“محاكمة في طوكيو”: تأريخ ولادة عالم ما بعد الحرب العالمية

جينيفر ليند

لربما أسهم الابتعاد من المثالية الليبرالية في محاكمة القادة العسكريين اليابانيين في تعزيز استقرار ما بعد الحرب.

في الثالث من مايو (أيار) 1946، وكان صباحاً ربيعياً دافئاً في طوكيو، صاح المارشال بالحاضرين للوقوف، ودخل 11 قاضياً إلى قاعة المحكمة لافتتاح جلسات “المحاكمة العسكرية الدولية للشرق الأقصى”. وكان القضاة الذين يمثلون عدداً كبيراً من دول الحلفاء، تحت أنظار جمهور ياباني (في قاعة المحكمة) يفوق المئة الشخص إلى جانب عدد مماثل من الصحافيين اليابانيين والأجانب. كان مضى أقل من عام على استسلام اليابان للحلفاء، وقبل بضعة أيام من افتتاح جلسات المحاكمة قام رئيس هيئة الادعاء بإصدار لائحة اتهامية بحق القادة العسكريين والمدنيين اليابانيين خلال الحرب، تضم 55 تهمة.

وجلس 28 متهماً أمام القضاة، من بينهم هيديكي توجو، رئيس وزراء اليابان حتى منتصف 1944. وعرف توجو جيداً المكان الذي يحيط به. فمبنى وزارة الجيش الياباني استضاف مكتبه خلال الحرب. والآن راح القضاة الذين بات مصير حياة توجو بيدهم، يشغلون ذلك المكتب. وتلك مفارقة مثل غيرها من المفارقات الكثيرة المتعلقة بالمحاكمة، لم يغفلها توجو أو غيره من المتهمين.

“محاكمة طوكيو”، كما أصبحت تعرف، حظيت باهتمام قليل في الغرب، خصوصاً إذا ما قارناها بمحاكمات نورنبيرغ (محاكمة النازيين الشهيرة). فعندما يتذكر الغربيون الحرب العالمية الثانية يركزون على المسرح الأوروبي: سقوط فرنسا ومعركة بريطانيا ويوم الإنزال في النورماندي (دي داي). وحين يلقون نظرة على آسيا في ذلك السياق فإنهم يميلون تقريباً إلى تكريس نظرتهم للصعوبات التي واجهها الغربيون هناك، مثل خسارة بريطانيا لسنغافورة التي انتزعها اليابانيون عام 1942، أو لما شهدته شواطئ سايبان وإيوو جيما من وقائع دامية. ويتذكر الأميركيون قصفهم النووي لليابان، لكن تذكرهم ذلك ليس للتفكر بما عاناه المدنيون نتيجته، بقدر ما هو احتفاء بنهاية الحرب أو تفكر ببداية العصر النووي.

أما غاري باس في كتابه الرائع “محاكمة في طوكيو” (Judgment at Tokyo)، فيحثنا على فهم أعمق للوقائع التي شهدتها آسيا في ظل الحرب والاحتلال. وهو يبين الأدوار التأسيسية التي لعبتها تلك المحاكمة في السياسات الآسيوية بعد الحرب، كما في قيام المنظومة الدولية لحقوق الإنسان في هذه الحقبة عينها. باس، أستاذ العلوم السياسية والقضايا الدولية في جامعة برينستون، درس بعمق تقاطع مبادئ حقوق الإنسان والسياسة. وهو بفضل خبرته السابقة في العمل الصحافي – كان مراسلاً لمجلة “إيكونومست” – يتميز بأسلوب واضح يمتن نصه الكتابي. فـ”محاكمة في طوكيو” مكتوب بالضخامة التي يستحقها الموضوع، لكنه يتميز في الوقت عينه بجانب من الفطنة والذكاء (لم تكن إنجليزية القاضي السوفياتي سيئة جداً، يذكر باس، فهو في الأقل يعرف تعبير “ارفعوا أقداحكم” bottoms up) [عبارة تقال قبل الشروع في احتساء شراب كحولي برفقة أصدقاء].

