تدق الولايات المتحدة طبول حرب جديدة من العقوبات التي تستهدف نظام بشار الأسد في سورية وشركائه في الحرب على السوريين، حيث يدخل “قانون قيصر” حيز التنفيذ، الأربعاء، حاملاً معه تداعيات اقتصادية أشد وطأة من ذي قبل، ربما تزيد الأوضاع تدهوراً وتؤجج الاضطرابات، التي بدأت بالفعل تتصاعد في مناطق خاضعة لسيطرة النظام، في ظل انهيار غير مسبوق لليرة وارتفاع كبير للأسعار.
تقول واشنطن إن العقوبات ستساعد في محاسبة الأسد وأنصاره على جرائم حرب في صراع سقط فيه مئات ألوف القتلى، أما دمشق فتقول إن العقوبات تصعيد للحرب الاقتصادية على مواطنيها، وهو ما دعا محللين إلى توقع أن يستثمر الأسد العقوبات الجديدة في مد أجل التأييد الذي يحظى به من قبل أنصاره.
وتخضع سورية بالفعل لعقوبات تفرضها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، جمدت أرصدة الدولة ومئات من الشركات والأفراد، كما تحظر واشنطن بالفعل على الأميركيين تصدير أي سلع إلى سورية أو الاستثمار فيها، وتحظر الصفقات التي تشمل منتجات النفط والغاز.
لكن العقوبات الجديدة تمنح الرئيس الأميركي دونالد ترامب سلطات أوسع لتجميد أرصدة أي فرد أو طرف يتعامل مع سورية بغض النظر عن جنسيته وتغطي عدداً أكبر بكثير من القطاعات، من البناء والطائرات إلى النفط والطاقة، كما تطاول الأثرياء السوريين في الخارج وتمنعهم من الاستثمار في سورية، ما يضيق الخناق كثيراً ولا يدع مجالاً للتهرب من العقوبات، التي تمتد إلى التضييق على الغذاء.
ويستهدف “قيصر” للمرة الأولى من يتعاملون مع كيانات روسية وإيرانية في سورية، وهو ما يوجه ضربة قاسية لحلفاء الأسد الذين كانوا ينتظرون تعويض نفقاتهم العسكرية والمالية في سورية بتنفيذ صفقات للإعمار والحصول على حصص في حقول النفط والغاز، كما تمتد أذرع العقوبات إلى شركاء أعمال آخرين في الإمارات والأردن كانوا يخططون للاستثمار في سورية.
فخسائر الاقتصاد السوري بلغت، حتى نهاية العام الماضي، نحو 530 مليار دولار، منها أكثر من 65 ملياراً جراء تضرر 40 في المائة من البنية التحتية، وفق دراسة للمركز السوري لبحوث السياسات (مستقل) مركزه بيروت.
في حين قدر رئيس النظام السوري بشار الأسد، في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، كلفة إعادة الإعمار بنحو 400 مليار دولار في فترة تمتد من 10 سنوات إلى 15 سنة، وهو رقم يساوي تقديرات الأمم المتحدة التي أفادت في أغسطس/ آب 2019، بأن كلفة إعادة الإعمار تبلغ 400 مليار دولار، في زيادة لتقدير سابق للمنظمة ذاتها بنحو 300 مليار دولار.
ويقول الخبير الاقتصادي السوري، عماد الدين المصبح، إن “قانون قيصر سيطوي صفحة إعادة الإعمار ويلغي هذه الرشوة التي كان الأسد يتطلع لتقديمها للعالم لتسويقه وإعادة إنتاجه”. ويضيف المصبح لـ”العربي الجديد”، إن العقوبات الأميركية ستلاحق أي دولة أو شركة أو شخصية تمد يدها للنظام، عبر استثمارات أو عقود لإعادة الإعمار من دون ضوء أخضر من الولايات المتحدة.
ويشير المصبح إلى أن خسائر الحرب زادت عن عشرة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي لعام 2010، ما يعني أن “الكعكة تغري الدول والمؤسسات المقرضة وتدفع الرساميل والشركات للتهافت إلى سورية، لكن قانون قيصر يجعل التعاون أو التعاقد مع النظام، وإن كان عبر وسطاء، في مرمى العقوبات، خاصة أن الاتحاد الأوروبي والمؤسسات المالية الدولية متفقة مع الرؤية الأميركية حول أنه لا إعادة إعمار من دون حل سياسي أو في وجود بشار الأسد”.
ويقول إن قانون “قيصر سيلاحق المشروعات والاستثمارات التي قدمها الأسد خلال فترة الحرب لشركائه وداعميه بموسكو وطهران.. إذا لم ينسفها القانون، فعلى الأقل سيوقفها ويمنع استمرار بيع واستنزاف ثروات السوريين، كما سيلاحق الشركات التي تأسست في لبنان بأشكال وأسماء وهمية ومزيفة، وحتى المساعي الإماراتية ومحاولات دول في أوروبا الشرقية، الذين رأيناهم جميعاً خلال الفترة الأخيرة يعززون العلاقات ويسعون لحصة من كعكة خراب سورية”.
وربما تعد روسيا أكثر تضرراً من إيران، باعتبارها لم تستطع بعد جني فوائد اقتصادية تذكر، ولم تتمكن حتى الآن من تهيئة الأرضية في سورية لتحقيق عوائد تغطي ما تكبدته من نفقات. فحسب عدد من الدراسات والتقارير، فإن معدل النفقات العسكرية الروسية في سورية يبلغ ما بين 3 و4 ملايين دولار يومياً، وهذا يعني 5 إلى 7 مليارات دولار منذ تدخلها أواخر عام 2015. ومن الجهات التي أجرت تلك الدراسات، مؤسسة البحوث الدولية “إي إتش أس” ومركزها لندن، وفي روسيا نفسها، مثل تقرير لحزب “يابلوكو” المعارض وصحيفة غازيتا، وفق تقرير نشرته وكالة الأناضول، يوم الاثنين الماضي.
كل ما حصلت عليه روسيا اقتصادياً من سورية يتمثل بعقود طويلة الأجل في مجالي النفط والغاز مع نظام يبدو متهالكاً ومهدداً بالسقوط في أي لحظة، بالإضافة إلى أن الجدوى الاقتصادية من تلك العقود تبقى غير مؤكدة، وخاصة أن معظم الحقول الغنية تقع في شرق البلاد تحت الحماية الأميركية.
فقد عقدت شركات روسية عدة اتفاقيات مع النظام للتنقيب واستخراج النفط والغاز من الحقول المتبقية في يد النظام، كذلك وقعت اتفاقيات لترميم وتطوير المنشآت النفطية، إضافة إلى عقود لتنفيذ مشاريع لتوليد الطاقة واستخراج الثروات المعدنية.
وفي عام 2019، وقعت وزارة النفط التابعة للنظام السوري عقداً مع شركتي “ميركوري” و”فيلادا” الروسيتين، كما حصلت شركة “ستروي ترانس” على أحقية التنقيب واستخراج الفوسفات من المنطقة الشرقية الواقعة في جنوب مدينة تدمر السورية، وعقد تأجير مرفأ طرطوس لشركة “أس تي جي إنجينيرينغ” لمدة 49 عاماً. كما وُقعت عقود في مجال الطاقة في مدينة حمص، في مارس/ آذار 2018، بين النظام وشركات روسية، وعقد آخر لإنشاء خط حديدي يصل مطار دمشق بمركز المدينة.
إلا أن جميع هذه العقود حتى لو ثبتت جدواها الاقتصادية، فهي غير قابلة للتطبيق في حال لم يتحقق الاستقرار الاقتصادي والسياسي والعسكري في سورية، والبدء في إعادة الإعمار. على عكس روسيا، تمكنت إيران من تحقيق مكاسب اقتصادية، حيث إن طبيعة الاستثمارات الإيرانية هي قصيرة ومتوسطة الأجل، وتعتمد على التصنيع والإنتاج، لكن عقوبات “قيصر” تضع هذه الاستثمارات في مرمى الاستهداف.
يقول أستاذ الاقتصاد في جامعة ماردين التركية مسلم طالاس، لـ”العربي الجديد”: “في ظل قانون قيصر سيتردد أي استثمار مئات المرات قبل الدخول للبلد أو البقاء فيه، لا سيما أنه يمكن أن يجرّم البنك المركزي ويحول المنظومة المالية والنقدية بالكامل في سورية إلى موقع الجريمة والاشتباه”.
المصدر: العربي الجديد