دراسة ميدانية استشرافية
ملخص الدراسة
عمل النظام السياسي السوري منذ عام 1963 على تنشئة السوريين في قوالب نمطية موحدة، بمواصفات اجتماعية سياسية مسبقة الصنع، حيث خلت سورية من استطلاعات الرأي السياسية، ومن الاستطلاعات التي تبحث في التوجهات الاجتماعية للسوريين، إلا في قوالب أيديولوجية سياسية محددة. بتعبير آخر: اشتغل النظام السوري على صياغة مجتمعٍ تغلب عليه سمة التجانس الأيديولوجي السياسي، حتى في استطلاعات الرأي الاجتماعية والترفيهية في سورية، حيث يُلقّن أفراد العيّنة الإجابات قبل طرح الأسئلة. أما من الناحية الأكاديمية، فقد خلت سورية من أي دراسة أكاديمية، عن تصورات السوريين حول القضايا الوطنية المصيرية، إلا ضمن توجهات النظام السياسي. وبالعودة إلى داتا الأبحاث الأكاديمية بهذا الخصوص في سورية؛ نجد أن ثمة تصحرًا علميًا بالمطلق، بخصوص القضايا السورية المستقبلية، ما عدا تلك التي تدور في فلك النظام السياسي.
أحدثت التغيرات التي أصابت سورية (الثورة فالحرب واللجوء) اهتزازات عميقة، على المستويات الاجتماعية والسياسية، في بنية تفكير الشباب السوري، وهو ما أثر بالضرورة في اتجاهاتهم وتصوراتهم للواقع الحالي والمستقبلي لسورية.
توزع الشباب السوري (والسوريون عمومًا) على أماكن وبقاع متعددة، واستقبلت دول اللجوء أعدادًا كبيرة منهم، فضلًا عن الموجودين في سورية الحالية، سواء في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام أو تلك التي خرجت عن سيطرته.
تأثر الشباب في تلك الأمكنة الجغرافية بالمناخ السياسي والاجتماعي العام السائد في كلّ منها، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، أثرت المجريات في الواقع الميداني والسياسي في الأرض السورية، ومن ثمّ أثرت سلسلة الاجتماعات التي جمعت المعارضة السورية والنظام على طاولة المفاوضات، في اتجاهات الشباب ورغباتهم وتصوراتهم لما سوف تكون عليه سورية في المستقبل.
هذا الأمر فرض التوجّه نحو الشباب السوري في تلك الأماكن، للوقوف على اتجاهاتهم وتصوراتهم لشكل سورية المستقبل الذي يرونه ويتوافقون عليه. ومن هنا؛ تنبع أهمية هذه الدراسة في محاولة استنطاقها آمال الشباب السوري وتطلعاتهم، في المناطق والدول التي هم فيها حاليًا. وتبرز أهمية الدراسة أيضًا من أهمية الشباب، كفئة عمرية معنية ببناء سورية القادمة، وكذلك من أن هذه الدراسة تقع في خانة الدراسات الاستشرافية المستقبلية، ولا سيّما أننا أمام خيارات محلية ودولية تحاول رسم شكل سورية المستقبل، بناء على المصالح المتناقضة لأطراف النزاع السوري بأطيافه كافة.
وتبلورت أهداف الدراسة وتساؤلاتها بالآتي:
1- التعرّف إلى تصورات الشباب حول القضايا الاجتماعية (القوانين والتشريعات الناظمة للحياة الاجتماعية) في سورية المستقبل، قضايا الزواج والطلاق، توريث المرأة، العلاقات الناظمة بين الزوجين والأبناء، الشريعة الدينية وموضوعاتها.. إلخ.
2- التعرف إلى تصورات الشباب حول القضايا الاقتصادية (نمط الاقتصاد الأمثل، سياسة دعم السلع الأساسية، سياسة إعانة البطالة، التأمين الصحي، التنمية المستدامة المحلية).
2- التعرف إلى تصورات الشباب للقضايا التعليمية في المراحل التعليمية كافة.
3- التعرف إلى تصورات الشباب السياسية المرغوب فيها في سورية المستقبل (طبيعة النظام السياسي، الأحزاب السياسية، الهوية، المركزية واللامركزية… إلخ).
4- التعرف إلى تصورات الشباب للخطاب الثقافي والإعلامي في سورية المستقبل.
5- التعرف إلى توقعات الشباب السوري لمستقبل سورية خلال السنوات العشر المقبلة.
تحدد المجال المكاني بوجود الشباب السوري في الأماكن الآتية: (الشباب السوري في مناطق سيطرة المعارضة الراديكالية [النصرة وغيرها]، الشباب السوري في مناطق سيطرة الجيش الوطني المدعومة من تركيا [عفرين، ريف حلب الشمالي، تل أبيض، رأس العين]، الشباب السوري من “المكوّن الكردي” في مناطق سيطرة قوات PYD الكردية المدعومة من أميركا، الشباب السوري في تركيا [إسطنبول نموذجًا]، الشباب السوري في أوروبا، الشباب السوري في لبنان، الشباب السوري في الأردن، الشباب السوري في مناطق النظام المدعوم من قبل القوات الروسية والإيرانية).
وتحدد مجتمع البحث الأصلي بالشباب السوري في الفئة العمرية المحددة (18-35) الموجود في المناطق المتناولة بالدراسة. وقد اعتُمدت الاستمارة أداةً لجمع البيانات الرئيسية في هذه الدراسة. وقد نفّذ عملية جمع البيانات فريقٌ ميداني من الجنسين، من المناطق التي نُفّذت الدراسة فيها فيزيائيًا، وهي (تركيا، مناطق إدلب وريفها، مناطق سيطرة الجيش الوطني “عفرين، ريف حلب الشمالي، تل أبيض، رأس العين”، مناطق المكوّن الكردي). أما المناطق التي تم اعتماد الاستبانة الإلكترونية فيها فهي (مناطق سيطرة النظام، لبنان، الأردن، دول أوروبا).
وقد توصلت الدراسة إلى جملة من النتائج، نذكر منها:
1- رغبة الشباب السوري بوجود عقد اجتماعي يكرس الشفافية والمساءلة والتداول السلمي للسلطة.
2- توافق اتجاهات الشباب مع أحد أهداف الثورة السورية، وهو الوصول إلى صيغة من العقد الاجتماعي الذي يتساوى فيه المواطنون، وتكون مرجعيته مفهوم المواطنة، بالرغم من عسكرة وشيطنة الثورة، من قبل النظام السوري الاستبدادي من جهة، ومن قبل تنظيمات إسلامية راديكالية إرهابية (جبهة النصرة وداعش وفصائل إسلامية أخرى) من جهة ثانية.
3- اتجاهات إيجابية لدى الشباب بوجود تشريع مدني للحياة الاجتماعية موحد لجميع السوريين، أسوة بالدول المتقدمة.
4- أظهرت الدراسة مرونة تجاه القضايا الدينية، التي نظر إليها الشباب على أنها اختيار شخصي وعلاقة دينية خاصة بين الإنسان والتشريعات السماوية وغير السماوية كذلك. وهذا يدلّ من ناحية أخرى على أن هدف الثورة السورية عام 2011 لم يكن دينيًا بتغيير الطبقة الحاكمة المستندة إلى أسس دينية طائفية، وإنما كانت ثورة تنادي بالحقوق الأساسية للمواطن السوري، ومن ضمنها حرية الاعتقاد الديني.
5- كانت اتجاهات الشباب نحو بعض القضايا الأسرية والاجتماعية متحفظة، وتتوافق مع الاتجاهات السابقة المحافظة عمومًا، مثل (انفصال الإناث والذكور عن أهلهم بعد بلوغ سن الرشد، تزويج الفتاة لنفسها بعد سن الرشد بمعزل عن ولي أمرها، منع تعدد الزوجات في الدستور السوري الجديد).