والمحاكمة التي امتدت بين عامي 1946 و1948 طالت أكثر بثلاث مرات من محاكمات نورنبيرغ. ويطلع قراء كتاب باس على قصص القضاة الاستثنائية وعلى وجهات نظرهم المختلفة. وطاقم الشخصيات متعدد الجنسيات في المحكمة ضم أسماء معروفة مثل الإمبراطور الياباني هيروهيتو والجنرال في الجيش الأميركي دوغلاس ماكارثر. لكن شخصيات مساندة أخرى، أقل شهرة، أدت أيضاً أدواراً أساسية (في المحاكمة)، يذكر منها باس شخصية توغو شيغينوري التراجيدية، وهو “وزير الخارجية الياباني المؤمن بالسلام” الذي حاول إيقاف الهجوم الياباني على بيرل هاربر والذي، على رغم ذلك، انتهى به الأمر في المحاكمة كمجرم حرب. وثمة شخصيات أخرى قدمت شهادات ضمن المحاكمة وكان لها حضور آسر، منها: الطالب الجامعي لي كوان يو من سنغافورة، وبويي، آخر أباطرة الصين من سلالة تشينغ (Qing).

وقدم أكثر من 400 شخصية شهادات روت وقائع الحملات الاستعمارية اليابانية وسلسلة الفظائع المروعة المرتكبة في سياقها. المتهمون بدورهم تحدثوا أيضاً وشرحوا مواقفهم. وفي فصل حيوي ومتين على نحو خاص يصف باس الشهادة القوية والجريئة التي قدمها توجو، فيكتب: لقد “مسح الأرض” برئيس هيئة الادعاء جوزيف كينان. وقد ساعدت شهادة توجو هذه – كما الاعتراض الذي قدمه القاضي الهندي ردهابينود بال – في خلق سردية متينة مقابلة تبناها المحافظون اليابانيون بعد الحرب ودافعوا عنها.

وسخر أولئك المحافظون اليابانيون، كما غيرهم، من محاكمة طوكيو، فاعتبروها “عدالة المنتصر”. بيد أن كتاب “محاكمة في طوكيو” يقدم المحاكمة هذه على أنها مسعى ناقص، لكنه يستدعي التقدير، إذ إن باس، ومن دون أن يكون مثالياً حالماً أو ساخراً شكاكاً، يشرح الكيفية التي أسهمت بها الأفكار الليبرالية في تحديد جهود الحلفاء الهادفة إلى وضع نهاية عادلة للحرب العالمية الثانية. على أن المؤلف يكشف أيضاً عن كيف جرت التضحية بتلك المبادئ المثالية (للعدالة والليبرالية) على مذبح الواقع السياسي والعسكري، وقد كان الأبرز في هذا السياق قرار الحلفاء ضمان الحصانة لـهيروهيتو.

أما السؤال الذي يحتل موقع الصدارة في كتاب “محاكمة في طوكيو”، فهو كيف ينبغي للتاريخ أن ينظر إلى تلك المحاكمة التي لم تكن صورية كما لم تكن نموذجية في التزام المبادئ التي سعت إلى تمثيلها. وهذا السؤال لا يتعلق بالتاريخ فحسب، بل له أهمية كبرى في سياق السجال المعاصر في موضوع “النظام الدولي المستند إلى قواعد (وقوانين محددة)” الذي دافعت عنه الولايات المتحدة وشركاؤها الليبراليون، إذ إن منتقدي هذا النظام ينتقدون لغة “قواعده” ويرفضونها باعتبارها سياسة واقعية باردة تتنكر في زي المثالية. وتأتي مقاربة باس ومراجعته لمحاكمة طوكيو كي تمنح قراء كتابه منظوراً جديداً مفاجئاً للتفكر بهذا السجال. وتظهِر رؤيته أن السعي خلف المثالية في السياسات الدولية، تنافس على الدوام مع البراغماتية والمصلحة الذاتية، وذلك فرض اعتماد المقايضات وأثار الاستياءات والسخط.

