في الثالث والعشرين من كانون الثاني/ يناير 1993، توفي باسل الأسد الابن الأكبر لحافظ الأسد، بحادث سيارة على طريق مطار دمشق الدولي. وإثر هذا الحادث والموت المفاجئ، دخلت الدولة كلها في حداد عام: عطلت المدارس وأُجّلت الامتحانات الجامعية واندفع الناس في دمشق والساحل إلى الطرقات التي يمرّ منها موكب الجنازة في جو بارد، وسارت المواكب من المحافظات إلى القرداحة “لمشاركة القائد في أحزانه”.
في أثناء الجنازة والدفن، سيظهر للمرة الأولى بجانب حافظ الأسد ابنه بشار، وسيركز عليه مصورو التلفزيون السوري والصحف الحكومية، في إشارة واضحة إلى أنه سيحلّ مكان أخيه المتوفى الذي كان يُعدّ ليكون خليفة لأبيه الذي كان يعاني المرض آنذاك.
سيتكرر هذا المشهد في حزيران/ يونيو 2000، مع وفاة حافظ الأسد نفسه، وسيترافق مع شعور بالخوف من المجهول القادم، وهو خوفٌ عاينه كاتب هذه السطور بنفسه، حين رأى كيف حاول مدير المدينة الجامعية بحلب تهدئة عدد كبير من الطالبات القادمات من الساحل السوري، كنّ يطالبن بتوفير حافلات تنقلهن إلى مناطقهن خوفًا من القتل أو التعرض للاعتداء، قبل أن يرى الكاتب نفسه بعد أيام بعض أولئك الطالبات يشاركن في مسيرةٍ يرفعن فيها شعار: “حلّك يا الله حلّك … حافظ يقعد محلك”، وذلك بعد أن تأكد لديهن أن التوريث قد نجح، وأنه لا خطر ولا خوف ممّا توهمن.
تشرح هاتان الحادثتان جانبًا لم يحظ بالعناية اللازمة التي يستحقها من قبل المتخصصين في الشأن السوري، والمقصود مسألة “عبادة الشخصية”، فقد غابت هذه القضية عن الدراسات التي تناولت الحالة السورية، سواء قبل اندلاع الثورة عام 2011 أم بعدها، إذ ركزت تلك القراءات على طبيعة النظام الأمنية وجذوره الطائفية والريفية، من دون أن تتناول واحدةً من أهم خصائص النظام السوري التي يمتاز بها عن بقية الأنظمة العربية التي تماثله في طبيعة العنف، وهي عبادة الشخصية.
تشرح جين. إف. جاردنر عبادة الشخصية، بالقول: “إنها ظاهرة معقّدة، ففي كثير من المجتمعات، وفي مختلف الحقب التاريخية، وفي ظل أنظمة دستورية مختلفة، تجري عملية صناعة شخص تضاف إليه كل علامات الاحترام والتبجيل، بحيث يصبح موضوعَ السلطة، فالسلطة وحدها غير كافية، لأن العقل البشري يطلب تشخيص السلطة ليقدّم لها الاحترام والتبجيل، ويفضّل أن يُعلي من مقام الحاكم. والترابط بين الدافع الديني وعبادة الشخصية واضح، وهو يعود إلى أزمنة ادعاء الألوهية أو على الأقل الرعاية الإلهية للحاكم” [1].
هذا الجذر الديني لعبادة الشخصية نراه ماثلًا في كثير من المجتمعات، كالفراعنة في مصر القديمة، وعبادة الإمبراطور في اليابان، غير أن علاقة التلازم التي تؤكدها الكاتبة بين عبادة الشخصية والرعاية الإلهية للحاكم لا تنفي وجود هذه الظاهرة في مجتمعات غير متدينة، أو في مجتمعات لا يشكّل الدين عنصرًا مؤثرًا في رؤيتها للكون والإنسان، وإن كانت الحالة السورية -بحكم طبيعة النظام- تبيح للدارس أن ينظر إليها من زاوية ادعاء الرعاية الإلهية للبشر أو تجاوز البعد البشري، ذلك أن طبيعة المذهب العلوي لا تحظر على الفرد الخارق أن يتجاوز طبيعته البشرية، وصولًا إلى مدارج أعلى في سلّم الصعود إلى الألوهية.
لا تقتصر عبادة الشخصية، إذن، على مجتمع معين، ولكنها في الحالة السورية ظاهرة واسعة النطاق على نحو لا يمكن مقارنتها إلا بعبادة الشخصية لدى نظام كوريا الشمالية، فمن مواطن الفرادة في الحالة السورية أن عبادة الشخصية تختلف عن الظواهر الهتلرية والستالينية والماوية.. إلخ، فهي تتعدى الفرد نفسه لتشمل العائلة الحاكمة كلّها التي تحوز تقريبًا القداسة نفسها التي للقائد الخالد أو للرئيس الشاب.
يمكن العثور على سبب تضخم عبادة الشخصية في سورية لتشمل العائلة كلها في المدة الطويلة لبقاء عائلة الأسد في الحكم، والتي جعلت عبادة القيادة أمرًا ممكنًا، وأسهمت في إعطاء شرعية سياسية للدولة في نظر مؤيديها، وسوغت لا التوريث فقط، بل أيضًا استعمال كل الأسلحة التي تهدف إلى إبادة الطرف المتمرد على “الحاكم/ الإله”، حتى السلاح الكيمياوي. يكتب ديفيد إستون شارحًا هذه العلاقة بالقول: “إن النظر إلى السلطة على أنها صاحبة حقّ يعتمد لا على مدى ملاءمتها وانسجامها مع النظام القائم، ولكن يعتمد على المدى الذي يرى فيه عامة الناس الأشخاص الموجودين في السلطة في سلوكياتهم ورمزيتهم مستحقين للمكانة على نحو شخصي” [2].
وهذا تحديدًا ما استطاع النظام القيام به عبر العقود الماضية، إذ تحوّلت العائلة الحاكمة في نظر المؤيدين إلى طبقةٍ فوق مستوى السوريين، طبقة بعيدة بمسافات من كل السوريين حتى المؤيدين، وأصبحت شرعية الدولة مطابقة كليًّا لشرعية العائلة الحاكمة. غير أن هذا الواقع تغيّر في السنوات الماضية، فقد انتهى تأليه العائلة تقريبًا، ولم يعد لها ذلك الاحترام ولا القداسة التي كانت تحوزها من قبل.
وزارة الإعلام وصناعة عبادة الشخصية:
تعود جذور عبادة الشخصية كما يشاع إلى زيارة قام بها حافظ الأسد إلى كوريا الشمالية، في سبعينيات القرن الماضي، وقد قيل إن معاملته لزملائه ولأركان النظام والعاملين في أجهزته قد اختلفت بعد أن عاد من تلك الزيارة. وبغض النظر عن صحة هذه الحادثة من عدمها، فلا بد من توفر ظروف ساعدت في تحول شخصية حافظ الأسد من رئيس إلى ما يُشبه الإله، وكرّست هذا التحول في الفضاء العام.
ليس من قبيل المبالغة القول إن أحمد إسكندر أحمد، وزير الإعلام بين أيلول 1974 وكانون الأول 1983، لعب دورًا مركزيًا في التأسيس لعبادة الشخصية، وأنه حولها إلى سياسة رسمية للنظام، فلم تجر تغييرات كبيرة على السياسة التي اتبعها منذ ذلك الحين، من دون أن يلغي ذلك الدور التأسيسي إسهام المنظمات والوزارات الأخرى، كوزارة الثقافة واتحاد الكتاب العرب ووزارة التربية.. إلخ، في صناعة عبادة الشخصية والترويج لها. فمنذ عام 1974، بدأ الرجل في تحويل وزارة الإعلام إلى جهازٍ مهمّته الأساسية العمل على جعل المجتمع السوري يتقبل التحول في شخصية الرئيس، من الرجل الأول في الدولة، إلى شخص متعال على البشر العاديين، تلصق به كل أنواع البطولة، باختصار: جرت عملية منظمة لأسطرة حافظ الأسد[3]. ولما كانت كل أشكال الإنتاج الثقافي والإعلامي في سورية تخضع لإشراف الدولة، فقد عممت هذه السياسة على المؤسسات والوزارات والهيئات الأخرى التي يناط بها الإنتاج الثقافي والإعلامي، وتحوّلت إلى مؤسسات تكرّس عبادة شخصية حافظ الأسد. لقد صيغت سياسة عبادة الشخصية في البداية لتطبق على وسائل الإعلام، ولكنها سرعان ما انتقلت إلى كل الإنتاج الثقافي والفكري والمنهاج الدراسي، فقد بدأت الصحف السورية بوضع أقوال لحافظ الأسد على صدر صفحاتها الأولى، ثم