عودة التصعيد النووي

كير أ. ليبر  داريل ج. بريس

كيف سرق خصوم الولايات المتحدة استراتيجية الردع الأميركية القديمة؟ مرة أخرى، أصبحت الأسلحة النووية قضية بارزة تشغل حيزاً كبيراً في السياسة الدولية، وبدأ نمط خطر في الظهور. في المناطق التي قد تكون فيها الولايات المتحدة أكثر عرضة للانجرار إلى الصراعات، مثل شبه الجزيرة الكورية ومضيق تايوان وأوروبا الشرقية والخليج العربي، يبدو أن خصوم واشنطن إما يشترون أسلحة نووية أو يعززونها أو يهددون باستخدامها. في الواقع، تعمل كوريا الشمالية على تطوير صواريخ باليستية عابرة للقارات يمكنها الوصول إلى الولايات المتحدة، فيما تعتزم الصين مضاعفة حجم ترسانتها، وتطلق روسيا تهديدات باستخدام الأسلحة النووية في حربها في أوكرانيا، ووفقاً لمسؤولين أميركيين، جمعت إيران ما يكفي من المواد الانشطارية لصنع قنبلة نووية. لقد كان أشخاص كثيرون يأملون أن تتلاشى الأسلحة النووية وتفقد أهميتها بمجرد انتهاء الحرب الباردة، لكن عوضاً عن ذلك، أصبحت دول عدة تعتمد على تلك الأسلحة للتعويض عن أي ضعف تعانيه قواتها العسكرية التقليدية.

وعلى رغم ذلك، يزعم المتفائلون في الولايات المتحدة أن خطر اندلاع حرب نووية لا يزال منخفضاً، ومنطقهم في ذلك واضح ومباشر، إذ يعتبرون أن البلدان التي تعمل على بناء قدراتها النووية وتتباهى بتلك الأسلحة وتلوح بها تسعى إلى التضليل والخداع. فالأسلحة النووية لا يمكن أن تخفي ضعف القوات العسكرية التقليدية، لأن التهديدات بالتصعيد، حتى تلك الصادرة عن عدو يائس، ليست ذات صدقية. وبحسب وجهات النظر المتفائلة تلك، فإن أخذ التهديد النووي الذي يطلقه الأعداء الضعفاء على محمل الجد هو أمر مضلل ويخدم لصالحهم على نحو مباشر.

لكنهم لسوء الحظ مخطئون، إذ إن خطر التصعيد النووي أثناء الحرب التقليدية أكبر بكثير مما يميل معظم الناس إلى الاعتراف به. منذ عقود وجدت الولايات المتحدة وحلفاؤها في “الناتو” حلاً للمعضلة التي يواجهها خصوم الولايات المتحدة اليوم، المتعلقة بإيجاد طريقة مناسبة للتهديد الفعال والمقنع بالتصعيد ووضع خصم مسلح نووياً أمام طريق مسدود. آنذاك، طور الغرب استراتيجية التصعيد النووي القسري [الإكراه النووي] لإقناع الاتحاد السوفياتي بأن حلفاء “الناتو” سيستخدمون الأسلحة النووية فعلياً في حال تعرضوا للغزو. واليوم، تبنى خصوم الولايات المتحدة الاستراتيجية النووية القديمة التي انتهجها حلف شمال الأطلسي فطوروا خياراتهم الخاصة لجعل تهديداتهم النووية قابلة للتصديق. لذا، يجب على الولايات المتحدة أن تأخذ على محمل الجد القدرات النووية التي يتمتع بها أعداؤها وعزمهم على استخدامها، إذ سيكون من المأسوي أن ترتكب واشنطن هفوة الدخول إلى حرب نووية لأنها أهملت الاستراتيجية ذاتها التي ابتكرتها منذ عقود مضت.

كتيب استراتيجيات “الناتو” النووية

في أواخر الخمسينيات من القرن الـ20، كان عدد قوات حلف وارسو، وهو تحالف يضم الاتحاد السوفياتي وسبع دول أخرى تابعة له، يفوق عدد قوات حلف شمال الأطلسي من حيث القوة البشرية بمعدل ثلاثة أضعاف تقريباً. وحتى تلك اللحظة، كان رد فعل حلف شمال الأطلسي على التفوق التقليدي السوفياتي بسيطاً. في حال شن السوفيات غزواً على أوروبا الغربية، تشن الولايات المتحدة حملة قصف نووي شاملة ضد الاتحاد السوفياتي. لقد كانت الرسالة الموجهة إلى موسكو وحشية، ولكن قابلة للتصديق، ومفادها أن السوفيات قد يكونون متفوقين ربما في مجال الصراعات التقليدية، بيد أن الحرب الأوروبية المقبلة لن تظل تقليدية.

لكن هذه الاستراتيجية بدأت تتداعى بعد عقد من بداية الحرب الباردة. كان الاتحاد السوفياتي على أعتاب إنشاء ترسانة نووية قوية خاصة به، وهو تقدم كبير مقارنة بالقوة الصغيرة والضعيفة التي كان قد نشرها حتى ذلك الحين. وهكذا، سرعان ما أصبحت استراتيجية حلف شمال الأطلسي غير منطقية، ولم يعد بإمكان الحلف أن يوجه تهديداً موثوقاً بالرد على غزو تقليدي بضربة نووية شاملة على الاتحاد السوفياتي، لأن السوفيات صاروا قادرين على الرد بالمثل. خلال الحرب، كان حلف شمال الأطلسي أمام خيار خاسر للجميع، فإما أن يخسر معركة بالأسلحة التقليدية أو يطلق هجوماً نووياً متبادلاً كارثياً للطرفين. بعبارة أخرى، في العقود الأخيرة من الحرب الباردة، واجه حلف شمال الأطلسي التحدي نفسه الذي يعترض سبيل كثير من خصوم الولايات المتحدة اليوم، إذ كان احتمال نجاحه في تحقيق النصر في حرب تقليدية محدوداً، ولم يكن لديه أمل في الفوز بحرب نووية.

وقد وجد “الناتو” حلاً لهذه المشكلة. في الواقع، وضع الحلف خططاً لاستخدام الأسلحة النووية في حالة الحرب، ولكن بطريقة مختلفة. فبدلاً من الاعتماد فحسب على التهديد بتوجيه ضربة نووية أميركية ضخمة إلى الاتحاد السوفياتي، قرر حلف شمال الأطلسي أن يرد على أي غزو من خلال استخدام الأسلحة النووية كوسيلة إكراه. وهذا يعني إطلاق عدد قليل من الأسلحة النووية، ربما أسلحة تكتيكية ذات نتائج محدودة وقصيرة المدى، ضد أهداف عسكرية، من أجل إقناع القادة السوفيات بأن الحرب كانت تخرج عن نطاق السيطرة، والضغط عليهم لوقف الغزو. كان يمكن لاستخدام الأسلحة النووية بهذا الشكل أن يوجه ضربة قوية للتقدم السوفياتي، ولكن الأهم من ذلك أن يثبت للقادة السوفيات أنهم كانوا يخاطرون بوقوع كارثة نووية. لقد نجح حلف شمال الأطلسي في إيجاد حل لما بدا وكأنه مشكلة مستعصية: كيف تستخدم التهديدات النووية لإحباط عدو لا يمكن التغلب عليه على المستوى التقليدي أو النووي.

ومن أجل دعم هذه الاستراتيجية، نشرت الولايات المتحدة آلاف الأسلحة النووية التكتيكية في أوروبا حتى تتمكن واشنطن من التصعيد بطريقة تشير بوضوح إلى أن هذه الأسلحة ليست مخصصة لشن هجوم شامل على الاتحاد السوفياتي بأكمله. كذلك، أنشأ حلف الناتو ترتيباً يعرف بـ”التقاسم النووي”، تسلم بموجبه الأسلحة الأميركية المتمركزة في أوروبا إلى مختلف حلفاء “الناتو” خلال حرب، من أجل الحرص على أن تحظى الدول التي كان الاتحاد السوفياتي يأمل في اجتياحها، بدفاعاتها النووية الخاصة.

بمرور الوقت تطورت تفاصيل استراتيجية حلف شمال الأطلسي، لكن الأساس المنطقي ظل ثابتاً. لن يحجم حلف شمال الأطلسي عن استخدام أسلحته النووية بينما تتعرض دوله الأعضاء للغزو، ولن يشن ضربة نووية انتحارية على الاتحاد السوفياتي. عوضاً عن ذلك، سيصعد تدرجياً وعلى نحو قسري، على نحو يضمن أن أخطار استمرار الصراع تفوق قدرة السوفيات على الاحتمال.

في ذلك الوقت، انتقد المحللون جوانب عدة في استراتيجية “الناتو”، فقد زعموا، على سبيل المثال، أن الضربات النووية على أهداف عسكرية سوفياتية من شأنها أن تؤدي إلى عمليات انتقامية ضد قوات حلف شمال الأطلسي، من ثم إبطال أية ميزة أو فائدة من استخدام الأسلحة النووية في المقام الأول، ولكن الهدف من تصعيد “الناتو” لم يكن تغيير التوازن العسكري في حد ذاته، بل استعمال صدمة الضربات النووية لتوليد الخوف وإجبار السوفيات على قبول وقف إطلاق النار. في المقابل، تساءل نقاد آخرون لماذا يتوقع حلف شمال الأطلسي أنه بمجرد التصعيد من الجانبين، سيكون السوفيات هم الطرف الذي سيتنازل أولاً. ولقد أشار استراتيجيو الردع إلى أنه في حرب دفاعية، سيكون اهتمام حلفاء الناتو بالدفاع عن حريتهم واستقلالهم الإقليمي أكبر من اهتمام السوفيات بشن حرب عدوانية. في المواقف التي تختبر فيها العزيمة، فإن الجانب الذي يهتم أكثر هو الذي يتمتع بالأفضلية [له اليد العليا].

ولم يوافق النقاد على استراتيجية حلف شمال الأطلسي لأسباب أخرى، هي أن التهديد ببدء حرب نووية قادرة ربما على إنهاء الحضارة الإنسانية بدا أمراً غير أخلاقي، وأنه من الغباء الافتراض أنه من الممكن السيطرة على التصعيد بعد أن يبدأ. لم ينجح زعماء “الناتو” في تبديد مثل هذه الانتقادات، وعلى رغم ذلك، اعتمد الحلف على منطق التصعيد المتعمد للدفاع عن نفسه في مواجهة خصم شرس. وهكذا، فإن الاستراتيجية التي وضعها حلف شمال الأطلسي جعلت من الأسلحة النووية السلاح المثالي للضعفاء، والأداة المثالية لصد المنافسين الأقوياء.

المقلدون

لم تختف استراتيجية التصعيد النووي هذه مع انتهاء الحرب الباردة. ففي جميع أنحاء العالم اليوم، ثمة عدد كبير من الدول المسلحة نووياً، التي تجد أن أعداءها متفوقون عليها في المستوى العسكري التقليدي، يعتمد على الأسلحة النووية لتجنب هزيمة عسكرية كارثية.

باكستان هي مثال بارز على ذلك، إذ إن الهند التي تعتبر عدوها الرئيس، تمتلك خمسة أضعاف عدد السكان، وناتجها المحلي الإجمالي أكبر بتسعة أضعاف، وتنفق على جيشها ستة أضعاف ما تنفقه باكستان. وما يزيد الطين بلة أن غالب المدن الكبرى في باكستان تقع على بعد أقل من 100 ميل من الحدود الهندية، والتضاريس الواقعة في الممرات الأكثر عرضة للغزو الهندي يصعب الدفاع عنها. ومع عجز قادة باكستان عن بناء القدر الكافي من الدفاعات التقليدية، هم يخشون أن تؤدي حرب كبرى إلى تدمير جيشهم والاستيلاء على مدنهم الكبرى أو عزلها. ولذلك فإنهم يعتمدون على الأسلحة النووية كرادع في وجه خصمها المجاور.

تمتلك باكستان ما يقارب 170 رأساً نووياً، ثلثها تكتيكي. وقد صرح المسؤولون الباكستانيون أن وضع البلاد النووي يهدف إلى ردع الغزو الهندي أو إيقافه. في عام 2015، أوضح الرئيس السابق لإدارة التخطيط الاستراتيجي الباكستاني، الجنرال خالد كيدواي، أنه “من خلال إدخال مجموعة متنوعة من الأسلحة النووية التكتيكية في مخزون باكستان…  قطعنا الطريق أمام العمليات العسكرية الكبيرة التي قد ينفذها الخصم”. وفي مايو (أيار) 2023، أكد مجدداً أن الغرض من ترسانة باكستان المتنوعة هو منحها “درعاً استراتيجية” لتقويض تفوق الهند من الناحية العسكرية التقليدية. ومن أجل تحقيق هذه الغاية، ركزت باكستان على تعزيز قدرتها على تجميع الأسلحة النووية وتعبئتها ونشرها بسرعة عند بداية أي نزاع. بطبيعة الحال، لا تستطيع باكستان أن تأمل في الفوز بحرب نووية ضد الهند، التي تمتلك عدداً مماثلاً من الرؤوس الحربية النووية وأنظمة إطلاق متطورة قادرة على الرد، بيد أن باكستان تستطيع إلحاق أذى هائل بجارتها، وإرغام الهند على وقف شن حملة عسكرية تقليدية.

تبنت كوريا الشمالية استراتيجية مماثلة. في الواقع، تتفوق القوات المشتركة لكوريا الجنوبية والولايات المتحدة على نحو كبير على جيش بيونغ يانغ التقليدي. صحيح أن جيش كوريا الشمالية ضخم، بيد أن معداته العسكرية بالية، ونادراً ما تشارك قواته في أنشطة تدريبية تتجاوز التدريبات البسيطة التي تتلقاها الوحدات العسكرية الصغيرة. ومع افتقارها إلى الموارد اللازمة للتنافس عسكرياً، تعتمد بيونغ يانغ على نحو كبير على أسلحتها النووية. وكما أوضح الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون في عام 2022، على رغم أن المهمة الأساسية للترسانة النووية في بلاده هي ردع أي هجوم، فإنه سيستخدم الأسلحة النووية لصد أي هجوم إذا فشل الردع. وقال كيم: “إذا حاولت أية قوات انتهاك المصالح الأساسية لدولتنا، فسيتعين على قواتنا النووية أن تنجز على نحو حاسم [هذه] المهمة الثانية غير المتوقعة”.

يتعين على المخططين العسكريين في الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، مثل نظرائهم في الهند، أن يتعاملوا الآن مع المشكلة نفسها التي واجهها السوفيات ذات يوم: كيف يمكن الاستفادة من المزايا العسكرية التقليدية ضد عدو قد يكون على استعداد لاستخدام الأسلحة النووية. في الواقع، تمتلك الولايات المتحدة ما يكفي من الأسلحة النووية للرد على التصعيد النووي الكوري الشمالي، وهي حقيقة يدركها القادة في بيونغ يانغ بلا شك، ولكن إذا اندلعت حرب في شبه الجزيرة الكورية، فستسيطر حالة من اليأس على كوريا الشمالية، إذ يخشى قادة البلاد من الاستسلام لنفس مصير الحكام الذين خسروا الحروب التقليدية أخيراً، مثل صدام حسين في العراق ومعمر القذافي في ليبيا، اللذين قتلا بعد إطاحتهم. وفي ظل تعرض نظامهم وحياتهم للخطر، سيواجه قادة بيونغ يانغ ضغوطاً هائلة لبدء مواجهة نووية متبادلة محفوفة بالأخطار تكون أهدافها في البداية ضمن المنطقة، ثم تنتقل ربما إلى الولايات المتحدة، من أجل إجبار خصومهم في سيول وواشنطن على قبول وقف إطلاق النار.

خلافاً لباكستان وكوريا الشمالية، رفضت الصين استخدام التهديدات النووية للتعويض عن تفوق الولايات المتحدة عليها من ناحية القوة العسكرية التقليدية. ويذكر أن إحجام الصين عن الاعتماد على التهديدات النووية هو أمر ملحوظ على نحو خاص نظراً إلى الأخطار الكبيرة التي قد تنطوي عليها حرب كبرى حول تايوان. وقد تؤدي الهزيمة في مثل هذا الصراع إلى استقلال الجزيرة رسمياً، مما يمثل ضربة قوية لمفهوم الصين عن سيادتها. ولعل الأمر الأكثر أهمية هو أن خسارة تايوان من شأنها أن تهين الحزب الشيوعي الصيني ومن الممكن أن تؤدي إلى رد فعل قومية عنيفة أو انقلاب داخلي، لكن الصين ركزت على تحسين جيشها التقليدي بدلاً من تجهيز ترسانتها النووية لممارسة الضغط والإكراه خلال الحروب. وفي الواقع، تؤكد بكين أنها لن تكون على الإطلاق أول طرف يلجأ إلى الأسلحة النووية في أي صراع.

لكي نكون واضحين، فإن العقيدة النووية الصينية ليست بسيطة كما تبدو. فوفقاً للوثائق العسكرية الصينية، من الممكن أن تنظر بكين في تقديم استثناءات لسياسة عدم الاستخدام الأول إذا واجهت الصين هزيمة عسكرية كبيرة في حرب تقليدية عالية الأخطار. وقد فكر الاستراتيجيون الصينيون في كيفية استخدام الأسلحة النووية ذات القوة المنخفضة كوسيلة إكراه. إضافة إلى ذلك، بدأت الصين في عام 2019 تقريباً في تحديث قواتها النووية بطرق تدعم الاستراتيجية القائمة على الإكراه، فزادت حجم ترسانتها ومدى جاهزية وتنوع هذه الترسانة من أجل زيادة احتمال نجاتها، وهذا من شأنه أن يسمح لبكين ببدء التصعيد في زمن الحرب من دون خوف من أن ترد الولايات المتحدة من خلال تدمير قوة الصين النووية. وأخيراً، يستطيع قادة الصين أن يغيروا موقفهم الرسمي أثناء الحرب وأن يستخدموا الأسلحة النووية إذا سار الصراع ضد الولايات المتحدة على نحو سيئ، ولكن في الوقت الراهن، تواصل الصين الإعراب في تصريحاتها عن التزامها بألا تكون أول من يستخدم الأسلحة النووية في أي صراع وبأنها ستعالج نقاط ضعفها العسكرية من خلال تعزيز قوتها العسكرية التقليدية.

وبعيداً من سياسة عدم الاستخدام الأول التي تنتهجها الصين حالياً، فإن تجاهل هذا النمط أمر بالغ الخطورة، إذ إن الدول المسلحة نووياً التي تخشى هزيمة عسكرية كارثية تتبنى في كثير من الأحيان استراتيجيات تصعيدية لردع أعدائها. بالنسبة إلى حلف شمال الأطلسي خلال الحرب الباردة، أو باكستان أو كوريا الشمالية اليوم، وربما حتى الصين في المستقبل، فإن التصعيد النووي في ساحة المعركة أمر منطقي إذا كان البديل الوحيد هو هزيمة تهدد بقاء النظام. والإكراه النووي هو عبارة عن منافسة تتمحور حول الألم، سواء من ناحية تحمل الألم أو التسبب فيه [منافسة بين الجانبين لمعرفة من يمكنه تحمل المعاناة الناجمة عن الأذى النووي على نحو أفضل ومن يمكنه إلحاق مزيد من الألم بالآخر]، وهو نوع من الصراع غالباً ما يكون الجانب اليائس فيه هو صاحب اليد العليا.

المراهنة بكل ما تملك

روسيا بلد آخر يتبنى استراتيجية الإكراه النووي. عندما انتهت الحرب الباردة، تحرر الحلفاء الغربيون فجأة من الخوف من هزيمة عسكرية كبرى في أوروبا، وأصبحوا من ثم أقل حماسة وميلاً لفكرة استخدام القوة النووية. أما روسيا، المدركة تماماً لضعفها العسكري التقليدي الذي اكتشفته حديثاً، فقد تبنت نهجاً مختلفاً، فعدلت أفكار حلف شمال الأطلسي القديمة في شأن التصعيد النووي بما يتناسب مع الظروف الجديدة في روسيا.

قد يختلف المحللون حول تفاصيل العقيدة النووية الروسية الحالية، لكن الغالبية تتفق على أنها تدعو إلى التصعيد من أجل ردع أو وقف التهديدات العسكرية الأكثر خطورة للأمن الروسي. ومثل غيرها من الدول الضعيفة من ناحية القوة العسكرية التقليدية والمسلحة نووياً، دمجت روسيا عدداً من الأسلحة النووية التكتيكية في خططها وتدريباتها للحرب القتالية التقليدية بما في ذلك القنابل الجوية، وصواريخ كروز، والصواريخ الباليستية القصيرة المدى. إذا مالت كفة الميزان على نحو كبير لصالح كييف في حرب أوكرانيا، وقرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن الهزيمة في أوكرانيا تهدد نظامه، فإن روسيا تمتلك على ما يبدو القدرة، وربما الرغبة في بدء حرب إكراه نووي.

لطالما صور بوتين الحرب في أوكرانيا على أنها مصلحة أمنية وطنية أساسية، بناءً على المطالبات الإقليمية التاريخية والتهديد المحتمل الذي تشكله عضوية أوكرانيا في “الناتو”. وقد وصف الحرب علناً بأنها قد تكون وجودية. ولعل الأمر الأكثر أهمية هو أن الهزيمة الكاملة في أوكرانيا ستكون مهينة وخطرة على نحو خاص للزعيم الذي بنى سلطته معتمداً على سمعته وما عرف عنه من قوة وفطنة واستعادة العظمة الروسية. لذا، فإن منع وقوع كارثة عسكرية سيكون ذا أهمية قصوى بالنسبة إلى بوتين، وسيكون التصعيد النووي إحدى أوراقه القليلة المتبقية. في الحقيقة، لا يوجد جيش معاد مستعد لغزو روسيا، ولكن إذا كان بوتين يعتقد أن الهزيمة الكاملة في أوكرانيا ستؤدي إلى إطاحته، أو قتله أو اعتقاله، فمن المرجح أن يرى الأخطار مرتفعة بما يكفي لاستخدام الأسلحة النووية.

لقد أوضح القادة الروس الروابط بين الحرب في أوكرانيا والتصعيد النووي. قال أحد كبار مسؤولي الدفاع الروسي والرئيس السابق، ديمتري ميدفيديف، في يوليو (تموز) 2023، إن روسيا “سيتعين عليها استخدام الأسلحة النووية” إذا نجح الهجوم الأوكراني المضاد في استعادة الأراضي الخاضعة للسيطرة الروسية. وتابع “ببساطة لن يكون هناك أي حل آخر”. في المقابل، زعم بوتين في فبراير (شباط) 2023 أن الدول الغربية “تعتزم تحويل صراع محلي إلى مرحلة من المواجهة العالمية”، مضيفاً أن روسيا “سترد وفقاً لذلك، لأننا في هذه الحالة نتحدث عن وجود أمتنا”. وفي سبتمبر (أيلول) 2022، قال إن روسيا ستستخدم “كل الوسائل المتاحة لها” من أجل الدفاع عن الأراضي التي ضمتها إليها في أوكرانيا.

ربما تكون هذه التهديدات النووية مجرد خدع تهدف إلى إقناع الغرب بإنهاء دعمه لأوكرانيا. في الواقع، يشكك بعض المراقبين الغربيين في صدقية التصعيد، مشيرين إلى أنه إذا بدأ الوضع العسكري الروسي ينهار في أوكرانيا، فإن التصعيد النووي لن يحل مشكلة موسكو. ويذكر أن القوات العسكرية الأوكرانية منتشرة على مساحة واسعة، لذا فحتى لو نفذت روسيا عدداً صغيراً من الضربات النووية التكتيكية، لن يلحق ذلك سوى أضرار محدودة بالقوات الأوكرانية. علاوة على ذلك، فإن التصعيد الروسي لن يؤدي إلا إلى تفاقم مشكلات الكرملين، لأن حلف شمال الأطلسي قد يرد بهجمات تقليدية ضد القوات الروسية في أوكرانيا. باختصار، يرى المتشككون أن التهديدات النووية الروسية عقيمة.

أولئك الذين يقللون من أهمية الخيارات النووية الروسية يسيئون فهم منطق الإكراه النووي. لن يكون هدف روسيا هو تصحيح الخلل في التوازن العسكري التقليدي، بل أن تظهر بطريقة صادمة أن الحرب بدأت تخرج عن نطاق السيطرة، ويجب أن تنتهي على الفور. ستكون الغاية هي إثارة احتمال نشوب حرب نووية أوسع نطاقاً وإقناع الناس وقادتهم في الغرب أنه بالنظر إلى ما هو على المحك بالنسبة إلى القادة الروس، فإن موسكو ستواصل إلحاق مزيد من الأذى لكي تتجنب الهزيمة.

إذا أدى التصعيد الروسي إلى هجوم تقليدي واسع النطاق من جانب حلف “الناتو” على القوات الروسية في أوكرانيا، كما يتوقع كثير من المحللين، فقد تستخدم موسكو الأسلحة النووية مرة أخرى، مثلما كان “الناتو” ليفعل في مواجهة الغزو السوفياتي. لو قام الاتحاد السوفياتي بغزو دولة من الدول الأعضاء في الناتو، لمالت كفة ميزان العزم لصالح “الناتو” [كانت دول الناتو لتفوق خصمها عزماً]، لأن الحلفاء كانوا سيقاتلون من أجل حماية حريتهم وأراضيهم. والآن، إذا كانت الهزيمة في أوكرانيا تهدد نظام بوتين، سيكون الكرملين هو الجانب الذي تلحق به أكبر الخسائر. إن مبررات التصعيد وحشية، وهي تشبه أسباب الابتزاز أو التعذيب، لكن القادة الذين يهتمون بمصلحتهم الذاتية ويواجهون هزيمة قد تكلفهم حياتهم قد لا يكون لديهم خيار آخر.

من المؤكد أن التصعيد النووي الروسي لا يمثل سوى واحد من المسارات المحتملة المختلفة. قد يستمر الجمود الحالي في ساحة المعركة إلى أن يقبل الطرفان على مضض بوقف إطلاق النار. وربما تستعيد القوات الروسية زمام المبادرة وتستولي على مساحات أكبر من الأراضي الأوكرانية. أو ربما يعمل معارضو بوتين في الداخل على إزاحته من السلطة، وفتح الباب أمام تسوية أفضل لأوكرانيا. ومن الممكن حتى إنه إذا ما وجه قادة روسيا أوامر باللجوء إلى التصعيد النووي، قد يرفض القادة العسكريون تنفيذها، ويطلقون عوضاً عن ذلك انقلاباً لإنهاء نظام بوتين. صحيح أن مستقبل الصراع غير مؤكد، بيد أن منطق العصر النووي وتاريخه واضحان: عندما يقوم جيش متفوق من ناحية القوة العسكرية التقليدية بزج عدوه المسلح نووياً في موقف حرج، فإنه يخاطر باندلاع حرب نووية.

انقلب السحر على الساحر

يشير محللو السياسة المتشددون في مواقفهم وآرائهم إلى أن الولايات المتحدة يمكنها الحد من تهديدات خصومها النووية من خلال امتلاك واشنطن قوة عسكرية كبيرة، وعقلية حازمة، وردعاً نووياً قوياً، لكن هذه الصفات لن تردع عدواً محاصراً في مأزق لا خلاص منه. إذاً، ستكون الولايات المتحدة في خطر جسيم إذا استخفت بإرادة خصومها اليائسين المسلحين نووياً.

والخبر السار هو أن إدارة بايدن تبدو وكأنها تدرك خطر التصعيد في حرب أوكرانيا. وقد استبدلت التصريحات المبكرة للرئيس الأميركي جو بايدن التي تشير إلى أن بوتين “لا يستطيع البقاء في السلطة” بخطاب أكثر اعتدالاً، وبطريقة موازية حد قادة الولايات المتحدة من أنواع الأسلحة التي يقدمونها لأوكرانيا، وذلك في سبيل السيطرة في المقام الأول على أخطار التصعيد. وعلى نحو مماثل، شجع المخططون الأميركيون حلفاءهم في كوريا الجنوبية على التفكير في أهداف حرب لا تنطوي على تحقيق نصر كامل، من أجل تجنب دفع نظام كيم إلى حافة حرب نووية. فإذا شنت كوريا الشمالية على سبيل المثال هجوماً مدفعياً كبيراً على كوريا الجنوبية، قد يكون الرد الأكثر حكمة هو تدمير مواقع المدفعية أو الاستيلاء عليها من دون مواصلة الحملة شمالاً نحو بيونغ يانغ.

لكن من المستحيل أن نعرف على وجه اليقين كيف سيكون رد فعل العدو في الحرب، بخاصة أن القادة لديهم حوافز تدفعهم إلى إخفاء خطوطهم الحمراء وحدودهم الفعلية. يشكل قتال الخصوم المسلحين نووياً لعبة خطرة من ألعاب حافة الهاوية. وهناك خطوات عسكرية يمكن للولايات المتحدة أن تتخذها من أجل التقليل من هذه الأخطار. بالنسبة إلى الصراعات المحتملة في شبه الجزيرة الكورية وعبر مضيق تايوان، يجب على الجيش الأميركي تطوير استراتيجيات لشن صراع تقليدي، مصممة للحد من أخطار التصعيد. على سبيل المثال، يجب على الجيش الأميركي أن يخفف الهجمات التي تقوض الوعي الظرفي لدى قيادات العدو [أي قدرتهم على فهم الوضع السائد] وتضعف سيطرتها وقبضتها على السلطة، على غرار الضربات التي تستهدف شبكات القيادة والتحكم الوطنية، والقوات النووية، وقيادات العدو بحد ذاتها. وبطبيعة الحال، فإن الأعداء الذين يعتمدون على الأسلحة النووية من أجل عرقلة القوة العسكرية الأميركية سيتكيفون أيضاً، ومن المرجح أن يدمجوا بين المجالين التقليدي والنووي في سبيل منع الولايات المتحدة من شن حرب تقليدية على نحو آمن وفعال، لكن الولايات المتحدة يمكنها أن تضع خططاً لتصعيد الصراع بوسائل تقليدية من دون تهديد استمرارية النظام المعادي، من ثم تقليل خطر لجوء زعيم يائس إلى استخدام سلاح نووي.

يجب على واشنطن أن تأخذ على محمل الجد الخطر المتزايد للإكراه النووي. بعد الحرب الباردة، وضعت الولايات المتحدة أهدافاً أكثر طموحاً في سياستها الخارجية. لقد نشرت القيم السياسية الغربية والأسواق الحرة وأقامت علاقات وتحالفات عسكرية حول العالم، لكن أهدافاً من هذا النوع تواجه معارضة من الخصوم المسلحين نووياً في الصين، وكوريا الشمالية، وروسيا، وربما قريباً في إيران. وسيكون من الحكمة ألا يستخف صناع القرار الأميركيون بالقوة المحتملة التي يتمتع بها أعداؤهم. وإذا كانوا في حاجة إلى تذكير بما يستطيع خصومهم فعله، فما عليهم إلا النظر إلى التجارب والأحداث التاريخية التي واجهتها بلادهم.

كير أ. ليبر أستاذ في كلية الخدمة الخارجية وقسم الشؤون الحكومية بجامعة جورجتاون.

داريل ج. بريس هو مدير مبادرة الأمن العالمي في مركز ديكي للتفاهم الدولي وأستاذ في شؤون الحكم والدراسات الحكومية في كلية دارتموث.

مترجم عن فورين أفيرز نوفمبر/ديسمبر 2023

المصدر: اندبندنت عربية

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. قراءة وتحليل مع الاحتمالات للخطر النووي القادم الذي يمكن أن تستجر الولايات المتحدة إليه من خلال صراعات إقليمية مثل شبه الجزيرة الكورية ومضيق تايوان وأوروبا الشرقية والخليج العربي، لأنه على واشنطن الأخذ بجدية الخطر المتزايد للإكراه النووي بعد الحرب الباردة ، وفق الأهداف أكثر طموحاً في سياستها الخارجية .

زر الذهاب إلى الأعلى