قصص الحرب

أدت نهاية الحرب العالمية الثانية إلى إطلاق حقبة خلق السرديات الخيالية. الأميركيون والأوروبيون الغربيون في هذا السياق اعتبروا إنزال النورماندي عام 1944 نقطة الانعطاف والتحول في الحرب، على رغم أن السوفيات هم من أنزل الهزيمة بالجزء الأكبر من الجيش الألماني في الشرق. وفي أغسطس (آب) 1944، جال شارل ديغول مستعرضاً عسكره في الشانزيليزيه كأنه أنجز للتو تحرير فرنسا. وفي أعقاب الحرب استذكر الإيطاليون جنودهم، مطلقين عليهم لقب الـ”برافا جينتي” brava gente (حرفياً الأشخاص الطيبون) – أي الخيرون الشرفاء والمنزهون عن فظائع كتلك التي ارتكبها الجيش الألماني.

كذلك، في السياق عينه، ظهرت سرديات مفيدة سياسياً تتعلق بالقارة الآسيوية في حقبة ما بعد الحرب. ويتعلم تلامذة المدارس الأميركيون اليوم أنه بعد قصف هيروشيما وناغازاكي (بالقنبلة الذرية)، استسلم هيروهيتو للولايات المتحدة من دون شروط. لكن باس يظهر أنه حتى بعد إحراق الجيش الأميركي أكثر من 60 مدينة يابانية، وتدمير المدينتين المتبقيتين بالأسلحة النووية، كانت خاتمة الحرب ما زالت قيد التفاوض. وفي تلك المفاوضات أُجبر المنتصر على القيام بتنازلات تخفف من قسوة قبضته (قراءة هذا القسم من الكتاب مهمة للذين يبحثون في سيناريوهات إنهاء الحرب في أوكرانيا، خصوصاً بالنسبة إلى المصرين على إمكان إجبار روسيا على التخلي عن كل هدف من أهدافها).

وكان الشرط الأساسي لاستسلام اليابان “غير المشروط” ضمان حصانة هيروهيتو. وقرار إبقاء الأخير بمنأى عن إدانة المحكمة أغضب قضاة كثراً وأشاع مشاعر سخط في أوساط الرأي العام في دول الحلفاء، حيث كان ينظر إلى هيروهيتو على أنه العقل المدبر للإمبريالية اليابانية. لكن القادة العسكريين الأميركيين خشوا من قيام حركة مسلحة عنيفة في اليابان بعد هزيمة هذا البلد. “هيروهيتو يمثل رمزاً يوحد جميع اليابانيين، إن حطمناه ستتفكك الأمة”، قال ماكارثر محذراً. نتيجة لهذا، يكتب باس، “وعلى رغم تورطه في كثير من قرارات حكومته التوسعية عبر القارة الآسيوية، كما في أمر الهجوم على بيرل هاربر،… فقد انتهت الحرب مع بقاء هيروهيتو في القصر الإمبراطوري، فيما قبع رجالاته في قفص الاتهام”.

قرار إبقاء هيروهيتو (والنأي به عن المحاكمة) قاد أفراد النخبة اليابانية والمسؤولين الأميركيين الذين أداروا احتلال اليابان بعد الحرب، إلى توحيد الجهود لخلق أسطورة عن براءة هيروهيتو، أو وفق تعبير باس، لـ “غسل يديه” من الدور الذي أداه خلال الحرب. فالإعلام الياباني  الذي فرض المسؤولون الأميركيون رقابتهم ومارسوا نفوذهم عليه بعد نهاية الحرب – إضافة إلى المتهمين في إطار محاكمة طوكيو، قاموا بنسج قصة قائد صوري ضعيف ورطه في الحرب قادة عسكريون مندفعون. ولكي يؤدي دوره في تلك الأسطورة، قال هيروهيتو عام 1946 إنه “من الناحية العملية كان سجيناً وعاجزاً (خلال الحرب)”.

باس لا يماشي هذا الكلام، ويقوم في كتابه “محاكمة في طوكيو” بمتابعة الصفعات التي سبق ووجهت لأسطورة هيروهيتو مع كتابي “هيروهيتو وصياغة اليابان الحديثة” Hirohito and the Making of Modern Japan لهيربرت بيكس، و”قبول الهزيمة” Embracing Defeat لجون دوير. ويظهر باس أقصى براعته في تبيانه أن قصة عجز هيروهيتو هي الأسطورة، ويوضح ذلك عبر استعادة اللحظة التي جرى فيها، وعن غير قصد للمفارقة، الطعن بتلك الأسطورة من قبل أحد أشد مؤيديها، إذ إن توجو في مرحلة ما خلال الإدلاء بشهادته “زل لسانه على نحو كارثي”، وفق ما يكتب باس، فذكر أن الحكومة اليابانية دخلت الحرب “تماشياً مع إرادة الإمبراطور”. وأشار رئيس القضاة إلى زلة لسان توجو تلك، ثم “ساد الصمت والذهول” في قاعة المحكمة.

محاكمة صورية

اعتبر كثيرون أن الحصانة التي منحت لهيروهيتو مثلت الخطيئة الأساسية التي جعلت محاكمة طوكيو مشروعاً مسيساً. وفي الحقيقة قدم القاضي الفرنسي هنري بيرنار اعتراضاً رأى فيه أنه إذا اعتبرنا أن قادة اليابان العسكريين مذنبون بتهمة التآمر، فإن للتآمر ذلك “مصدراً أساسياً نجا من كل أشكال الملاحقة القضائية”. كذلك أظهر باس، إضافة إلى تبيانه الطريقة التي انتهكت فيها المحاكمة مبدأ مسؤولية الفرد في حالة الإمبراطور، الطرق الكثيرة الأخرى التي فشلت فيها المحاكمة في الارتقاء إلى مستوى الاجتهاد القضائي بمعاييره السليمة.

وقبل ذلك، كان محامو الدفاع طرحوا “تحدياً كبيراً لاختصاص المحكمة بحد ذاته” (أي شككوا في شرعيتها القانونية)، إذ رأوا أن “المحكمة بذاتها لم تتأسس على نحو سليم وأن بعض أصناف الجرائم الواردة في ميثاقها ليست جرائم يعاقب عليها القانون في الحقيقة”. وإزاء ذلك التحدي الذي طرحه المحامون، غدا كنان المتلعثم، وفق ما يكتب باس، أحمر الوجه (أو قرمزي إلى حد ما [من الإحراج]، بحسب ما لاحظ القاضي الصيني ماي رواو)، وقال معترضاً إن على الجنس البشري عدم “تقييد نفسه بقالب مفاهيم قانونية صارم”. أما رئيس القضاة ويليام ويب، فأعلن في نهاية هذا السجال أن تسويغاً لاختصاص المحكمة “سيقدم في وقت لاحق”. وذلك لم يحصل أبداً.

وخرقت محاكمة طوكيو أيضاً قاعدة استقلالية القضاء، إذ إن قضاة كثراً كانوا يجرون مشاورات وثيقة مع حكوماتهم (في مسائل المحاكمة). وهي أيضاً انتهكت القاعدة القانونية التي تحظر على طرف من الأطراف أن يكون قاضياً في قضية أو محكمة تتعلق به. ففي (منطقة) تشونغ كينغ كان القاضي (الصيني) ماي رواو قاسى واقع الحال جراء القصف الياباني، كذلك عانى القاضي الفيليبيني جارانيلا جراء “مسيرة الموت في باتان” عام 1942. وتغاضت المحاكمة أيضاً عن وقائع أخرى شهدت انتهاكات لحقوق الإنسان. فلم يجرِ توجيه تهمة لأحد في ما يتعلق ببرنامج “نساء المتعة” التي طبقته اليابان خلال الحرب، إذ جرى سجن مئات آلاف النساء الآسيويات واغتصابهن مراراً وتكراراً في مواخير على جبهات القتال. لو قامت محاكمة طوكيو بالإضاءة على هذه الفظائع فإنها كانت ستساعد في تعزيز قواعد حظر العنف ضد النساء ومظاهر الاتجار الجنسي. لكن، بدلاً من أن يحصل ذلك، فإن ما شهدناه في العقود اللاحقة تمثل في بقاء أجساد النساء الآسيويات سلعاً في السياحة الجنسية بجنوب شرقي آسيا وفي أنشطة الدعارة التي ازدهرت حول القواعد العسكرية الأميركية المتمركزة في المنطقة.

على أن لائحة التقصير والإخفاقات في هذا السياق تطول وتطول. فمحاكمة طوكيو استثنت اللواء الركن الياباني إيشي شيرو، قائد الوحدة 731. وتلك الوحدة هي التي طبقت برنامج الأسلحة البيولوجية السري الذي مارس اختبارات طبية فظيعة بحق المدنيين والجنود الصينيين والذي قتل 250 ألف شخص عبر القيام عمداً بنشر وباء الطاعون الدبلي (أو الدملي) في مدن صينية. وبعد استثنائه من الأحكام والإدانة عقد إيشي اتفاقاً مع الجيش الأميركي كي يتعلم الأخير من “خبرته المروعة”، وفق تعبير باس.

كذلك أغفلت المحاكمة وتجاوزت وجود الضحايا اليابانيين الذين قضوا جراء الفظائع. فمع وجود قاضٍ سوفياتي ضمن هيئة المحكمة، لم يجلب أي مسؤول سوفياتي للمثول أمام العدالة جراء الجرائم المرتكبة بحق أسرى الحرب اليابانيين الذين، وفق ما يكتب باس، “قضوا بأعداد مهولة في المعسكرات السوفياتية”. كذلك يستعرض “المحاكمة في طوكيو” المعاناة اليابانية جراء القصف الأميركي بالأسلحة التقليدية والنووية. فعمليات القصف هذه كانت ستعتبر جرائم حرب لو أن تسوية ما بعد الحرب جاءت على نحو مختلف، وفق ما يرى باس، إذ بعد أعوام قليلة من محاكمة طوكيو ذكر الجنرال الأميركي كورتيس ليماي، متأملاً: “لحسن حظنا كنا في الجانب المنتصر”.

ويعتبر باس أن المحاكمة في الغالب تشكلت توافقاً مع واقع إمبريالي مجبول بالعنصرية. “فالقادة اليابانيون سيحاسبون”، يكتب باس، “لكن ليس بسبب مهاجمة بورما، ومالايا، أو سنغافورة، بل لمهاجمتهم الكومنولث البريطاني”. كل جنوح إمبراطوري كان له صوت في المحاكمة. “الإندونيسيون يتحدث باسمهم الهولنديون، والفيتناميون يتحدث باسمهم الفرنسيون، أما الكوريون فلا يتحدث باسمهم أحد”.

والحق أن “الاعتراض المشهود” الذي قدمه القاضي الهندي بال أشاح الستار عن قضايا كهذه. اعتراض بال هذا الذي جاء في أكثر من ألف صفحة، مثل “الوثيقة الوحيدة في محاكمة طوكيو التي تناولت العنصرية والإمبريالية كموضوعين أساسيين في السياسات الدولية”، وفق ما يلاحظ باس. وهاجم بال النفاق السوفياتي إزاء الوحشية التي مارسها الاتحاد السوفياتي بحق أوروبا الشرقية بعد الحرب. كما أنه “كان على نحو متعادل يبخس بالاستعمارية الغربية”، وفق ما يذكر باس. “لو أن هيمنة أمة على أمة أخرى تعد جريمة دولية، فإن أمماً قوية كثيرة ستعتبر مجرمة”، كتب بال (في اعتراضه المطول).