انتقلت إلى منشورات اتحاد الكتاب العرب ووزارة الثقافة ووزارة التربية، فكثرت الاستشهادات بأقوال حافظ الأسد، وتحوّلت أقواله إلى نصوص ينبغي على الطلبة أن يحفظوها ليستشهدوا بها في موضوعات التعبير الأدبي، بل وصل الأمر إلى ترجمة جزء من هذه الأقوال إلى اللغة الإنجليزية وتقريرها في امتحان الشهادة الثانوية العامة في بداية التسعينيات، إضافة طبعًا إلى أقوال الرئيس وخطبه المقررة في مادة التربية القومية، سواء في المرحلتين الإعدادية والثانوية أو المرحلة الجامعية. أما الكتب التي تحدثت عن حافظ الأسد، فأصبحت مادة لكل طامح إلى الثراء، إذ كانت الأجهزة الأمنية تفرض على الأعيان، في الأرياف السورية خاصة، شراء هذه الكتب التي تمجّد الأسد، مثلما كانت تفرض ذلك على المؤسسات والشركات أيضًا[4].
مسار التشكل:
شاعت في السنوات الماضية، بسبب البنية الطائفية للنظام، ومستوى العنف غير المسبوق الذي مارسه، والذي يرقى إلى جرائم حرب وابادة، شاعت نظرية المؤامرة التي تقول: إن وصول حافظ الأسد إلى السلطة هو ثمرة لمؤامرة قادتها الطائفة العلوية، ردًا على التهميش الذي كانت تعانيه طوال أزمنة متتالية، وخصوصًا مع نظرة الازدراء التي كانت المدن السنية والبرجوازية السنية تنظر بها إلى الطائفة العلوية التي همشت لريفيتها ولاختلافها المذهبي.
كان رواج هذه النظرية ثمرة للإخفاقات التي مرت بها الثورة السورية والقنوط الذي أصاب جمهور الثورة الذي عاين كيف تراجعت الولايات المتحدة عن توجيه ضربة عسكرية للنظام، بعد استعمال الأسلحة الكيمياوية في ريف دمشق عام 2013، وفي أمكنة أخرى أيضًا، وكذلك السماح لحزب الله بالدخول إلى سورية لمساندة النظام في حربه ضد السوريين، وتسهيل دخول الميليشيات الإيرانية الطائفية إلى سورية، أو غض النظر عنه، ومنع السلاح النوعي عن الثوار السوريين، وكل هذا عزز القول بوجود مؤامرة طرفها الأول النظام ذو البنية الطائفية العلوية، وطرفها الثاني القوى الغربية.
يقتضي الإنصاف القول: إن حافظ الأسد كان منخرطًا في التيار القومي الذي كان هو السمة العامة التي تطبع الحياة السياسية والفكرية في سورية، مثله في ذلك مثل أي ضابط سوري في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وكان أيضًا من جملة الضباط ذوي المنشأ الريفي الذين وجدوا في الجيش فرصة في الصعود في السلم الاجتماعي، فهو ينتمي إلى فئة من الضباط، وصف صعودهم على نحو دقيق حنا بطاطو في كتابه “فلاحو سوريا”[5]، ومن الطبيعي أن يؤثر المنبت الطائفي لحافظ الأسد في خياراته، ولكن البعد الطائفي لم يكن وحده هو العامل المؤثر في خيارات حافظ الأسد، فالبيئة السورية جزر منعزلة يؤلف بينها سياج القومية العربية لا الوطنية السورية، ولهذا تظهر في الجيش الانتماءات إلى المحافظات؛ فهناك الشاميون والحمويون والحلبيون والديريون والدرعاويون، وكل هذه الانتماءات تقوم على الولاءات للمدينة والمنطقة، وحين تشكلت اللجنة العسكرية، كانت تضم ثلاثة علويين وإسماعيليًا واحدًا، والبعد الطائفي لا يخفى في تشكيلها، غير أن من اللازم الإشارة إلى أنه لم يكن البعد الوحيد، فكلهم من منطقه الساحل، وهو ما يجعل التكتل مشابهًا للتكتلات الأخرى القائمة على المنطقة أو المؤسسة على المنطقة والمدينة، وربما كان للبعد الطائفي تأثير في تكوين اللجنة، ولكن من ناحية قدرة المنتمين إلى الطوائف الباطنية على التخفي والكتمان والعمل في الخفاء، وهو ما كانت اللجنة العسكرية تسعى له.
