عن الفنّ والحرية

رشا عمران

رغم أن الأجساد العارية في لوحة الحساب الأخير لمايكل أنجلو، المرسومة على جدار هيكل كنيسة سيستينا في مدينة الفاتيكان، تمثّل الأرواح الملعونة التي أراد أنجلو إظهارها مذلولةً ومذمومةً عبر رسمها عارية، فإن هذا الجزء من اللوحة الشهيرة بقي وقتاً طويلاً محلّ أخذٍ وردّ في أدبيات الكنيسة الكاثوليكية التي كان بعض كرادلتها يرون أن إظهار الجسد العاري في الكنيسة أمر مشين للكنيسة ومهينٌ لها، بينما رأى آخرون أن المعنى في العري معنىً إنساني، وليس إغوائياً كما يحاول بعضهم إظهاره. انتصرت إرادة الحرية في النهاية، وانتصر الفنّ على التطرّف والانغلاق، وبقيت اللوحة دليلاً من دون أي تعديل عليها.

يحفل التاريخ البشري بمحاولات متواصلة للحدّ من حرّية الفنون، ولجعلها خاضعةً لإرادة السلطات السياسية والدينية والمجتمعية، ودائماً كان الفنّ المنتصر أخيراً، رغم لوائح المنع والمصادرة. ففي ألمانيا النازية اشتهر مصطلح “الفنّ المنحطّ”، اللقب الذي أطلقه هتلر على الفنّ الحديث، وكان القصد منه إهانة الفنّ التجريدي والسوريالي الذي لا يتماشى مع الأيديولوجيا النازية المحافظة. الفنّ التجريدي اليوم أحد أكثر المدارس الفنّية أهميةً. نُفي مارك شاغال (الفنان الروسي الشهير) من الاتحاد السوفييتي في عام 1922، وعاش في فرنسا حتى نهاية حياته، لأن أعماله صنّفت معاديةً للخطاب الرسمي للدولة، ومثله كثر من الموسيقيين والكتّاب السوفييت الذين ضُيِّق عليهم بسبب اختلاف أساليبهم الفنّية والأدبية عن الواقعية الاشتراكية التي أرادت الحكومة تكريسها هُويَّة نموذجية للاتحاد السوفييتي. لم يظهر الجسد العاري في الفنّ الغربي أداةَ غواية، حتى إن تمثال أفروديت، إلهة الحبّ والجمال، الذي نحته الفنان براكستيلس (القرن الرابع قبل الميلاد)، اعتبر بمثابة تحفة فنّية تدلّ على هُويَّة زمنه، ولم يحطّم في أيّ مرحلة من التاريخ، وما زال معروضاً في متحف اللوفر في باريس.

في زمن الخلافتين، الأموية والعباسية، ظهرت كثير من رسوم الأجساد العارية في قصور الخلفاء، ولعلّ أشهرها رسم الراقصة العارية على جدار في قصر عمرة، الذي شيّد في عهد الخليفة الأموي الوليد بن يزيد. أمّا الكتب عن الجنس التي ظهرت في هاتين المرحلتَين فحدّث ولا حرج؛ يكفي للدلالة على ذلك “ألف ليلة وليلة” في نسخته الأصلية، التي نقّحت في العصور الإسلامية الحديثة، وكان التنقيح يعني حذف الألفاظ والمشاهد الجنسية من الحكايات، بينما كان الكتاب الأصلي (هناك نسخة من أربعة أجزاء صدرت عن مطبعة بولاق بلا تنقيح) يعجّ، لا بالمشاهد والمفردات الجنسية وحسب، بل أيضاً بالرسومات المرافقة التي تُظهر الأجساد العارية للنساء والرجال معاً. كتاب ألف ليلة وليلة بقي واحداً من أهم كتب التراث العربي الإسلامي الملهم لكثيرين من الكتّاب والروائيين في العالم.

يتعامل المحافظون مع الجسد الإنساني بوصفه مصدر الشهوة (خصوصاً الجسد الأنثوي)، ورغم أن الشهوة والغواية جزآن رئيسان من أسطورة الخلق الدينية، فيُنظر إليهما اجتماعياً ودينياً بوصفهما عاراً، ويُتعامل مع الفنّ المُجسِّد لهما مضادّاً لأخلاق الدين والمجتمع. لكنّ الجسد الفنّي العاري يرمز إلى قيم أكثر عمقاً من مجرّد الغواية، الجسد العاري هو رمز للتمرّد، وللطبيعة بقدرتها على الخلق والعطاء، وهو رمز للثنائية والاختلاف، هو رمز للألم أيضاً في الفنّ المسيحي، ورمز للحبّ في كلّ العصور. هو رمز للذاكرة التي تتشكّل منها الهُويَّة الفردية والجمعية، وهو أيضاً رمز جمالي للعبقرية التي شكّلت هذا التكوين، ورمز علمي يوضّح آلية تشريح هذا الجسد بكلّ تفاصيله، بما فيها غير الجميلة.

الفنّ الحقيقي هو الفنّ المضاد للتسلّط والاستبداد، وشرطه الحرية المطلقة، التي تترك للخيال أن يصل إلى مناطق خطرة ومجهولة. لهذا، لا يمكن لأحد أن يحدّ من حرية الفنّ أو يفرض رقابةً عليه، فشواهد التاريخ كثيرة على قدرة الفنّ على الإفلات من المصادرة والرقابة، وعلى النتائج العكسية التي تتركها هذه المصادرة. ذلك أن “الرقابة على الفنّ مجرّد خوف من الحرية”، كما تقول الروائية الأميركية سوزان سونتاغ.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى