زهراء عبد الله روائية سورية – لبنانية متميزة وواعدة، قرأت لها سابقا روايتها على مائدة داعش وكتبت عنها.
من التراب إلى الماء رواية زهراء هذه تعتمد لغة المتكلم على لسان الشخصية المحورية فيها، كما تحوي تقنية كتابية مختلفة، حيث تتكلم البطلة سما عن حياتها المعاشة في مقاطع أشبه بفصول وقد لا تتعدى الصفحة احيانا ، بحيث يتداخل ما تعيشه سما مع ما يتداعى إلى ذهنها من سابق حياتها… وهكذا نجد أنفسنا كقراء نتابع القراءة لنعرف حكاية سما، كما نعايش ما تعيشه في حياتها السابقة والمباشرة. وهكذا وعبر مقاطعها المكتوبة تباعا تتبلور حكاية سما ، نتغلغل في حالتها المشاعرية سواء فيما عاشته أو فيما اخبرتنا عنه عبر روايتها .
نحن في هذه القراءة نعيد سبك حكاية سما في سياق زمني من حيث تتبع أحداثها. ولا بد من الاعتراف أننا أمام رواية يتبلور فيها موقف حياتي مغموس بوجع سما بكونها امرأة متزوجة مرتين ومطلقة، كما نتابع واقع الوجع السوري حيث تبدأ أحداث الرواية من مخيم الوطن للاجئين السوريين في لبنان الذي بني بعد سنوات على الثورة السورية التي حصلت في ربيع ٢٠١١م. وانتهاء رحلة سما وحبيبها باسل في بحر إيجة قبالة سواحل اليونان…
سما ابنة عائلة سورية تنتمي لقرية قريبة من الحدود اللبنانية السورية. كان عمرها ثلاث عشر عاما عندما حصل الحدث السوري، الثورة، الذي لم يصل منها إلى قريتهم إلا تبعياتها وبعد سنوات حيث سيطرت مجموعات إسلامية معارضة للنظام على البلدة، وكان جواب النظام على ذلك القصف والتدمير والقتل العشوائي بحيث لم يكن أمام أهل القرية إلا الهروب تجاه لبنان حيث بني مخيم الوطن برعاية دولية وتحت الوصاية اللبنانية.
في هذا المخيم تتواجد سما وعائلتها، والدها الذي كان يعمل في مهنة الخياطة في قريته، حمل ماكينة الخياطة على ظهره عندما هرب مع زوجته وأولاده من قريتهم، سما ابنته الكبيرة. تعاد في المخيم آلية الظلم والقهر الاجتماعي السابق في المجتمع السوري. السيطرة الذكورية الاب والاخ، الام عليها التبعية للزوج و الانصياع والامتثال لرأي كبير العائلة، بغض النظر عن صحة موقفه. كذلك تحول المخيم الى شبه دولة مستقلة تحت سيطرة الشاويش الذي يسيطر على الناس بدء من توزيع الخيام، ومرورا بتسجيل الأسماء لتقديمها لمفوضي اللاجئين للحصول على المعونة الشهرية، ووصولا لتمثيل الفصيل المسلح داخل المخيم. يستقبل الشهداء والجرحى، أنه ذو سلطة مطلقة يعيد تسيير كل امور المخيم مستثمرا لها وفق مصلحته الخاصة…
سما الطفلة التي وصلت سن البلوغ حديثا ، عمرها ثلاثة عشر سنة، تدخّل عمها الأكبر وزوجها دون أخذ رأيها لأحد المتبرعين للمخيم كان يكبرها سنا، احست انها اُغتصبت، لم تكن تدرك تجربة الجنس في حياتها الزوجية التي استمرت حوالي الشهرين. لتصبح مطلقة وتعود لخيمة اهلها بعد ان عاشت في بيت زوجها. وبعد مضي فترة عدتها جاءها من طلب الزواج منها سرا لكي لا تعلم زوجته، وتتزوج منه دون استشارتها مرة أخرى، ليسكنها في بيت خاص يحضر إليها في كل أسبوع لفترات قليلة كأنه يسرق متعته، يفرّغ بها وعليها عقده الجنسية والنفسية مصحوبا بالعنف أغلب الأحيان.