كان المشروع القومي هو المظلة التي تجمع سورية التي نشأت أصلًا ثمرة لهذا النضال ضد الوجود العثماني، ولم تنمُ فيها وطنية سورية، لأن البلد نفسه كان مشغولًا بتحقيق الوحدة العربية الكبرى القادمة، وما كان يحرك وعي النخبة هو الوعي القومي الذي لم يترك المجال لصعود وطنية سورية تشكل سياجًا يحول دون تصدّر الانقسام الطائفي الذي وصل حافظ الأسد محمولًا عليه إلى سدة الحكم. غير أنه في أعقاب انهيار المشروع القومي، وخصوصًا بعد هزيمة عام 1967، تقدمت الهوية المناطقية الضيقة التي عززها البعد الطائفي للمنطقة التي قدم منها كبار قادة النظام، وأسهم في بروز الولاءات الطائفية صعود حركة الإسلام السياسي، عبر ما سمي بالصحوة الإسلامية التي برزت عبر الثورة الإيرانية في عام 1979، ولهذا كان الارتكاز على الوعي الطائفي نتيجة منطقية لإخفاق المشروع القومي، بأحلامه الكبرى والفراغ في الهوية الوطنية، هكذا تقدمت الهوية الطائفية المناطقية التي احتلت الصدارة. ولم يكن لدى النظام أي مشروع لتعزيز الهوية الوطنية، فلجأ إلى تكريس عبادة الشخصية، بوصفها المشروع الوحيد لإيجاد رابطة بين السوريين. لقد جرت عملية نكوص، فبعد أن كانت سورية جزءًا من الأمة العربية التي يسعى حزب البعث لتوحيدها، تحولت إلى “سوريا الأسد”، فما يوحدها في هذا الخطاب هو الأسد نفسه بدلًا من الجغرافيا والتاريخ واللغة. باختصار: عادت سورية إلى عالم القرون الوسطى، حين كانت السلالة الحاكمة هي التي توحّد أركان الدولة. إن الشرط الأول والأهم لظهور عبادة الشخصية هو إنهاء السياسة في المجتمع والدولة، فيتحول القائد إلى شبه إله.
وقد برزت عبادة الشخصية منذ نهاية السبعينيات، مع تخلص النظام من أي معارضه له، إذ أنهى حافظ الأسد كل الأصوات التي يمكن أن تقف في وجهه أو تشكل خطرًا عليه، وعلى الأرجح، فإن قدرته على التخلص من الخصوم عززت لديه الشعور بأن ثمة قوة خارقة تقف إلى جانبه وتسانده، وهو ما انعكس على سلوك حافظ الأسد الذي ابتعد تدريجيًّا عن أصدقائه القدامى ورجال النظام، وأصبح لقاء الوزراء به مقتصرًا على أدائهم القسم الدستوري في بداية مهماتهم، وحتى هذه كان من الممكن التغاضي عنها، لولا أهمية الخبر التلفزيوني.
ويمكن ملاحظة مسار التحول من رئيس له صلاحيات واسعة في انتخابات عام 1978، إلى نصف إله في انتخابات عام 1985، لا من ناحية التغطية الإعلامية التي أسهم فيها التلفاز الذي دخل بيوت كثير من السوريين فحسب، وإنما أيضًا من ناحية الصور التي وزعت في كل المناطق السورية حتى في البلدات والقرى النائية، الأمر الذي يعطي الباحث فكره عن قوه الدعاية الإعلامية التي وُظّفت آنذاك لتكريس صورة الأسد بنسختها الجديدة.
الرموز وعبادة الشخصية:
ليس من باب المبالغة القول إن الرموز تحتل جزءًا أساسيًا من حياه الإنسان، ولا أدلّ على ذلك من الجدل الذي يصاحب قضايا الحجاب والأذان وبناء المساجد في الدول الأوروبية والقيود المفروضة على بناء أديرة العبادة لغير المسلمين في البلاد الإسلامية، إلى غير ذلك من النقاشات التي تتصل بالصراع على حضور الرموز والعلامات في المجال العام، وخصوصًا ما شاع في السنوات الماضية من الدعوات التي وجهها كثير من الناشطين في مجال حقوق الإنسان لإزالة تماثيل الأشخاص أو الأفراد ذوي الصلة بالعبودية أو بتجارة العبيد أو بالوقوف الى جانبها[6].