وفي اعتراضه ذلك منح بال صوتاً للأفكار التي فضل مهندسو المحاكمة طمسها والتعتيم عليها. لكن باس يكشف أيضاً عن أن اعتراض بال تضمن طروحات مقلقة، إذ إن رئيس الوزراء الهندي جواهرلال نهرو “أصيب بالصدمة تجاه آراء بال” التي اعتبرها “تبريراً مشهوداً لممارسات اليابان على مدى العقود الثلاثة الأخيرة”. فالتغاضي الذي مارسه بال إزاء الفظائع اليابانية، وفق ما يكتب باس، غدا توجهاً أساسياً لسردية المحافظين اليابانيين المعاكسة التي اعتمدت بعد الحرب.

لعبة نزيهة

مع ذلك، وعلى رغم عيوب المحاكمة، يرى باس أن “واقع وجود تلك المحاكمة وحده، شكل أمراً استثنائياً”، إذ إن أحد الإسهامات الكبرى التي يتضمنها كتاب “محاكمة في طوكيو” يتمثل في مسألة تسليطه الضوء على السبل التي لم يجرِ سلوكها. لقد أراد ماكارثر محكمة تضم فقط قضاة أميركيين لمحاكمة توجو وغيره بتهمة الهجوم على بيرل هاربر (حصراً)، إذ إن الرأي العام في دول الحلفاء الذي كانت تراوده مشاعر انتقامية – كما هي الحال بالنسبة إلى القيادة الصينية والروسية – فضل “انتهاج طريق أكثر بساطة للتعامل مع قادة اليابان: أي قتلهم فحسب”.

لكن بدلاً من ذلك، وبفضل الإفادات المفصلة التي أدلى بها الشهود وبفضل تعدد القضاة، أسهمت المحاكمة في تأسيس تاريخ أغنى للحرب في آسيا – تاريخ غير مكتمل، صحيح، لكنه أكثر غنى. فالقضاة لم يؤدوا مجرد حضور صوري لا فائدة منه، بل مثلوا في غالبية الأوقات نخبة خبراء القانون في بلدانهم. وأظهر القضاة من هولندا وفرنسا والهند تمسكاً مثابراً بالأصول القانونية، فأصدروا اعتراضات خالفت الأحكام التي كانت حكوماتهم تفضلها”. ويشير باس إلى أن المتهمين تمتعوا “ببعض صيغ مراعاة الأصول والإجراءات القانونية”، كذلك أظهر محاميا الدفاع الياباني والأميركي “مقداراً كبيراً من المهنية” وقدما مطالعات “كاملة لمصلحة موكليهم اليابانيين”. وقد صدم اليابانيون عندما قام بن بلايكني – المحامي والرائد في الجيش الأميركي الذي تولى الدفاع عن اثنين من المتهمين اليابانيين – بمساءلة لائحة الاتهام التي وضعتها حكومته، إذ اعتبرت قتل الجنود الأميركيين في بيرل هاربر يعادل فعلاً إجرامياً. فلو كان الأمر كذلك، رأى بلايكني، “فإننا نعرف بالاسم الرجل عينه الذي ألقى بيده القنبلة النووية على هيروشيما”.

في هذا الإطار يرى باس أن محاكمة طوكيو أدت دوراً تثقيفياً حيوياً بالنسبة إلى العالم واليابان على حد سواء. فتلك المحاكمة “سلطت ضوءاً قوياً على قرارات كارثية مثل اجتياح الصين (من قبل اليابان) ومهاجمة الولايات المتحدة”، وفق ما يكتب باس. و”الشعب الياباني ذهل وصدم” حين سمع عبر إفادات شهود عيان عن “الانقضاض المروع على نانجينغ ومانيلا”، وعن عمليات “الاغتصاب الجماعية التي قام بها جيشهم بحق النساء المدنيات”. ومن المؤكد أن التدوين التاريخي كان يمكن أن يكون أكثر غنى لو بذلت المحاكمة جهداً أكبر في إظهار الوقائع الحقيقية للدول الآسيوية بدل واقع حال مستعمريها، وفي الكشف عن العنف الذي مارسه الحلفاء إلى جانب ما كابدوه من معاناة. بيد أن المحاكمة، وعبر الإضاءة على انتهاكات حقوق الإنسان تلك، أسهمت في وضع السجل التاريخي، كما ساعدت في نزع المصداقية السياسية الخارجية العسكرية التي كانت معدة للتطبيق في اليابان، فمكنت باحثين وقادة سياسيين ليبراليين من العمل ضد من حاولوا نفي انتهاكات حقوق الإنسان التي اقترفتها اليابان.

وهناك عنصر مهم لافت في “محاكمة في طوكيو”، ويتمثل في الإضاءة على كيف سمح الابتعاد من المثالية الليبرالية ربما في تعزيز الاستقرار في مرحلة ما بعد الحرب. كما يدعو باس القراء، في مسألة الحصانة التي منحت لهيروهيتو، إلى التفكر بفضائل البراغماتية وأخذها في الاعتبار. لا أحد يمكنه أن يعرف إن كانت محاكمة هيروهيتو لو جرت فعلاً ستشعل انتفاضة مسلحة. لكن بعد الحرب “لم يكن هناك في الواقع أي علامة تشير إلى مقاومة مسلحة”، يكتب باس، فاليابانيون أنفسهم أشرفوا على عملية التسريح الضخمة (تسريح الجيش وإعادة تشكيله وفق الشروط الأميركية). ثم في ما بعد حققت اليابان النمو الاقتصادي المذهل الذي سمح لها الانضمام إلى مرتبة الدول الأكثر ازدهاراً في العالم.

عودة للمستقبل

يوضح باس أن هدف كتابه “الإتاحة للقراء بأن يكوّنوا بأنفسهم صورة عن كيفية عمل المحاكمة وعن معانيها”. وهو من هذه الناحية شديد التواضع، إذ إن إسهامه يتخطى كثيراً واقع طوكيو في الأربعينيات، فيلقي كتابه ضوءاً على النقاش الدائم والمستمر في مسألتي الليبرالية والسياسات الدولية.

فكما فعل الحلفاء خلال محاكمة طوكيو، فإن القادة الأميركيين وحلفاءهم وشركاءهم اليوم غالباً ما يقولون إن سياساتهم الخارجية تهدف إلى التمسك بمجموعة من القوانين الموضوعية القادرة على تعزيز السلم في جميع أنحاء العالم، من دون أن تكون تلك القوانين متجذرة في المصلحة الذاتية (الأميركية والغربية). ففي 2022، مثلاً، أعلن المستشار الألماني أولاف شولتز في هذا الإطار أن الحكومات الغربية لا تسعى إلا إلى الحفاظ على “نظام عالمي يلزم القوى قواعد وأصولاً، ويواجه الأفعال التحريفية”. وفي العام ذاته، وصف وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن النظام الليبرالي الدولي بأنه “النظام الذي أسهم العالم بأسره في بنائه بعد حربين عالميتين بغية تنظيم العلاقات بين الدول وتلافي النزاع ودعم حقوق جميع الشعوب”.

بعد الحرب العالمية الثانية رأى يابانيون كثر أن “كل الأحاديث المنمقة عن القانون تبقى كلاماً فارغاً”، يكتب باس. اليوم أيضاً، منتقدون كثيرون من جميع أنحاء العالم يردون على الخطاب الليبرالي بتعبيرات الامتعاض والرفض. وفي السياق، بالذكرى السنوية الـ20 للاجتياح الأميركي للعراق علق المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية وانغ وينبين ساخراً عبر قوله “النظام الدولي المستند إلى القوانين” لا يتميز بشيء عن “قانون الأدغال”. وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2022، اشتكى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من “أننا لا نسمع من الغرب سوى إصرار على فكرة النظام الدولي المستند إلى القواعد والقوانين”، متسائلاً “من أين يأتي هذا الإصرار؟ من شاهد تلك القواعد والقوانين؟ من وافق عليها وأقرها؟” كذلك ذكر بوتين في السياق، كما فعل عام 2007، بأن “الحالة الوحيدة لاعتبار استخدام القوة مشروعاً وقانونياً هي عندما يأتي قرار استخدامها من الأمم المتحدة”.