6-لم يفضّل الشباب تطبيق الشريعة الإسلامية على المسلمين، في جوانب الحياة الاجتماعية كافة، وقد يعود ذلك إلى أن السوريين قد خبروا تجارب قريبة حاولت أن تفرض نمطًا دينيًا راديكاليًا على الحياة الاجتماعية في بعض المناطق، وكانت نتائجها سلبية.
7-اتجه الشباب نحو اعتبار الاقتصاد المشترك (الدولة والخاص) هو الأمثل لسورية المستقبل. فقد عانى السوريون تبعات ما يسمى الاقتصاد الاشتراكي (رأسمالية الدولة) طوال عهود النظام السوري، في مرحلة رئاسة حافظ الأسد لسورية. ومن ثم عانوا عصر الانفتاح في مرحلة تولي بشار الأسد للحكم وريثًا.
8- كانت هناك اتجاهات تتحفظ على الاختلاط بين الذكور والإناث في المدارس، ويزداد التحفظ كلّما تقدم العمر، وأصبحوا في مرحلة الشباب.
9- كان اتجاه الشباب نحو الحقوق الثقافية للقوميات والإثنيات المختلفة إيجابيًا، خاصة بعد عقود القمع الذي مارسه النظام بحق كثير من المكونات السورية، ولا سيّما الأكراد.
10- فضّل الشباب حيادية الجامعات عن الأحزاب السياسية كافة، ويعود هذا الأمر -بتصورنا- إلى سيطرة حزب البعث ومؤسساته على الحياة الجامعية طوال عقود حكم البعث حتى الآن، وهو ما كرّس المحسوبية والواسطة والوشاية وتصفية الحسابات الشخصية بناء على تلفيق التهم والتقارير، وقد شمل ذلك الأساتذةَ والطلاب على حد سواء.
11- اتجه الشباب إيجابيًا نحوحرية الإعلام بكل أنواعه. فقد عانى الإعلام في سورية، قبل وأثناء الثورة، جملة صعوبات تتعلق بالرقابة وعدم حرية النشر في كل القضايا التي تتعلق بالتجاوزات، على المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية وغيرها، وهو ما غيّب دور الإعلام في سورية كسلطة رابعة، في ظل نظام دكتاتوري يسيطر على الإعلام الرسمي بوسائطه كافة.
12- كان الاتجاه إيجابيًا نحو قضية حرية الرأي والتعبير، ارتباطًا بحرية الإعلام، وهو ما يفسر رفض سياسة كمّ الأفواه والاعتقالات التي كانت تسجل تحت اسم “قضايا الرأي والتعبير” في ظل النظام البعثي الدكتاتوري.
13- وجود ميل واضح لدى معظم الشباب السوري (عينة الدراسة)، وفي معظم مناطق وجودهم، إلى التمسك بوحدة سورية دولة وشعبًا.
14- فضّل الشباب هوية دولة سورية المستقبل، هوية تستبعد الأيديولوجيات، الأديان، القوميات، وفي الوقت نفسه تلتزم بالشرعية الدولية وبحقوق القوميات الأخرى. وبمعنى آخر: هوية دولة المواطنة التي تقوم على مبادئ الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وسيادة القانون وبناء المؤسسات، والابتعاد عن الفئوية الطائفية والمذهبية والجغرافية، وفي الوقت ذاته ظهرت الدعوة إلى الحفاظ على وحدة جغرافية سورية المتعارف عليها بحدودها السياسية ما قبل 2011، من خلال رفض أغلبية الشباب السوري (عينة الدراسة) لقيام دولة كردية مستقلة، وفي الوقت نفسه كانت هناك موافقة على منح القوميات غير العربية حقوقها الثقافية كافة.
