تضمنت وجبة الطعام التي اختارها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لضيفه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، “لبن العصفور” الحلوى الروسية المعروفة. فهل يكفي ذلك لإقناع أردوغان بما يريده بوتين، التركيز على تحسين العلاقات الثنائية ورفع مستواها بدلا من الرهان على الملفات الإقليمية التي تتسبب بتوتير الأجواء بين أنقرة وموسكو بين الحين والآخر؟
سبق قمة منتجع سوتشي الذي يطل على الجزء الهادئ من سواحل البحر الأسود، كثير من الشحن والتعبئة على خط أنقرة – موسكو، نتيجة عمليات كر وفر متبادلة في ملفات إقليمية تباعد بينهما. لكننا رأينا بعد اللقاء الكثير من الكتابات والتحليلات في إعلام البلدين حول نتائج القمة التي جمعت أردوغان وبوتين لأكثر من 3 ساعات، وسط إشادات مبكرة بالنتائج والمبالغة في التوقعات. قمة تعقد بعد تمريرات تركية – روسية طويلة في ساحة لعب ضيقة، شابها الكثير من التصعيد في توجيه الرسائل بسبب التوتر الحاصل في حوض البحر الأسود والذي يقلق القيادات التركية، والانفتاح التركي الغربي الأخير والليونة في مواقف أنقرة حيال التوسعة الأطلسية وهو ما يزعج موسكو.
فهل هناك منعطفات أو اختراقات سياسية حقيقية سجلت في الاجتماع المطول بين أردوغان وبوتين تزيل رواسب التوتر وتعيد الأمور إلى سابق عهدها؟
الحصيلة الأقرب بعد جردة حساب مطولة بين الرئيسين في الملفات الثنائية والإقليمية المشتركة هي التمسك بحماية مسار العلاقات المشتركة بشقها الاقتصادي والاستثماري المرتبط بملفات استراتيجية إقليمية، وإرجاء الإعلان عن أي جديد في مسار ونتائج الجهود التي تبذلها أنقرة على خط موسكو – كييف في مسألتي تصدير الحبوب وإقناع طرفي النزاع في القرم بالعودة إلى طاولة الحوار السياسي. الهدف هو انتظار نتائج المحادثات التي سيجريها أردوغان مع العديد من القيادات الغربية على هامش قمة دول العشرين في نيودلهي واجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك حول المسألتين. هناك عروض جديدة لأطراف وسيطة دخلت على الخط، والمسألة تحتاج إلى الحذر والتكتم كي لا يفشلها البعض قبل ولادتها.
في الشق المتعلق بتطورات الوضع في سوريا، كان حتما للأحداث الميدانية المتلاحقة في السويداء وشرق الفرات الحصة الكبيرة من النقاشات. مصالح أنقرة وموسكو تستدعي التنسيق السريع على الجبهتين بهدف الوصول إلى مواقف متقاربة في مواجهة اللاعب الأميركي الذي يريد تسجيل بعض النقاط على حساب بقية الأطراف المؤثرة هناك. ثمن التفاهمات التركية الروسية الجديدة قد يدفعه بشار الأسد على ضوء التصريحات الموجعة لأردوغان ورده وهو يعود من لقائه مع نظيره الروسي، على رسائل الأسد التي أطلقها وكررها في الأسابيع الأخيرة حول رفضه الاجتماع بأردوغان قبل الوصول إلى تفاهمات تنهي الوجود العسكري التركي في شمال سوريا. أردوغان يقول بدوره هذه المرة “سنواصل الحوارات السياسية والأمنية أمام الطاولة الرباعية التي أعدتها موسكو، لكن لقاء بشار الأسد ليس بين أولويات أنقرة. هو لا مكان له في بناء سوريا الجديدة”.
لم تحل موسكو قبل أسابيع دون تصريحات الأسد باتجاه أردوغان حتى لا نقول إنها هي التي شجعته. فكان لا بد من الرد من قبل أردوغان. حتى ولو جاء الجواب متأخرا بعض الشيء بانتظار أن يسمع أردوغان ما سيقوله بوتين. هناك ثمن قدم نتيجة الليونة التركية باتجاه مواصلة طاولة الحوار الرباعي. وهو سيكون بالتأكيد أبعد من مسألة تخلي بوتين التدريجي عن فكرة جمع أردوغان والأسد أمام طاولة روسية. بعض الوقت ونعرف كيف ستتشكل التحالفات المحلية والإقليمية الجديدة في سوريا على ضوء الحراك على أكثر من جبهة.