تتطلب عملية صناعة عبادة الشخصية أو بنائها إنشاء عدد هائل من الرموز، تشكل علامات تشير إلى أن الشخصية المعنية لها وضع خاص يختلف عن بقية المسؤولين داخل أجهزة النظام، وهذا ما فعله النظام مستعينًا بأجهزة الدولة المتعددة التي منحت الحق في إقامة التماثيل، وطباعة الصور وتوزيعها، وكتابة اليافطات التي تمجّد الرئيس وقيادته. وقد أنفقت الحكومة في سبيل ذلك موارد ضخمة، من أجل الدعايات اللازمة أو الضرورية لتكريس عبادة الشخصية، حتى إن أي إحصاء لهذه الرموز أو ما أنفق على الآلة الدعائية يبدو ضربًا من المستحيل. ولم يتوقف النظام على الإنفاق على عملية الصناعة هذه حتى في الأوقات التي عانى فيها أزمة مالية خانقة، في النصف الثاني من الثمانينيات، وذلك مع الحصار الاقتصادي الذي فُرض على سورية نتيجة لسلوك النظام في دعم بعض الهجمات الإرهابية على المصالح الغربية.
على هذا النحو، واجه السوريون تلك الرموز في حياتهم اليومية: في البيت والشارع وأمكنة العمل والمدارس والجامعات. لقد عاش الرئيس حافظ الأسد مع السوريين، كما كان يقول في خطبه النادرة، ولكن بطريقة أخرى، فقلّما خلا بيت من صورة له وإلا أثيرت الشكوك حول التوجهات السياسية لأصحابه، أو أثيرت الأقاويل حول مدى ولائهم للدولة، بما أن الرئيس نفسه قد ابتلع الدولة، أما الطلبة فيواجهونه في صوره التي تعلو سبورة كل صف، وفي دفاترهم التي تتربع على أغلفتها صورة “القائد” الذي سيغدو “خالدا”، بحيث يبدو من الصعب أو من المستحيل أن يتخيل الإنسان حياة السوريين من دون هذه الصور والتماثيل واليافطات.
وكان لهذه الصور والرموز وحضورها في المجالين العام والخاص تأثير كبير في الوعي الجمعي لدى السوريين الذين ظلت صور حافظ الأسد وتماثيله ماثلة في أذهانهم، حتى بعد مرور أكثر من عقدين على وفاته، وحتى الأجيال الجديدة التي لم تعش فترة حافظ الأسد، فإنه ظل إلى حد كبير حاضرًا في وعيها لا بتعبير “القائد الخالد” الذي يقال حين يذكر اسمه، وإنما عبر التماثيل والصور التي ما زالت موجودة. إن عبادة الشخصية جزء أساسي من الحياة اليومية، ويزداد حضورها في المناسبات “الوطنية والقومية” التي يطلب فيها من السوريين المشاركة في الاحتفالات والمسيرات.
هكذا تحولت سورية إلى “سوريا الأسد”، فالدولة لا تستمد شرعيتها من شرعية الفرد فحسب، بل تستمد اسمها منه أيضًا. لقد غابت التسمية الرسمية “الجمهورية العربية السورية”، وحلت بدلًا منها عبارة “سوريا الأسد” التي تُكتب على زجاج السيارات واليافطات والجدران.. إلخ. لقد كانت رموز الرئيس وصوره هائلة العدد، وهي صور تتجاوز أي صور توعوية أو دعائية أخرى، كحملات التلقيح ضد الأمراض، والإعلانات عن مضار التدخين، والتنبيه على حوادث المرور.. إلخ. بمعنى أن الدعاية التي حظيت بها عملية صناعة عبادة الشخصية أزاحت تقريبًا كل القضايا الاجتماعية الملحّة إلى الهامش، وإضافة إلى الحجم المهول الذي كان للآلة الدعائية المتصلة بعبادة الشخصية، مقارنة بالحملات الدعائية التي تتصل بالهموم والقضايا الاجتماعية، فإنها أيضًا تجاوزت كل القضايا السياسية الأخرى، ولا سيما قضية الصراع مع العدو الإسرائيلي. لقد ارتقت صور القائد ورموزه، فأزاحت كل الرموز السيادية الأخرى كالعَلم والشعار إلى مراتب ثانوية مقارنة بها، فامتزجت الدولة وأجهزتها ومؤسساتها بشخص الرئيس القائد، فأصبح من الصعوبة بمكان فصل القائد عنها، لأن ذلك يحولها إلى دولة مختلفة كليًّا عما هي عليه.