ربما يفكر المرء بأن القادة الصينيين والروس هؤلاء ينافقون نظراً إلى اجتياح روسيا لأوكرانيا، والذي تدعمه الصين ضمنياً، ولا يحظى، طبعاً، بتفويض أو تأييد من الأمم المتحدة. إلا أن انتقاداتهم (للنظام الدولي الذي يتحدث عنه الغرب)، بحسب دراسة مستمرة تديرها مدرسة فليتشر في جامعة تافتس، تتردد أصداؤها في عالم قامت فيه الولايات المتحدة باستخدام القوة أكثر من 100 مرة منذ عام 1990، وباستمرار من دون تفويض أو موافقة الأمم المتحدة. وتلك الانتقادات تتردد أصداؤها أيضاً حين تمجد الولايات المتحدة مبدأ السيادة (الوطنية) في حالة أوكرانيا، فيما كانت تجاهلته في حالتي أفغانستان والعراق. وأصداء الانتقادات تتردد حين تقوم واشنطن بالتباهي بتمسكها بنظام تجاري دولي قائم على القواعد والقوانين فيما تستخدم نفوذها، ضمن ذلك النظام، لسحق الاقتصادين الإيراني والروسي، ولفصل الصين من السلسلة الدولية لإمدادات أشباه الموصلات، وتفرض ضرائب على المنتجات الصينية، مما تعتبره منظمة التجارة العالمية أمراً غير قانوني.

ويرى مؤيدو النظام الدولي الليبرالي أن هذه التناقضات والمواقف المتسمة بالرياء تمثل، في الحقيقة، أرضية للأمل، إذ كما كتب الباحث ماتياس سبيكتور في وقت سابق من هذا العام في “فورين أفيرز”، “فإن الرياء الغربي يمكن أن يكون مفيداً” لأنه “يفرض على صناع السياسات ضمن التحالف الغربي أن يصححوا ردودهم كلما انتبهوا إلى فشلهم في الارتقاء إلى مستوى التزاماتهم الأخلاقية”. ونتيجة لذلك، رأى سبيكتور أن “النظام الدولي الغربي قادر على التعلم والتكيف والتطور”. في هذه الدعوة إلى الاستفادة من عدم اليقين، يفكر المرء بمحاكمة طوكيو التي أكدت للعالم أن اختصاصها القانوني سيفسر لاحقاً. وعلى رغم ذلك الفشل المذهل في هذا الجانب، استمرت المحاكمة في عملها بكل الأحوال. لكن الولايات المتحدة في عالم اليوم لم تعد تدير قاعة محكمة.

جينيفر ليند أستاذة مشاركة لمادة الحوكمة في كلية دارتموث وعضو في هيئة التدريس بمعهد رايشور للدراسات اليابانية في جامعة هارفرد

مترجم عن “فورين أفيرز” في الـ20 من أكتوبر 2023

المصدر: اندبندنت عربية

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. الدول والحكومات تحدد مواقفها المصالح والأجندة الحاكمة لكيانها ، ومحاكمة طوكيو مايو (أيار) 1946 وبالمقاربة للوضع الدولي الحالي ، نرى بإن النظام الدولي الغربي يتقن التعلم والتكيف والتطور والاستفادة من عدم اليقين، عندما نفكر بمحاكمة طوكيو التي أكدت للعالم أن لا اختصاص قانوني يحكمها رغم الفشل المذهل في هذا الجانب، استمرت المحاكمة في عملها بقيادة الولايات المتحدة ولكنها بعالم اليوم لم تعد تدير قاعة المحكمة.

زر الذهاب إلى الأعلى