قرار أردوغان الردّ على الأسد سيعني الردّ على بوتين أيضاً. لذلك كان لا بد من سماع ما سيقوله نظيره الروسي حول مواقف رأس النظام الأخيرة حيال الوجود التركي في شمال سوريا. ولذلك أيضا تخلى الرئيس التركي عن الرهان على أنّ بشار الأسد سيتصرّف بشكل “أكثر عقلانية” كما ألمح وزير دفاعه يشار غولار، وأعاد الأمور إلى ما قاله هو قبل 6 سنوات حول بشار الأسد.
نجحت أنقرة في تحييد علاقاتها الثنائية ومصالحها المشتركة مع موسكو رغم كل الصعاب والعراقيل الغربية تحديدا. العقود والاتفاقيات الاقتصادية وخطط الاستثمار المشترك بين البلدين والتمسك بالتنسيق الإقليمي في ملفات الطاقة ونقلها عبر تركيا، إلى جانب التفاهم المبدئي على تفعيل مشروع بناء محطة توليد للطاقة الذرية في مدينة “سينوب” المطلة على البحر الأسود، من قبل الروس بعد محطة “أق قويو” في مرسين المطلة على البحر الأبيض المتوسط.
مؤشرات جديدة على تمسك أردوغان وبوتين بأساليبهما الواقعية والعملية والتفاوض حتى النهاية. تعزيز العلاقات الثنائية بشقها التجاري والسياحي والإنمائي جاء سريعا ومتعدد الجوانب والأهداف كالعادة. الشعار المرفوع تركيا وروسيا في هذه الآونة هو نتفاهم حول الممكن والمعقول ثنائيا والتهدئة في الملفات الإقليمية المعقدة والمتشابكة قدر الإمكان.
لم يحضر بوتين انا أذهب لم لا؟
روسيا كانت في طليعة الدول التي سارعت للوقوف بكل طاقاتها إلى جانب الأتراك خلال كارثة الزلزال في شباط المنصرم.
70 مليار دولار حجم التبادل التجاري التركي الروسي في العام المنصرم.
ثلاثة ملايين ونصف مليون سائح روسي في تركيا خلال 7 أشهر فقط. هذا إلى جانب العرض الروسي الدائم بتحويل تركيا إلى مخزن للطاقة الإقليمية وممر عبور استراتيجي لهذه المادة الحيوية كما يردد بوتين. فلم تفرط تركيا بهذه الأرقام لمجرد إرضاء البعض في الغرب الذي ما زال يدرس ما يمكن فعله لمساعدة تركيا على الخروج من أزماتها الاقتصادية؟
صحيح أنه لم يعد هناك معنى لتعداد القمم والاتصالات الرفيعة المستوى بين القيادات التركية والروسية. وصحيح أيضا أنه لا فائدة في مقارنتها بعدد ومحتوى القمم التركية الغربية. وصحيح كذلك أن بعض الأقلام التركية المقربة من الحزب الحاكم تبالغ في تصوير مسار العلاقات التركية الروسية، وأن حماس البعض يصل إلى درجة الحديث عن نظام عالمي جديد يتشكل في قمة أردوغان وبوتين في سوتشي. لكن إدارة الرئيس جو بايدن لا تريد أن “ترفع العشرة” لصالح بوتين وتمركزه في قلب المعادلات السياسية والاقتصادية التركية الروسية. تقتنص واشنطن الفرص السانحة في توتر العلاقات التركية الروسية وتحاول صب الزيت فوق نارها وتأجيجها. كل طرف يعرف جيدا مدى حاجته للطرف الآخر في هذه المرحلة فهل يعود أردوغان من لقاءاته المرتقبة مع القيادات الغربية على خط نيودلهي – نيويورك بما يفعل التفاهمات الأخيرة على خط موسكو – أنقرة؟
يغازل بوتين الأتراك في قبرص وفي عروض الطاقة المغرية وملفات تجارية وسياحية واستثمارية تعول عليها أنقرة في هذه الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها. يقترح الرئيس الروسي على نظيره التركي أن يتم التركيز على جهود تحسين العلاقات الثنائية وترك المسائل التي تعنيهما في العلاقات مع الغرب جانبا. “نحن نقدر ما تقومون به على خط الوساطة بين موسكو وكييف، لكننا لا نثق بالغرب. جهودكم نجحت في صناعة العديد من الوثائق والعروض والحلول، لكن كييف رمتها في سلة المهملات”. فهل يعطيه أردوغان ما يريد أم أن ما يريده بوتين في الأساس هو أن يواصل الرئيس التركي جهود حماية السلم الإقليمي وتسهيل التوصل إلى حلول سياسية وقانونية وتقنية ترضي الأطراف في القرم كما يقول.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا