موسى رحوم عباس روائي سوري متميز منتمي للثورة السورية، قرأت له سابقا رواية بيلان وكتبت عنها.
الصاعدون الى النعيم رواية موسى الجديدة تعتمد في سردها لغة المتكلم على لسان شخصياتها المتنوعة وفق فصول متتابعة تتناول الحدث الروائي في أبعاد زمنية متفاوتة تصل الى القرن واماكن مختلفة بين مدينة الرقة السورية وتونس وفرنسا وروسيا ولبنان…الخ.
يبدأ الحدث الروائي من مدينة الرقة حيث كان قد سيطر عليها تنظيم الدولة الاسلامية داعش عام ٢٠١٤م طاردا مجموعات الجيش الحر الذي كان حررها من قبضة النظام ، إبراهيم ابن قرية كسرة مريبط المجاورة للرقة علم أن رجال الحسبة التابعين لتنظيم الدولة دعى الناس للتجمع في ساحة النعيم في قلب الرقة لتبليغهم أمر ما. وسرعان ماتبين انهم قد اعدموا مجموعة من الناس بينهم طبيب معروف في الرقة وكذلك الممرض الذي يعمل عنده، وسائق تكسي عمومي. كما تفاجأ إبراهيم بإعدام ابن خالته سيفان بن أمين البدر. مع علمه ان سيفان في بيروت ، ما الذي اتى به وتم اعدامه وهو لا يعلم. ابراهيم زوج انوشكا أخت سيفان وهي لا تعلم طبعا. جاء رجال داعش ملثمين ومعهم شيخ معمم القى خطبة مختصرة برر بها اعدام هؤلاء. وضعوا رؤوس المعدومين على أسنّة الرماح في الساحة. وركبوا بعد ذلك عرباتهم وتوجهوا إلى الهوته الهاوية العميقة التي صنعتها عوامل جيولوجية عبر ملايين السنين والقو بها الجثث لتأكلها الوحوش الضارية …
كان بين رجال داعش شاب لا يحمل السلاح حيوي يحمل كاميرته ويوثق كل شيء. انه شاب تونسي الاصل يوثق كل ما تفعله داعش ليتم توزيعه بعد ذلك على وسائل التواصل الاجتماعي…
يعود إبراهيم وزوجته ابنة خالته انوشكا أخت سيفان المعدوم للتحدث عن أصل تواجدهم في قرية كسرة مريبط في الرقة إلى بدايات القرن العشرين. حيث كان جدهم الأول محمد الجارح قد ذهب في احدى سفراته التجارية من قريته الى حلب وهناك حدّثه بعض التجار ممن كان يتعامل معهم عن امرأة ارمنية لاجئة من الصراع الحاصل بين الارمن و العثمانيين وكان فيه صراع مسلح فقد التزم الأرمن طرف الروس في حربهم ضد العثمانيين. وحصلت مجازر متبادلة… المهم طلبوا منه أن يكفلها وابنها الصغير امين. وبالفعل وضع الحاج محمد الجارح المرأة الأرمنية وولدها امين البدر تحت رعايته. و جعلهم بعض من عياله. كبر امين وتعلم مع أولاده على يد معلمي اولاد الحاج. كان متميزا يحب القراءة قرأ القرآن وحفظ الكثير منه وتفقه بالإسلام. رغم كونه وامه مسيحيان. وهذا لم يمنع امين من ينشأ كمسلم ولم يفكر يوما أن يتابع دين أمه المسيحية…
كبر امين وعاصر الوحدة المصرية السورية، كان يحب عبد الناصر، استمر يحتفظ بصورة كبيرة عنده في بيته حتى بعد أن وصل عمره ما يزيد عن مئة عام. عايش وصول البعث في سوريا للسلطة كان يخدم عسكريا في جنوب سوريا خان أرنبة على حدود الجولان. عاش حرب ١٩٦٧م والهزيمة التي حصلت وشاهد بعينه انسحاب الجيش السوري من الجولان واعلان سقوطها قبل دخول أي عسكري صهيوني فيها. هرب الجنود بناء على أمر الانسحاب الكيفي ، انسحب امين وغادر الى بلدته كسرة المريبط ومعه بندقيته التي احتفظ بها ذكرى خذلان الحكام . وبعد انتهاء الحرب استدعي إلى قطعته العسكرية ليعطوه وسام البطولة، رفض أمين ذلك واجههم باتهامه لهم بالخيانة وتضييع الجولان. فحبسوه ودخل بحالة نفسية اوصلته لحافة الجنون وبسبب ذلك اخلي سبيله. عاد إلى قريته وتزوج وأنجب ابنه سيفان وابنته انوشكا كانوا بعيون زرقاء وبشرة بيضاء توشي بأصلهم الأرمني. أراد التأكيد على أصله الأرمني بتسمية أولاده. كبر أبناؤه كان سيفان شابا متمردا منذ صغره. التحق بالحزب الشيوعي في سوريا. ومن خلال الحزب حصل على بعثة لتكملة الدراسة الجامعية في روسيا أيام الاتحاد السوفييتي. كان ذلك في أوائل سبعينيات القرن الماضي. حيث كان الخلاف في قيادة الحزب الشيوعي على أشده حول قضايا مركزية منها الموقف من النظام السوري من معه ومن ضده كنظام مستبد ، كما اختلفوا حول القضية الفلسطينية وحول قضية الوحدة العربية. كان السوفييت يدعمون جناح القيادة التاريخية للحزب وكان سيفان مع المكتب السياسي الذي يعادي النظام ويؤمن بحق الفلسطينيين بدولة وبالوحدة العربية. وكان نتيجة ذلك معاداة قيادة الحزب في روسيا لسيفان ادى لطرده من البعثة ومن روسيا كلها. لم يستطع سيفان العودة إلى سوريا لأن النظام السوري كان قد باشر باعتقال شيوعيو المكتب السياسي لأنهم كانوا جزء من الحراك الوطني الديمقراطي المطالب بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية في نهاية سبعينات وبداية ثمانينات القرن الماضي. فما كان منه الا ان توجه الى بيروت. وعمل في صحافة الثورة الفلسطينية مستخدما معرفته بالروسية للترجمة منها للعربية وكتابة بعض المواضيع المتعلقة بالمرحلة وتطوراتها. بقي على تواصل مع أهله. والده المعمر امين واخته انوشكا التي تزوجت من ابن خالتها ابراهيم. كما استيقظ في داخله إصرار على استعادة هويته الاصلية. فلم يكتفي باسمه. بل اخذ يبحث ويتابع اصوله وعدل دينه ليصبح المسيحية كما كان أيام جاءت جدّته الارمنية مع أبيه الذي كان طفلا قبل قرن تقريبا. وهذا يعني انه اصبح مرتدا بتعبيرات الدولة الاسلامية داعش . وعندما سئل عن سبب ذلك وخاصة أنه شيوعي ولا يهتم بالأديان قال انه كان غاضبا ورفض التنكر لأصله. رغم كون والده أمين أصبح يلقب الحاج أمين فقد كان يذهب للعمرة كل سنة و الحج كل خمس سنوات، كان متبحرا بالدين عقلانيا ومعتدلا ونموذجا في السلوك الاجتماعي .
كبر الحاج أمين في العمر عايش الكثير من الأحداث بدءا من الحرب العالمية الأولى ثم الوحدة والانفصال و استلام البعث السلطة في سوريا وهزيمة ١٩٦٧م وجميع التطورات التي مرت على سوريا حتى حصلت الثورة السورية ربيع عام ٢٠١١م وتحرر الرقة ودخول داعش اليها. وصل عمره لما يزيد عن المئة عام وعقله مازال في احسن احواله. كان مُحتضنا من ابنته انوشكا وزوجها إبراهيم واولادهم. غصّته الوحيدة كانت فقدانه لرؤية ابنه سيفان الذي لم يره منذ سنوات بعيدة. طلب رؤية سيفان ابنه وهو على فراش الموت. ورغم خطورة ذلك. علم سيفان بذلك، استجاب لطلب والده ، رغم كونه متهم بالردة من قبل داعش والقتل ينتظره. وصلت ايادي داعش له قبل رؤية والده واخفوه حتى اعدموه في ساحة النعيم وعلقوا رأسه على رأس رمح وألقوا بجثته في الهوته مع جثث الآخرين… لم يكن امام انوشكا وزوجها إبراهيم وأولادهم بعد اعدام سيفان ووفاة والدها امين إلا أن يفكروا بالهروب من الرقة و الهجرة مجددا…
وأما الطبيب والممرض الذين اعدموا ايضا في الساحة فقد كان السبب رفض الطبيب وممرضه معه اجراء عملية اجهاض لاحدى نساء احد قادات داعش وكان مصيرهم الاعدام وتعليق رؤوسهم على الرماح ورمي جثثهم في الهوته كما حصل مع سيفان…
أما ذلك السائق فإن حكايته مختلفة. فهو إنسان عادي لم يكمل علمه حصل على شهادة السواقة وبعد ذلك اشترى تكسي وبعد ذلك أصبح يستدعيه رجال الحسبة وقادة داعش وأخذوه في مشاوير غريبة. وهو متكتم بالطبع. لقد طلبوه لكثير من المراة ليكون مرافقا القادة تباعا وهم يغادرون الرقة لاحدى المدن المجاورة في سوريا العراق حلب حمص حماه … الخ. كانوا يمروا على حواجز النظام دون أي مساءلة وكأنهم من أهل الدار كان ذلك غريبا. السائق يكتم ما يعرفه لأنه يعلم أن موته وراء إفشائه بالأسرار التي يحملها. مع ذلك اعدم ايضا ولقي مصير سيفان والآخرين…
أما الشاب التونسي فإن حكايته مختلفة تصب أخيرا في ساحة النعيم في الرقة. هو من مدينة قابس التونسية والده مدرس معار للتدريس في جامعة جدّه كبر وترعرع في جدّه التي أحبها وعاش طفولته بها. والده متدينا معتدلا عقلانيا منفتحا استفاد من علوم أبيه وحفظ بعض القرآن والحديث والفقه أصبح ملما بالفرق الدينية. عاد مع والده وعائلته الى تونس ولم يكن يعجب تدين والده وعقلانيته وانفتاحه الموجودين حوله فبدؤوا يكيدون له. حتى دُعي للسفر إلى مؤتمر خارج تونس والحقيقة كان ذلك مقدمة خطفه وتغيبه وقد يكون تصفيته. اثر ذلك على التونسي الذي افتقد والده وقرر أن يودع والدته ويهاجر الى فرنسا لعله يجد لنفسه فرصة حياة أفضل. وبالفعل عبر البحر مخاطرا بحياته ووصل الى مرسيليا وهناك سجل في جامعتها ليتمكن من الحصول على إقامة نظامية في فرنسا. وعبر شبكة علاقات تعرف على الزهراء فتاة شيعية تعرف عدة لغات وتسافر إلى طهران ولبنان تقربت منه عرفت حكايته بالتفصيل وعلى ما يبدو أنها كانت على علاقة مع اجهزة استخبارات دولية منها الفرنسيين. اعتقل التونسي واتهم بأنه واحد من مجموعة ارهابية وسرعان ما حوكم وحكم عليه بالسجن خمس وعشرين عاما. اسقط بيد التونسي ودخل في حالة يأس. وسرعان ما استدعته احدى عميلات المخابرات وقالت له أمامك فرصة للخروج من سجنك المهم أن تنفذ ما نريد منك. طلبوا منه ان يذهب الى الرقة ويعمل في الصحافة ويرسل لهم تقارير دورية عن كل شيء وأنه سيكون جزء من شبكة تحت الحماية والمراقبة وإن وافق فعليه أن يخضع لدورة فنية بالتصوير والتواصل عبر الانترنت. وكذلك تنمية معرفته الفكرية. لم يكن أمامه غير القبول وبالفعل ذهب الى الرقة وكان بجوار القادة يوثق كل شيء ويرسله تباعا الى مشغلينه الاستخبارات الفرنسية. كان في ساحة النعيم عندما أعدم سيفان و الآخرين وثق كل ذلك. كان الاتفاق معه أن يعود لفرنسا بعد سنتين ويأخذ جواز سفر فرنسي ويعيش حياته. بالفعل عاد لكنه كان يخطط لأن ينتقم من الظلم الذي عاشه وعايشه بتوثيق حقيقة كل ما شاهده ونشره في كتاب لاحقا. اكتشف الفرنسيين ما كتابه. قتلوه وادعوا أنه توفي بمشاجرة ، حاول أنصار حقوق الإنسان ومن كان يعرفه قول الحقيقة. لكن ما نفع كل ذلك بعد موته وموت حكايته معه…
تنتهي الرواية عندما يتم تحرير الرقة من داعش عام ٢٠١٧م. تدخلت طائرات عامودية من كل الاتجاهات واخذت الكثير من الملثمين الذين اخترقوا داعش ليعودوا إلى قواعدهم، و ليتم نقل أغلبهم إلى أماكن أخرى ليكونوا جاهزين لأدوار مباشرة حيث يصلوا أو قادمة كخلايا نائمة…
واخيرا يعيد الراوي سرد الحكاية مجددا…
في التعقيب على الرواية اقول:
المبهر في الرواية انك تندمج مع أحداثها والحالات الإنسانية النفسية والحياتية لأشخاصها وكأنك واحد منهم. وانك في الوقت الذي تدرك ان حدث الرواية محدد امامك انها داعش والرقة وقرية كسرة المريبط التي ابتلعتها بحيرة سد الفرات وتلك التي بنى أهلها بدلا عنها بذات الاسم بعد ذلك. لتتوسع مع حكاية كل شخص فيها ليكاد يجول العالم كله في قرن من الزمان. امين ووالدته الأرمنية وحكاية تشردهم وتتالي تشريد الفلسطينيين والسوريين بعد ذلك والحبل على الجرار. التطورات في المعسكر الشيوعي والاتحاد السوفييتي وانقسام الحزب الشيوعي السوري بتفاصيل تدل على تغيرات حصلت في الواقع السوري وعقل الشيوعيين ودورهم السياسي وموقف المعارضين والثمن الغالي الذي دفعه منتسبي المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوري. وعبر إلى القضية الفلسطينية والثورة التي هاجرت إلى البعيد تونس لوأدها قبل أن تعيدها الانتفاضة إلى أرضها. الوحدة والانفصال وحزب البعث والسلطة وهزيمة ١٩٦٧م وتحول سوريا الى جمهورية القمع والخوف والاستبداد والسجون والفساد…
وأما عن الرقة وداعش تكتشف ان وراء الدولة الإسلامية داعش أياد خفية صنعتها و اخترقتها و استخدمتها. ليس النظام وفرنسا في الرواية إلا نموذج عياني عن هذا الاختراق والاستخدام…
وقبل كل ذلك وبعده أن حكاية الرقة هي حكاية ثورة سورية حصلت قبل احتلالها من داعش وخروجها منها بسنوات…
شعب طالب بإسقاط الاستبداد وتحقيق الحرية والعدالة والكرامة والديمقراطية والحياة الأفضل. وتمت كل هذه التداخلات في سوريا الشعب والبلاد ليكون ضحايا ولتولد داعش ويحصل التدخل الدولي والإقليمي: أمريكا وروسيا وإيران والميليشيات الطائفية والانفصاليين الأكراد حزب العمال الكردستاني وتصبح سوريا ارضا خرابا اغلب شعبها هرب منها و لندخل في طور جديد لا نعرف إلى أين يأخذنا نحن السوريين بعدما اصبح اغلبنا مشردا في دول العالم أو موزعا في مخيمات على حدود دول الجوار ولا نعرف ما هو البازار السياسي الذي سيحكم مصيرنا من قبل حكام العالم…