تشمل الرموز الخاصة بالرئيس في سورية التماثيل والصور والرسوم والكلمات والأقوال والاصطلاحات الخاصة به، كالقائد الخالد والأب القائد والقائد المفدى وقائد المسيرة… إلخ. بهذه الطريقة، تحول حافظ الأسد إلى شخص مؤسطر لا ينتمي إلى الجماعة البشرية العادية، وكان من نتائج هذا أو من استراتيجيات هذه الصناعة تكريس هيبة حافظ الأسد في النفوس، وكذلك توقيره واحترامه على نحو يقترب من توقير “المقدس”، وهي ظاهرة كانت واضحة في الوسط الطائفي الذي تنتمي إليه العائلة الحاكمة.
وإذا كانت الصورة المطبوعة هي التي دشنت بداية عبادة الشخصية، فإن التماثيل كانت مرحلة لاحقة على مرحلة الصورة، وهي تماثيل قلّما تخلو منها مدينة من المدن السورية، ولا بد من أن نذكر عددًا من التماثيل التي تختلف بناء على المكان الذي تقام فيه والرمزية التي ينبغي تمثيلها، كتمثال حافظ الأسد في الساحة الرئيسة في حلب، وتمثاله داخل الحرمين الجامعيين في دمشق وحمص، ومن المفارقة أن تمثال حافظ الأسد في حمص لا يبتعد عن تمثاله في المدينة الجامعية أكثر من مئتي متر. وشملت عملية بناء التماثيل في مرحلة لاحقة ابنه “باسل” الذي خصص له تمثال في أحد أهم الدوارات في حلب، ويظهر فيه ممتطيًا حصانًا يهمّ بالقفز[7]. بهذه التماثيل المغروسة في كل الساحات العامة، ترسخ حضوره في وعي الناس، حتى إنه يبدو صورة مصغرة عن الأخ الأكبر الذي رسمه جورج أورويل في روايته الشهيرة 1984.
تستلزم عبادة الشخصية تحوّل المعبود إلى كتلة صماء غير بشرية لا يسري عليها أي فعل من الأفعال التي يأتيها البشر في حياتهم اليومية، وقد حققت الصور والتماثيل هذا الهدف، غير أن عصر التلفزيون استدعى أن يظهر الرئيس متحركًا لا ساكنًا، وهذا ما يتنافى مع أبسط قواعد تحويل الفرد إلى أسطورة، واستنادًا إلى سياسة تكريس الهيبة وترسيخ التبجيل وزرع الخوف في النفوس، أصبح ظهور حافظ الأسد على شاشة التلفزيون حضورًا طقوسيًّا: يجلس على كرسيه واضعًا يديه على مسند كرسي، أو يقف في منصة الشرف في المطار مستقبلًا الرؤساء والملوك، ولعلنا نذكر مرور الجماهير أمامه، وهو على شرفة عالية يلوح بقبضته لهم. أما حضوره الإعلامي، فقد أصبح نادرًا منذ بداية الثمانينيات، فاقتصر على كلمات ولقاءات صحفية تفصل بينها فترات زمنية طويلة نسبيًا، وغالبًا ما كان يدلي بهذه الكلمات واللقاءات للصحف الأجنبية. وكان سبب هذا التوجّه الرغبة في الابتعاد عن الناس، بغية تثبيت المهابة، فالحضور الدائم في وسائل الإعلام عبر المقابلات واللقاءات والحوارات ينزل بشخصية الرئيس إلى مرتبة الإنسان العادي، أو الشخص المسؤول، وهذا ما كان النظام يجاهد لمنعه وتجنب الوقوع فيه، وقد انسحب هذا التصنيم على النظام وشخصياته على اعتبار أنهم يستمدون بعض ما للقائد من مهابة وقداسة بحكم اقترابهم منه، فقد كان التلفزيون السوري ينقل جلسات مجلس الوزراء بطريقة ثابتة، فيظهر الوزراء جالسين حول طاولة الاجتماع وكأنهم أصنام لا تتحرك. وظلت العبارة التي يرددها التلفزيون في نشرته الرسمية عن اجتماعات مجلس الوزراء كما هي طوال عقدين تقريبًا: “ناقش مجلس الوزراء القضايا المعروضة على جدول أعماله، واتخذ بشأنها الإجراءات المناسبة”.
الخلاصة:
على الرغم من الدور المهمّ للعناصر التي تنتمي إلى المجتمع الأهلي في صناعة عبادة الشخصية في سورية، فإن الصفحات السابقة آثرت النظر في العناصر التي تنتمي إلى الجهات الحكومية التي يمكن تلمس دورها والإشارة إليه على نحو لا يوقع الباحث في جدال الدخول في فرضيات لا يمكن التدليل على صحتها، على الرغم من تأثيرها في اللاوعي الاجتماعي للفئة الحاكمة.
إن هزيمة المشروع القومي كانت أحد الأسباب الرئيسة التي أدت إلى بروز الوعي الطائفي الذي كان الرافعة لظهور عبادة الشخصية في سورية، ولكن إغلاق المجال السياسي هو العامل الحاسم، فبإغلاق هذا المجال، تحوّل حافظ الأسد إلى ملهم وقائد يمتاز بصفات وميزات تبعده بمسافات عن بقية البشر.
ولتعزيز حضور عبادة الشخصية في المجال، لم يكن هناك بدٌّ من إيجاد رموز تجسّد هذه العبادة في نفوس الناس، والحقيقة أن النظام اعتمد الصور والتماثيل والكليشيهات البلاغية، لتكريس صنمية المعبود في نفوس المواطنين الذين تحوّلوا إلى طبقة أخرى لا يمكن أن يصلوا إلى مرتبة القائد الملهم، وهي تراتبية تذكرنا بتراتبية الطبقات في المجتمع الهندي، وهذه التراتبية الطبقية تبدو ركيزة أساسية في كل الأنظمة التي نمت فيها عبادة شخصية الحاكم.
[1] -Jane. F. Gardner, Leadership and the cult of personality, (London: Dent, 1974), P. XV.
[2] – David Easton, A system of analysis of political life (Chicago, University of Chicago press, 1965) pp. 302- 303.
[3] – يشكل كتاب: “اليوبيل الذهبي لثانوية جول جمال الرسمية 1924-1974” نقطة بداية لسردية تفوق حافظ الأسد ونبوغه وعبقريته، فهو من النصوص الأولى التي دشنت مرحلة تميز حافظ الأسد وتحوله من طالب عادي إلى طالب متميز لديه حس قومي وكاريزما قيادية منذ مرحلة مبكرة في حياته.
[4] – انظر على سبيل المثال: أنور سليم سلوم، وجورج عين الملك، حافظ الأسد: القيادة والطريق، دمشق، دار ابن هانئ، 1985م. هاني خليل، حافظ الأسد الإيديولوجية الثورية والفكر السياسي، دمشق، دار طلاس، 1987م. رياض سليمان عواد كان أكثر من تخصص في هذا المجال، فكتب أكثر من كتاب في تمجيد حافظ الأسد.
[5] – انظر على سبيل المثال: حنا بطاطو، فلاحو سوريا أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأنا وسياساتهم. ترجمة: عبد الله الفاضل ورائد النقشبندي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2014م، 281 وما بعدها.
[6] – https://www.bbc.com/news/world-us-canada-39978141
[7] – انظر على سبيل المثال: ليزا وادين، السيطرة الغامضة، ترجمة: نجيب الغضبان، منشورات رياض الريس، 2010م.
المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة
دراسة بحثية علمية دقيقة حول نظام طاغية الشام الأب وكيفية برمجة مؤسسات الدولة وخاصة الإعلام لعبادة شخصية الرئيس والتي تبلورت خاصة بعد زيارة كوريا الشمالية وإعجابه بتجربتها بعبادة شخصية الرئيس القائد ، وطريقة التوريث التي أيضاً نقلها من تجربة كيم ايل سونج الكورية أيضا .