15- فضّل الشباب (عيّنة الدراسة) النظام البرلماني، كونه مرتبطًا بثقافة الشباب الثوري السياسية بالمرحلة الديمقراطية الذهبية في الخمسينيات، مقارنة بالاستبداد الممارس باسم النظام الرئاسي من قبل البعث.
16- كان منظور الشباب السوري (عينة الدراسة) للحياة السياسية والحزبية في سورية يستند إلى ضرورة توفر البيئة التشريعية الحاضنة لتأسيس الأحزاب السياسية التي تحدد الأطر والمعايير القانونية الناظمة لعمل الأحزاب السورية داخل الدولة السورية في المستقبل، إضافة إلى التطلع إلى قيام أحزاب سياسية غير مؤدلجة وغير تابعة لخارج سورية أيديولوجيًا، تعتمد البرامج العملية التي تخدم السوريين بالدرجة الأولى، حيث تكون معايير استمرارها هي القدرة على العطاء للسوريين، وفي الوقت نفسه تؤمن بحق غيرها في الوصول إلى السلطة من أجل خدمة السوريين.
17- أغلبية الشباب السوري (عينة الدراسة) توقعوا استمرار الصراع الحالي في سورية، وحدوث ثورة جديدة في سورية نتيجة التدهور المعيشي، وتشكيل حكومة جديدة من قبل النظام الحالي بمشاركة بعض أطياف المعارضة.
18- توقع الشباب السوري (سورية بعد عشر سنوات)، سقوط النظام السياسي، وبناء سورية جديدة، ووضع دستور جديد وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية.
19- توقّع نصف أفراد العينة تقريبًا تقسيم سورية، وهو ما يعكس مزاجًا عامًا سلبيًا، بسبب استمرار الصراع واستعصاء الحل.
20- توقع 39 %من الشباب سيطرة التيار الإسلامي على سورية الجديدة.
أخيرًا يمكننا القول، بإيجاز: إن ثقافة الشباب السوري (عينة الدراسة) تتضمنثنائيةً من القيم الاجتماعية والوطنية، وهي قيم جديدة تنمو، وقيم قديمة ما زالت راسخة نسبيًا. وربما يرى البعض أن القيم الجديدة بعيدة من الواقع السوري المعيش، وقد يكون مصدرها الشجاعة التي يمتلكها الشباب السوري (عينة الدراسة) حيث ينفرد الشخص بإجابته بعيدًا عن عيون الجماعة ورقابتها، وهذا بحد ذاته مؤشرٌ إلى الميل إلى التحرر من مراعاة قيم الجماعة السائدة.
وكان لأحداث الثورة والشعارات التي طُرحت في مناخات أكثر حرية، ولانتشار وسائل التواصل، وللتهجير الذي أوجد حالة احتكاك الشباب السوري بمجتمعات أخرى وبظروف جديدة وثقافات جديدة لشعوب أخرى، كان لها دورٌ ساعد في ظهور قيم الحرية والشفافية وقيم المواطنة وتداول السلطة والمجتمع المدني ومكافحة الفساد.. إلخ، لدى الشباب السوري (عينة الدراسة)، وفي الوقت نفسه، استمرّ ظهور بعض القيم التقليدية، سواء الموروثة من جيل الأهل أو التي وجُدت بتأثير ظروف الصراع ونمو القوى المذهبية على طرفي جبهة الصراع بين الموالاة والمعارضة، وعلى الرغم من هذه الثنائية للقيم، فإنها تضع الشباب السوري على طريق القيم المعاصرة للمجتمع الحديث (القيم التي تنمو لتحلّ تدريجيًا محل قيم تقليدية أصبحت في حالة تناقض مع مستلزمات العصر) وخاصة في حال تحقق انتقال سياسي، وعودة السوريين لبناء سورية الجديدة على أنقاض سلطة البعث الأسد، وهي قيم ستساعد في بناء سورية المستقبل.
المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة