحداثة يكمنُ في أنْ تعكسَ القصيدةُ لُغةَ عصرِها وقضايا ذلكَ العصر، وهوَ ما جاءَ عند نزار عبرَ وعاءِ التَّفاصيلِ اليوميَّة المُتخفِّفة من الأيديولوجيا وخطاباتِها ذات الضَّجيج العالي.
3_ بُعد الانتماء إلى مَفهوم الحداثة بإعادةِ إنتاجٍ مُبتكَرَةٍ ونسبيَّةٍ للتَّأثيرات المدرسيَّة الابتداعيَّة (الرُّومنسيَّة)، عبرَ جانبيْن اثنيْن:
أ_ جانب (لُغويّ/ بِنيويّ): يُحقِّقُ فيهِ نصُّ نزار اليوميّ التَّملُّصَ من الأدلَجة بالميْلِ الحاذقِ إلى تخفُّفٍ (أو حتَّى إلى تقشُّفٍ) بلاغيٍّ ومَجازيٍّ جديد، يُوظِّفُ تقنيَّاتٍ وآليَّاتٍ لم تكُنْ مَألوفةً من قبلُ.
ب_ جانب (اجتماعيّ/ ثقافيّ): وهذا الجانبُ يتعيَّنُ عبرَ انتماءِ نزار إلى بِنية سَرديَّة عُروبيَّة أصيلة، من ناحيةٍ أُولى، لكنَّها غير مُؤطَّرة أو مُنمَّطة أيديولوجيَّاً كمَا ذكرتُ من قبل، من ناحيةٍ ثانية.
وهُنا، تحديداً، يطفو بجَلاءٍ اختلافُ صوتِ نزار الشِّعريّ وطرافتُهُ وقُوَّةُ حُضورِهِ وتأثيرِهِ عربيَّاً، وذلكَ بوصفِهِ صوتَ الدِّمشقيِّ الذي يعكسُ في عوالِمِ نُصوصِهِ تفاصيلَ البرجوازيَّة المدنيَّة الدِّمشقيَّة، وحركةَ المدينةِ التي قلَّما التفتَ مُعظَمُ أبنائِها، نسبيَّاً، إلى شِعارات البرجوازيَّة الصَّغيرة سُوريَّاً وعربيَّاً، تلكَ القادمة من الأرياف والضَّواحي والأطراف، والمُدجَّجة بالمَشاريع والأحلام والنَّظَريَّات، وهذا وصفٌ نقديٌّ بحتٌ، وليسَ انتقاصاً ينطوي على حُكم قيمة معياريَّة من تجارِب الآخَرين وتوجُّهاتِهِم المُتنوِّعة، في حقبةٍ غنيَّةٍ جدَّاً كانتْ تضجُّ عربيَّاً وعالَميَّاً بالتَّيَّاراتِ الفكريَّةِ، وبالرُّؤى الإبداعيَّةِ والفنِّيَّة، وبالأيديولوجيَّاتِ المُختلِفة.
وبذلكَ، أرى أنَّ ما سبق، يُمثِّلُ أحد أهمّ ميزات نزار في تخليق قصائِدِه وفلتاتِهِ الجَماليَّة اللَّمَّاحة والذَّكيَّة، والتي تُداعبُ رأسَ مال المِخيال العربيّ الجمعيّ، والمُتعطِّش إلى مُحاكاةِ أناقةِ حياةِ المدينةِ العصريَّةِ (المحلِّيَّةِ طوراً والعالَميَّةِ طوراً آخَر، أو كليهما في آنٍ معاً)، من جانبٍ أوَّل، وتحمِي النَّصَّ، نسبيَّاً، من مُسَبَّقاتٍ أيديولوجيَّةٍ ومَعرفيَّةٍ قد تُصادِرُ أو تُخفَّفُ كثيراً من صفائِهِ ونقائِهِ وشِعريَّتِهِ.
- ثالثاً: بهلوانيَّةُ المِخيالِ الإيروتيكيّ
تكمنُ الميزة الثّالثة (أو الإضافة الثّالثة) في نصِّ نزار في التَّجربة والتَّجريب (الإيروتيكيّ) غير المَسبوق في شِعر العصر العربيّ الحديث.
فهذا البُعد الذي كانَ واسِعَ الانتشار في التُّراث العربيّ، وبلَغَ ذروتَهُ في العصر العبّاسيّ، وكتَبَ في مضمارِهِ حتَّى بعضُ رجال الدِّين الإسلاميّ وفقههِ في ذلكَ العصر، جاءَ نزار كي يُعيدَ الاعتبارَ إليهِ، وهيَ المَسألةُ التي انطوَتْ لديهِ على الكثير من الجِدَّة والجُرأة الاستثنائيَّة في مُجتمعاتٍ عربيَّة ورثَتْ قروناً من الانحطاط والمُحافَظَة الاجتماعيَّة والفكريَّة والثَّقافيَّة.
ومن الضَّروريّ في هذا السِّياق، تأكيدُ ضَرورةِ مُجاوَزةِ (معياريَّةِ الأحكام الأخلاقيَّة) التي ليسَ مكانُها لا في بَحثٍ نقديٍّ بوجهٍ خاصّ، ولا في الإبداع بوجهٍ عامّ.
إذ ينبغي الإشارةُ، هُنا، إلى أهمِّيَّةَ اعتمادِ البُعد (المَوضوعيّ/ الفنِّيّ) معياراً للتَّقييم الإبداعيّ، وهوَ الأمرُ الذي يُنحِّي جانباً المَوقِفَ الذّاتيَّ، ويُعلِّقُ/ أو يضَعُ بينَ أقواسٍ (الاعتقادَ/ العقيدةَ) الشَّخصيَّةَ أيَّاً كانتْ مَرجعياتُها أو مُنطلقاتُها أو قناعاتُها، وهيَ المُقايَضَةُ المَعرفيَّة والتَّداوُليَّة التي تحفَظُ حُرِّيَّةَ المُتلقِّي وخُصوصيَّتَهُ من جهةٍ أُولى، وتحفَظُ حُرِّيَّةَ الإبداعِ، وتعدُّديَّتِهِ النَّصِّيَّةِ والدَّلاليَّةِ من جهةٍ ثانية.
وفي العودة إلى قصائد نزار، أقولُ: لنا في الكثير من قصائدِهِ أمثلةً طازجةً على الخوضِ في المَسكوت عنهُ (وأحياناً في غيرِ المُفكَّرِ فيهِ) جنسيَّاً في الوعي العربيّ السّائِد في حقبتِهِ، وهذا ما بدأ منذُ ديوانِهِ الأوَّل “قالت لي السَّمراء” المَنشور في العام 1944، والذي استجلَبَ لهُ نقداً لاذِعاً وجدَلاً سوريَّاً وعربيَّاً عنيفاً.
وتحتفِظُ الذَّاكرةُ العربيَّة في هذا السِّياقِ، بهُجومِ الأديب والفقيه السُّوريّ (علي الطنطاوي) في مجلَّةِ (الرِّسالة) المصريَّة على نزار وعلى ديوانِهِ هذا، حيثُ أطلَقَ عليهِ صفاتٍ من قبيل (أدب الشَّهوة، والبغاء، والفسق)، لينشرَ بعدَهُ ديوانَهُ الثَّاني بعُنوانِهِ الصَّادِم حينَها أيضاً: “طفولةُ نهد” المَنشور في العام 1948.
ومن الجليِّ للمُتمعِّنِ أنَّ تجرِبةَ نزار تنطوي على قصائِدَ صارِخة في خطابِها الجنسيّ، فقصيدتِهِ “مايا” على سبيل المثال، تُشكِّلُ، في اعتقادي، تجربةً شِعريَّةً (إيروتيكيَّة) فريدةً عربيَّاً في (السَّرديَّة/ اليوميَّة) لمَوضوعةِ الجسَد والجنس والإغواء.
كما تُشكِّلُ قصيدتُهُ التي عنونَها بـِ “القصيدة الشِّرِّيرة” تجرِبةً إبداعيَّة غير مَسبوقة في العصر العربيّ الحديث في الكتابة عن (المِثليَّة الجنسيَّة)، وتحديداً عن مَوضوعةِ (السُّحاق).
فإذا كانَ (التُّراث العبّاسيّ) يكادُ ينطوي على إحدى أغنَى أشعار الشُّعوب والأُمَم وسَردياتِها المُتنوِّعة في تناوُل مَوضوعاتِ الجسَد والجنس (بمَنحىً إيروتيكيّ في نسبةٍ كبيرة من النُّصوص) على نحْوٍ عامَ، وفي تناوُل مَوضوعات المثليَّة الجنسيَّة (الذُّكوريَّة والأنثويَّة) على نحْوٍ خاصّ (وهذا ما يجهلُهُ جزءٌ كبيرٌ من العربِ أنفسِهم الآن)، فإنَّ نزاراً اقتحَمَ في هذِهِ القصيدة تحديداً منطقةً ممنوعةً وشديدةَ الخُطورةِ والوُعورةِ في الوعي الجمعيّ العربيّ، وكانَ ذكيَّاً في تركِ القراءةِ مَفتوحةً خارِجَ أي حُكْمِ قيمةٍ معياريٍّ أخلاقيٍّ يكشفُ عبرَهُ مَوقفَهُ الشَّخصيَّ تشجيعاً للمَسألةِ أو تأثيماً لها.
وهكذا، استرجعَ نزار في الكثيرِ من نُصوصِهِ بعضاً من التَّقاليد المنسيَّة في الكتابةِ العربيَّة، وتلاعبَ بها كالبهلوانِ الحاذِق، ناهِضاً على مَقولات التَّحرُّر والتَّحرير المُختلِفة، وهوَ الذي كانَ منذُ بداياتِهِ أحدَ دُعاة (الثَّورة الجنسيَّة) في المُجتمَع العربيّ، وتأثَّرَ بعدَ ذلكَ بتحوُّلاتِ (ما بعدَ ثورةِ الطُّلَّاب) في فرنسا 1968 على نحْوٍ خاصّ، ومن الواضحِ، حقَّاً، أنَّ نُصوصَهُ أصابَتِ المُتلقِّي العربيّ التَّقليديّ والمُحافِظ، إلى حدٍّ كبيرٍ، بصدمةٍ (فكريَّةٍ/ إبداعيَّةٍ) ألهبَتْ مِخيالَهُ الإيروتيكيّ الظَّمِئ طوالَ قُرونٍ مديدة.
- رابعاً: وَحدةُ الإنسان العاطفيّ/ الجنسيّ
تنطوي الميزةُ الرَّابعة في شعرِ نزار على تحقيقِهِ (ائتلافاً) لافتاً يُشكِّلُ مُستوىً من مُستوياتِ (اختلافِهِ) الجديد، وهوَ: ائتلافُ (العاطِفَةِ/ الجنسِ).
فنزار يتجاوَزُ التَّقاليدَ الشِّعريَّةَ العربيَّة من جهَةِ تجاوُزِ الفصلِ بينَ الغرضيْن الشِّعرييْن الشَّهيريْن: (الغزَل العفيف/ الغزَل الصَّريح)، بصَهرِهِما معاً في إطارِ نصٍّ ينزاحُ فيهِ عن الخلفيَّةِ الفكريَّة القارَّة عربيَّاً؛ أي: عن الثُّنائيَّة الميتافيزيقيَّة (روح/ جسَد).
ولعلِّي، أعتقدُ من زاويتي هُنا، أنَّ نزاراً قد نحَّى جانباً، أو تحاشَى بحُسنِ تخلُّصٍ بارعٍ (إذا وظَّفْتُ المُصطلَحَ التُّراثيَّ العربيَّ القديمَ في هذا السِّياق) ما ورَدَ في كتابِ المُفكِّر السُّوريّ الكبير (صادق جلال العظم): “في الحُبّ والحُبّ العُذريّ”، الذي فكَّكَ فيهِ ما رآهُ (أُكذوبةَ) الحُبّ العُذريّ بإرجاعِ شُعرائِها إلى دَواعٍ (سادومازوخيَّة) تنطوي على حُبٍّ شهوانيٍّ، وعلى (أنويَّةٍ) نرجسيَّةٍ بتمركُزِ النُّصوصِ على ذاتِ الشَّاعرِ المُتغزِّلِ لا على المُتغزَّلِ فيها.
أطلَقَ نزار، في ظنِّي، العنانَ للِّيبيدو الجنسيّ بمَعناه الفرويديّ على مصراعيْهِ، وفي الوقتِ نفسِهِ، جذَّرَهُ في البُعدِ العاطفيّ (غالباً ونسبيَّاً، وليسَ دائِماً)، لكنَّهُ حقَّقَ وَحدَةَ الرَّبطِ والتَّفاعُلِ جدَليَّاً، وإنْ تقدَّمَ جانبٌ هُنا، وتأخَّرَ جانبٌ هُناك، وهذهِ قفزةٌ تُسجَّلُ فنِّيَّاً وفكريَّاً لشعرِهِ كمَا أعتقدُ.
فاللَّافِتُ في نصِّهِ أنَّهُ استطاعَ في أحيانٍ كثيرةٍ، حتَّى في لحظاتِ انفلاتِ مكنوناتِهِ الشُّعوريَّة واللّاشُعوريَّة الشَّبَقيَّة المُباشَرَة أو الفجَّة، أنْ يُحافِظَ، نسبيَّاً، على صوتٍ رومنسيٍّ شفيفٍ ورقيقٍ يُداعِبُ عبرَهُ المِخيالَ (الانفعاليَّ/ العاطفيَّ) المُنطويَ على رمزيَّةِ الشَّغَفِ والتَّلهُّفِ لفكرَةِ (الحُبّ) الجاذِبَة للعقل الجمعيّ العربيّ، ولاسيما عندَ جيلِ الشَّباب، وهذا ما منحَهُ أحد ألقابِهِ الشَّهيرة: (رسولُ العُشَّاق).
ورُبَّما كانَ هذا المَنحى المُجاوِز للفصلِ الثُّنائيّ الحدِّيّ والتَّفاصُليّ/ التَّقابُليّ بينَ (الغزَل العفيف = الرُّوح) و(الغزَل الصَّريح = الجسَد)، هوَ مدخلي المحوريّ لنقد (النَّقد الثَّقافيّ) الذي قدَّمَهُ (الدُّكتور عبد الله الغذَّاميّ) بإرجاعِهِ نصَّ نزار وخطابِهِ الشِّعريّ إلى (نسَقِ الفُحولةِ المُضمَرِ عربيَّاً).
إنَّ فُحولَةَ نزار هيَ (أُغنيةُ الفحلِ المُعاصِرِ المُغايِرَةُ) لأسبابٍ عدَّة؛ منها ما يتعلَّقُ بفكرتِي هُنا عن تجذيرِهِ شِعريَّاً (وَحدَة الإنسان العاطفيّ/ الجنسيّ)، فهوَ يتنقَّلُ بدهاءٍ ومكرٍ بينَ هرموناتِ الذُّكورة وهرموناتِ الأُنوثة، ممَّا يجعلُهُ يمزجُ بينَ النَّسَقِ الظَّاهِرِ والنَّسَقِ المُضمَر بالدَّلالةِ الثَّقافيَّةِ على نحْوٍ يُؤدِّي إلى (الالتباس).
هوَ يُحقِّقُ (التباساً فريداً) في تناولِهِ لشِعرِ المرأة عبرَ مُستوييْن مُهيمنيْن:
1_ أنْ يكونَ (شاعرَ المرأة: وهوَ أحدُ أشهرِ ألقابِهِ) المُنحاز إلى قضايا تحريرِها وتحريرِ جسِدِها وعواطفِها من البِنى التَّقليديَّة التي تُؤبِّدُ سُلطةَ امتلاكِ قرارِ (كينونتِها)، وتُصادِرُ حُرِّيَّتَها في التَّصرُّفِ بجسَدِها من قبَلِ (العائلة _ القبيلة _ الطَّائفة…إلخ)، وهوَ ما يُحيلُ في الفلسفة الوُجوديَّة إلى فكرةِ (أمتلِكُ جسْماً): نفي أو سلب الكينونة الحُرَّة، بدَلاً من فكرةِ (أكونُ جسَداً): حُضورُ أو وُجودُ الكينونة الحُرَّة.
2_ أنْ يكونَ (الشَّاعرَ الفحلَ مُستعبدَ المرأةِ)، الذي يُعيدُ جسَدها إلى نمَطِ الملكيَّةِ الزَّائفِ، وإلى التَّحكُّمِ الخارجيِّ بهِ بناءً على رُؤيةٍ (دونيَّةٍ) لها ولذاتِها ولوُجودِ جسَدِها الحُرِّ الأصيلِ في الحياةِ والعالَم.
وبواسطَةِ اللَّعِبِ المُخاتِلِ على هذا الالتباسِ بينَ هذيْن المُستوييْن تنفتِحُ فَجْوَةٌ جَماليَّةٌ جدَليَّةٌ (علاماتيَّةٌ) عريضةٌ جدَّاً دلاليَّاً وتأويليَّاً؛ حيثُ يُجري نزار حواراً دؤوباً بينَ ما تحتَ سَطحِ الخطاب الظّاهريّ (أي: في أعماق اللّاوعي)، وما فوقَ السَّطحِ، وهذا مَوضِعُ الزيَغانِ والإيحاءِ الإبداعيِّ الجديد عندَهُ، ذلكَ أنَّهُ يُقدِّمُ وعياً ديناميَّاً مُتحرِّكاً ومُنفتِحاً في العلاقة مع المرأة، فيَهدمُ حيثُ يَبنِي، ويَبنِي حيثُ يَهدمُ، ويكونُ/ أو: يتقمَّصُ عقدتَي (أوديب وألكترا) في آنٍ معاً، وعقدتَي (الخصاء والقضيب) في آنٍ معاً أيضاً.
ولعلَّ هذا التَّمحيصُ يتنحَّى بعيداً عن مَنطقِ ثُنائيَّاتِ (قُطبَيِّ الإيجابيِّ والسَّلبيِّ) في تحليل الخطاب الشِّعريّ؛ إذ سيبقى أيُّ تقييمٍ يضَعُ شِعرَ المرأة عند نزار ضمنَ المنطق الأرسطيّ (إمَّا/ أو) قاصِراً عن الغوصِ في المُعطَى الفنِّيّ والجَماليّ إنْ في تألُّقِهِ عندَ نزار، أو في تهافتِهِ.
- خامساً: توحيدُ خطابِ (الغرَضيْن) بينَ مُحاكاةِ التُّراثِ ومُجاوَزَتِهِ
إنَّ مُجاوَزَةَ نزار المُتعلِّقةَ بتأكيدِ (وَحدةِ الإنسان العاطفيّ/ الجنسيّ) شعريَّاً، وبمَا تنطوي عليهِ من خلفيَّاتٍ فكريَّةٍ ومَعرفيَّةٍ، أدَّتْ إلى احتفاظِ قصيدتِهِ بوفائِها لتقاليدِ الشِّعرِ العربيِّ بتُراثيْهِ/ غَرضيْهِ (العفيف والصَّريح) في آنٍ معاً، وإعادةِ إنتاجِ هذيْن (التُّراثيْن) في بِنيةٍ نصِّيَّةٍ تخييليَّةٍ وفنِّيَّةٍ واحدة (جديدَةٍ ومُغايِرَةٍ) في الوقتِ نفسِهِ.
فبقدر ما تبدو قصيدتُهُ مُشبَعةً بالمَوروث الشِّعريّ العربيّ القديم (لُغةً وتركيباً وأُسلوباً ومُوسيقى)، استطاعتْ أنْ تكونَ، في اللَّحظةِ عينِها، قصيدةً مُعاصِرةً إلى حدٍّ كبير، وهو ما بلَغَ بواسطتِهِ، نسبيَّاً، طُموحَ خطابِ الحداثةِ في القبضِ على الأصالةِ والمُعاصَرةِ في آنٍ معاً .
هكذا؛ تأتي تقاليدُ الغزَل والعلاقة مع المرأة عندَ نزار في عباءَةٍ مُعاصِرَةٍ ذات خلفيَّة برجوازيَّة مدينيَّة، حيثُ أصَّلَ (المُستوى الغزَليّ) في شِعرِهِ عبرَ توازنٍ (فنِّيٍّ/ جَماليٍّ) تمكَّنَ بواسطتِهِ أنْ يكونَ وفيَّاً لعددٍ من الآباءِ الشِّعريِّين في التُّراث العربيّ، وقاتِلاً لهُم، في الوقتِ نفسِهِ، وفي مُقدِّمةِ هؤلاءِ الآباءِ (عمر بن أبي ربيعة).
وبناءً على مَنحَى (عَصْرَنتِهِ للغرضيْن المَصهوريْن معاً)، أستطيعُ تفسيرَ جانبٍ من (سُلطةِ/ أو: سَطوةِ) قصيدة نزار (المُهيمِنة) على المُتلقِّي العربيّ عبرَ جانبيْن، هُما:
1_ المُحاكاة المُعاصِرَة للجرس (اللُّغويّ/ المُوسيقيّ) المَوروث (ثقافيَّاً) في الوعي الجمعيّ الشِّعريّ والفكريّ/ الوُجوديّ العربيّ.
2_ المُحاكاة المُعاصِرَة للِّيبيدو (العاطفيّ/ الجنسيّ) المَوروث (ثقافيَّاً) في الوعي الجمعيّ الشِّعريّ والفكريّ/ الوُجوديّ العربيّ.
- سادساً: ألاعيبُ التَّمويهِ بينَ الشَّعبيّ والشَّعبوي
أظنُّ أنَّ نزاراً قد لعِبَ باقتدارٍ (رُبَّما غير واعٍ، أو غير مُفكَّر بهِ) على دغدغةِ المِخيال الجمعيّ، فكانَ (شعبيَّاً) في مكانٍ، و(شعبويَّاً) في مكانٍ آخَر (أو: رُبَّما في المكانِ نفسِهِ!).
والفرقُ كبيرٌ بينَ أنْ يكونَ المُبدِعُ (شعبيَّاً)، فيُمثِّلُ تطلُّعاتِ النَّاس، لكنْ برفعِها إليهِ والارتقاءِ بها وبأفكارِها ووعيها وثقافتِها ورُؤيتِها للحياة والكون والحُرِّيَّة، وأنْ يكونَ (شعبويَّاً) على مبدأ (ما يطلبُهُ الجُمهور)، وهذا أحدُ عناصرِ التباسِ نصِّ نزارٍ خارِجَ التَّقييم الإيجابيّ أو السَّلبيّ؛ أي: هذهِ خُصوصيَّةُ نزار التَّمويهيَّة البهلوانيَّة وأُسلوبُهُ المُتفرِّد إذا تذكَّرنا إحدى مَقولات النَّقد الحديث الشَّهيرة: “الرَّجُل هوَ الأُسلوب”.
ولعلَّ هذا الالتباس يَظْهَرُ بحنكةٍ في قصائدِ نزار المُغنَّاةِ، فهوَ أكثَرُ شاعرٍ عربيٍّ فصيحٍ غُنِّيَتْ لهُ قصائد في العصر الحديث على الإطلاق، ومن أشهرِ من غنَّى لهُ: (أمّ كلثوم _ فيروز _ عبد الحليم حافظ _ نجاة الصَّغيرة _ فايزة أحمد _ محمَّد عبده _ طلال مدَّاح _ خالد الشِّيخ _ أصالة نصري _ إلهام المدفعي _ ماجدة الرُّومي _ لطيفة التُّونسيَّة _ غادة رجب _ صابر الرُّباعي _ كاظم السَّاهر).
وينعتُهُ كثيرونَ، في هذا الإطارِ، بصفةِ (شاعرٍ غنائيّ) ظنَّاً منهُم أنَّهُم ينتقِصُونَ من قيمَتِهِ الإبداعيَّة، غير أنَّ المَسألةَ أعقَدُ من هذا الاختزالِ ومن تلكَ الأُحاديَّة، ففي قصائدِهِ المُغنَّاةِ يحضرُ نزار (الشَّعبيّ) و(الشَّعبويّ) في آنٍ معاً، فضْلاً عن ضرورةِ الإشارةِ إلى أنَّهُ قد أغنَى بهذهِ القصائدِ المكتبةَ المُوسيقيَّةَ العربيَّة، وعمَّقَ حُضورَ اللُّغةِ العربيَّةِ المُصابَةِ بالتَّراجُعِ والانحسارِ، نسبيَّاً، في ظلِّ التَّراجُعِ السِّياسيّ والاجتماعيّ والحضاريّ العربيّ العامّ.
وفي هذا السِّياق، أحاوِلُ أنْ أفكِّكَ (جدَلاً) الخطابَ العامّ لرسِمِ خطٍّ فاصِلٍ افتراضيّ أو إجرائيّ بينَ حُضورِ المُستوييْن عندَهُ، حيثُ يصعبُ عمَليَّاً الفصلُ حدِّيَّاً بينَ هذيْن المُستوييْن في جميعِ قصائدِهِ، أو حتَّى ضمنَ النَّصِّ الواحدِ لهُ:
1_ نصُّ نزار الشَّعبويّ: وهوَ النَّصٌّ أو الشَّذراتُ المُنطويةُ على خطابٍ (استهلاكيٍّ) مُشبَعٍ بالمُباشَرَة والخطابيَّة والهجائيَّة العاطفيَّة أو السِّياسيَّة أحياناً، وهوَ نصٌّ لا يكفُّ عن استثارة مخيالِ المُتلقِّي العربيّ الظَّمِئ للحُرِّيَّة على مبدأ جدِّنا (عمرو بن كلثوم) في قولِهِ: “ألَا يجهلنَّ أحدٌ علينا/ فنجهلَ فوقَ جهلِ الجاهلينا”، عبرَ:
أ_ استثارةُ الشَّبَقِ الجنسيّ: (مُداعبَةُ النَّقصِ الوُجوديِّ للّذّات/ الجسَد العربيّ: الكبت الجنسيّ المُعاصِر).
ب_ استثارةُ الشَّبَقِ السِّياسيّ: (مُداعبَةُ النَّقصِ الوُجوديِّ للّذّات/ الهُوِيَّة العربيَّة: الكبت الحضاريّ المُعاصِر).
2_ نصُّ نزار الشَّعبيّ: وهوَ النَّصُّ أو الشَّذراتُ المُنطويةُ على خطابٍ أو إيحاءٍ فنِّيٍّ جَماليٍّ لهُ (خلفيَّةٌ فكريَّةٌ رافعةٌ) للوعي العامّ، بهَزِّ ثَوابتِهِ وخلخلَةِ سُكونيَّتِهِ واستسلامِهِ/ تسليمِهِ للعاداتِ والتَّقاليدِ البالية التي دأَبَ على نقدِها جيلٌ عربيٌّ كامِلٌ وُصِفَ بالتَّقدُّميِّ (وهذا المُصطلَح ليسَ مُطابِقاً للدَّلالةِ الأيديولوجيَّةِ على الأقلّ هُنا)، وذلكَ عبرَ مُحاوَلَةِ:
أ_ مُجاوَزَة التَّأثيم المركزيّ (الجنسيّ/ العاطفيّ) في محور (الجسَد/ الحُبّ).
ب_ مُجاوَزَة (الطُّهرانيَّات والعنتريَّات) المركزيَّة الكاذبة في محور (الواقع العربيّ السِّياسيّ والحضاريّ).
ما يُشبِهُ الخاتمة
أخيراً، وليسَ آخِراً: أتمنَّى أنْ أكونَ قد وُفِّقْتُ في تقديمِ قراءةٍ مُغايِرَةٍ ومُحرِّضَةٍ في الوقتِ نفسِهِ لإعادَةِ فَهْم شِعر نزار، وكذلكَ لإعادَةِ فَهْمِ نُصوصِ غيرِهِ من شُعرائِنا وحتَّى من مُفكِّرينا العرب وأنساقِ خطاباتِهِم، وهوَ أمرٌ نحتاجُهُ بقُوَّةٍ وجلاءٍ لدُخولِ عصرِنا الجديد هذا، بروحٍ ورُؤىً جديدةٍ ومُواكِبَةٍ لهُ ولمُستجدَّاتِهِ في المَجالاتِ كافَّة.
لذلكَ، أرى أنَّنا نحتاجُ إلى تفكيكٍ عميقٍ ومُتأنٍّ ومُتَّزنٍ بعيدٍ عن الأهواءِ الشَّخصيَّةِ ومُسبَّقاتِها الحاكِمَةِ (مَدحاً/ حُبَّاً، أو ذمَّاً/ كُرهاً) لشِعر نزار أو لإبداعاتِ غيرِهِ الأدبيَّةِ والفكريَّةِ والمَعرفيَّةِ. مُتطلِّعاً، أيضاً، إلى ربطِ هذهِ القراءةِ بمُستوياتِها السِّتَّةِ المُقترَحةِ هُنا بدراساتٍ تطبيقيَّةٍ مُوسَّعةٍ في نُصوصِهِ.
ولعلَّ مثلَ هذهِ المُقارَباتِ المَأمولة ينبغي أنْ تأخذَ بعينِ الاعتبارِ جدَليَّةَ المَرحليِّ والمُطلَقِ؛ أي: أنْ تأخذَ بعينِ الاعتبارِ أهمِّيَّةَ ما قدَّمَهُ نزار في عصرِهِ وجِدَّتَهُ من زاويةِ الزَّمنِ الخطِّيِّ التَّاريخيِّ تراكُميَّاً، وأنْ تنظُرَ في الوقتِ نفسِهِ إلى أهمِّيَّةِ هذا المُنجَزِ الإبداعيِّ على ميزانِ زمنِ الشِّعرِ المُطلَقِ (معياريَّة الشِّعرِ الصّافي).
أمَّا أنا على المُستوى الشَّخصيِّ؛ فلرُبَّما لا أتذوَّقُ الكثيرَ من قصائدِ نزار، لكنَّني، في الآنِ عيْنِهِ، ما زلتُ أُدهَشُ بالكثيرِ من صُوَرِهِ الفنِّيَّةِ، وبعددٍ لا بأسَ بهِ من نُصوصِهِ، فضْلاً عن أنَّني في الأبعاد العاطفيَّةِ والوُجدانيَّةِ العميقَةِ، وحتَّى في المُستوى العقليِّ الباردِ، أحبُّ (نزاراً) كثيراً، وأعتزُّ بهِ شاعراً دمشقيَّاً وسوريَّاً وعربيَّاً استثنائيَّاً.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا
قراءة وتحليل أدبي ذو بعد سياسي لشعر ومسيرة الشاعر العربي الكبير “نزار قباني” لقد ساهم نزار في تنقيةِ الجُملة الشِّعريَّة والصُّورة الفنِّيَّة والأسلوب التَّكوينيّ/ الدَّلاليّ من الكثير من مَحمولِ الخطابة التَّقليديَّة وشوائبِها البَلاغيَّة وليكون مُؤسِّس للحداثة لتعاضَدَ في نصِّهِ على نحْوٍ جديدٍ ولافتٍ، بالانتقالُ إلى اللُّغة الابتداعيَّة والانحيازِ إلى (الشِّعر اليوميّ) يجب أنْ تأخذَ بعينِ الاعتبارِ أهمِّيَّةَ ما قدَّمَهُ نزار في عصرِهِ وجِدَّتَهُ من زاويةِ الزَّمنِ الخطِّيِّ التَّاريخيِّ تراكُميَّاً باعتباره شاعراً دمشقيَّاً وسوريَّاً وعربيَّاً استثنائيَّاً.