استمر الزواج الثاني لسما حوالي السنتين، تمردت أخيرا على ذلك الزوج وعادت مطلقة الى خيمتها مجددا. طلبت من والدها عدم تزويجها بعد ذلك، وعندما جاء العم يطلب تزويجها من آخر يطمع بشبابها رفض والدها تزويجها، واستمرت رفض الزواج حتى بعد وفاة والدها…
كانت حياة سما في المخيم شبه خاوية ، تتذكر قريتها وجدتها التي كانت تحب الخياطة وكذلك والدها بعد ذلك وهي أيضا. باسل شاب يسكن خيمة قريبة من خيمة سما لاجئ ايضا. مدمن على الدخان، له تأتأة في النطق، ينظر اليها دوما، ومع الوقت تشابكت الأعين ثم الأنفس وأصبحا حبيبين يلتقيان بالسر ويتحدثان بشأنهما…
توفي والد سما ودفن بالمقبرة المجاورة للمخيم حيث تضم جثامين من مات من اللاجئين. وعندما توفي والد سما توصلت سما بالاتفاق مع باسل لقرار عملت مع باسل بكل طاقتها حتى تنفذه وهو أنهما يريدان مغادرة المخيم ولبنان هاربان الى إيطاليا، حيث يعيشا هناك وتكمل طموحها بدراسة الخياطة. تخيط لنفسها ثوب زفافها الذي تود ارتدائه عند زفافها من حبيبها باسل. خططت للهروب مع باسل والمهم هو تأمين المبلغ الذي سيدفع للانتقال بالسفينة من بيروت الى تركيا وهناك إلى الولايات المطلة على بحر ايجه ومن ثم اليونان. المحزن أن أسوأ ما انعكس على حياة سما هو نزعتها للسرقة، سواء كانت السرقة لذي القيمة أو غير المفيد. كان أسوأ ما أوجعها انها باعت بطاقة اعاشة اهلها للشاويش وحرمتهم من ثمن الطعام لعدة أشهر، وسرقت من اعز صديقاتها ايضا…
المهم جمعت سما وحبيبها باسل المبلغ، وهربوا من المخيم الى بيروت ومن هناك ركبوا السفينة إلى اسطنبول. تحمل سما همها وهم أهلها الجياع. لكنها قررت أن تضحي بكل شيء لاجل ان تنقذ نفسها. في اسطنبول بدأت تلتقي هي وباسل مع المهربين المحتملين، كانت حريصة على أن لا يتركوا فرصة لاستغلالهم من المهربين. اتفقوا مع أحدهم أخيرا وانتقلوا إلى المنطقة التي يتجمع بها الهاربين إلى أوروبا، منتظرين لحظة استدعائهم من المهربين. في أجواء مخيفة وفي غابات موحشة. تخفيهم عن الجندرمة التركية. في هذه الأجواء وقبل مجيء البلم الذي يركبنه متوجهين الى اليونان قاطعين بحر ايجه. هناك في غابات تركيا بعد ان خاطت سما ثوب زفافها الأبيض الذي جمعت قماشه الأبيض من بقايا أثواب كثيرة، عقدت قرانها على باسل وتزوجا وعاشا لحظات حب وإشباع جسدي وانساني. احست سما أنها تزوجت الان وانها وجدت رجلها واخذت معالم مستقبلها بالتحديد…
انتظروا لأيام مجيء خبر من المهرب، ثم توجهوا إلى البلم وركبوه. رجال ونساء وأطفال. وتركوا في البحر يعيشون أقدارهم. قاد أحد الشباب البلم. وبعد مضي ساعات ارتفع الموج وضعف البلم أمام البحر وبدأ بالغرق. الكثيرين ألقوا بأنفسهم في البحر. ومنهم سما وباسل الذي يعرف السباحة وهي ترتدي سترة النجاة قاموا البحر كثيرا. غرق من غرق وبقيت سما وباسل يقاومون البحر والموج ينهكهم التعب. منتظرين احتمال أن تلتقطهم اليابسة أو منقذين محتملين، أو يعانقهم موت رحيم…
هنا تنتهي الرواية…
في التعقيب عليها اقول:
نحن أمام رواية رائعة أخرى لزهراء عبد الله. تقارب موضوعا عالجته الكثير من الروايات والشهادات بعد الثورة السورية. الجديد الذي تظهره زهراء هو غياب المباشرة السياسية ، تغييب مقصود به التحدث عن العمق المجتمعي بكل عيوبه وسيئاته. النظام حاضر بجبروته و قصفه وتدميره للبلدة وتهجير أهلها جميعا. أما الثورة فقد قُتلت مع جيل المتظاهرين الاول، ورثتها المجموعات المسلحة التي تخفى بعضها وراء الإسلام ومارست ذات فعل النظام. وكان أسوأ صورها داعش والنصرة.
توقفت عند المجتمع السوري ببناه المتخلفة القمعية الذكورية تجاه المرأة التي لم يرحموا صغر سنها وكيف اصبحت سلعة للبيع في زواجات يصح أن يقال عنها اغتصاب شرعي. وكذلك البنية الاستغلالية المجتمعية نموذجها الشاويش المتحكم بحياة ولقمة عيش أهل المخيم. النموذج البديل عن النظام المجرم في الطرف الآخر.
نجحت الرواية في الغوص عميقا في ذات بطلتها سما الانسانة التي تشكل بذاتها كونا كاملا يحتاج لفهمه والتعمق بمعرفته. حق الانسان بالمعرفة والتعلم وان لا يجبر على أي مسلك اجتماعي زواج او غيره دون أن يكون راضيا وفي سن مناسبة.
أكثر ما يؤلم في الرواية ان نستنتج ان كل ما تطمح له سما نموذج المرأة السورية ونموذج كل السوريين. هو أن تتعلم وأن تحب وان تختار بإرادتها نموذج مستقبلها. وان تتعلم وتعمل وفق موهبتها ودراستها، وان تعيش في مجتمع يحترم إنسانيتها وكرامتها وحقوقها الإنسانية البسيطة التي جعلتها هي وكثير من السوريين يختارون الهروب لاوربا جنة الله على الأرض مع احتمال الموت غرقا.
لا بد من التوقف عند اللغة المشاعرية الرائعة للرواية كلها. خلط ناجح بين المشاعر بكل تنوعها وفيضها. وبين رؤى فلسفية حياتية تجعلنا نتوقف كثيرا امامها نتأملها انها دروس مهمة في الحياة.
كم هو مؤلم ان يختار شعبنا احتمال الموت في طريق الغربة هربا من الموت المحقق في بلادنا…