روزا ياسين حسن روائية سورية متميزة، قرأت اغلب انتاجها الروائي. تعتمد الكاتبة لغة المتكلم في السرد في رواية بين حبال الماء، وذلك على لسان بطلها تموز ذلك الشاب الذي يتحدث عن حياته في أبو ظبي احدى الامارات العربية المتحدة. حيث يعمل هناك في إحدى مطاعم الهمبرغر…
تموز ابن احدى قرى الساحل السوري، والده ووالدته توفيا وهو صغير بحادث سيارة في أحد الوديان على طريق قريتهم. عاش حياته تحت رعاية جده الذي زرع في روحه عشق السينما. حيث كان يحدثه عن أيام شبابه وكيف كان يعيش في بيروت وماذا شاهد فيها وعن السينما في العقود السابقة أيام حضور الفيلم المصري المتألق وأفلام الأبيض والأسود كما كان يأخذه في كل أسبوع لمشاهدة السينما في المدينة المجاورة لقريته. لذلك صارت حياة تموز ممتلئة بهوى أن يصبح سينمائيا وان يكون له أفلامه الخاصة التي يصنعها…
كبر تموز وعندما أصبح في سن النضج قرر أن يعمل ليؤمن مبلغا من المال يساعده للوصول الى كوبا ليدرس هناك الإخراج السينمائي. هو من بيئة فقيرة، والحل أن يذهب إلى إحدى دول الخليج ليجمع ما يحتاج من مال ليذهب بعد ذلك الى كوبا ويتابع حلمه …
عمل في أبو ظبي في أحد مطاعم الهمبرغر. عمل مضني ومتعب ومعاشه متواضع. يضاف اليه غلاء المعيشة هناك. مضت على عيشه هناك سنوات ولم يستطع أن يجمع المبلغ المطلوب. لم يعد له أي علاقة مع موضوع السينما سوى شراءه كمبيوتر وأقراص لافلام مزورة رخيصة الثمن يتابعها في لياليه بعد عودته من العمل المجهد. كان ينام بسبب تعبه قبل أن يتم مشاهدة الفيلم…
تموز لم يخفي حلمه السينمائي عمّن تعرف عليهم من القادمين إلى أرض المال مثله. اقترح عليه أحدهم أن يترك العمل في مطعم الهمبرجر ويبحث عن فرصة عمل افضل. وهكذا حصل . لقد وجد تموز عملا في شركة لبيع الأجهزة الإلكترونية، لقد نجح في عمله الذي استغرقه بالكامل. كان تموز رجلا ممتلئا بذاته وغرائزه منذ مراهقته. وحتى أيام كان يعمل في مطعم الهمبرجر فقد تعرف على كثير من الفتيات اللواتي جئن مثله ليحصلن على المال السهل واكلتهم هذه البلاد. كذلك عندما عمل في الشركة الجديدة. و توفر لديه المال أكثر صار يذهب الى البارات ويتناول المشروبات الروحية ويصرف دون خوف من فاقة أو قلّة …
لم يترك تموز حلمه بدراسة الإخراج السينمائي لينتج أفلامه الخاصة. كبر حلمه واصبح يفكر بالدراسة في لندن لقد أقلع عن التفكير بالذهاب الى كوبا. وصار يقتني نسخ سيديات الافلام الاصلية. ويشاهدها احيانا. وأصبح يعاشر الفتيات الغاليات الثمن اللواتي يلتقطهنّ من البارات التي أصبح يرتادها يوميا. كان يحب ان يستمع لحكايا هؤلاء الفتيات اللواتي امتهن الدعارة، لكل واحدة حكايتها، من كل بلاد العالم جئن الى هناك ليحصلن على المال السهل والعودة لبناء حياة أفضل في بلادهم. هكذا ادّعين.
كانت مفاجأته الأكبر عندما ذهب مع صديقه الى سوق الدعارة الرخيص. وعلم حقيقة حال الفتيات اللواتي يبعن أجسادهن بأبخس الاثمان. وانهن ضحايا عمليات احتيال من شركات جلب العمالة في بلدانهم. حيث يحضرهنّ بشروط قاسية ويعاملونهنّ كعبيد في الدعارة مجبرين لسنوات دون رضا منهنّ وبعد انتهاء عقودهن يعدن إلى بلدانهم موصومات يلحقهنّ العار ودون اي مردود مادي… كان ذلك مفاجئا لتموز، لكنه كان طبيعيا في تلك البلاد. حيث الكل يلهث للحصول على المال والمتع وكلها على حساب الآخرين .
غرق تموز في عمله الجديد وفي صعوده السريع وزيادة وارده المالي. دخل في سلسلة الطموحات التي تصاحب امتلاك الثروة. السهر والصرف واقتناء السيارات وتغيير السكن وشراء الحاجيات من الماركات العالمية الغالية. كان يلهث وراء كل ذلك. ويبتعد عن حلمه السينمائي ، كان يؤجل دوما. كبرت ثقته بنفسه وزاد تهتكه يسهر الليل ينام النهار يهمل عمله. هددوه بالفصل من عمله لأنه فشل في إبرام صفقات كبيرة تعود عليه وعلى الشركة بالفائدة. لم يرتدع حتى فُصل من العمل. لكنه بقي تحت رعاية بعض أصدقائه الذين تعامل معهم ايام عزه وغناه…
استعاد حلمه وعلم أن سنوات كثيرة مرت وهو مازال يعيش في ذات الواقع حيث توفي جده الذي كان سنده الروحي. وحصل الربيع السوري وانتمى إليه تموز وقرر ان يعود الى سوريا فهاهي المادة الاولية لأفلامه تصنعها له ظروف الحياة. إن في بلاده ثورة…
عاد تموز بعد مضي سنة على الثورة السورية. وصل الى هناك التقى بصديق عمره الذي كان قد تعرف عليه منذ أيام الجامعة. وعملا سوية في المتابعات الإعلامية للثورة. كان تموز قد أحضر معه ما تبقى معه من مال وكمرة ديجيتال وبدأ يوثق لكل ما عايشه بعد عودته. ذهب الى حماة وحمص وريف دمشق واغلب البلاد التي ثارت. لقد واجه النظام الثوار السلميين بالسلاح والقتل والاعتقال. وبدأ في حملات عسكرية على البلدات الثائرة. وانهمرت القذائف والصواريخ والبراميل المتفجرة على الناس في كل المناطق الثائرة. لقد وثّق تموز لجهنم حقيقية يعيشها الناس في سوريا تحت رعاية النظام. البلاد المنقسمة و القناص القاتل والطيران الذي لا يرحم. نجى تموز بأعجوبة من الموت جراء سقوط برميل متفجر حيث هم مع صديقه. لكن صديقه قتل جراء القصف. ولم يكن أمام تموز إلا أن يختار طريق الهروب من الموت واللجوء الى تركيا ومن ثم أوروبا حيث لم يبقى له أي مبرر للاستمرار في سوريا حيث الموت والقتل واستباحة الحياة من النظام وحلفائه…
بدأ تموز رحلة اللجوء باتجاه الشمال السوري ومن هناك إلى تركيا. التقى بالمهرب وآخرين، لقد أصبحوا في رحلة لجوئهم تحت رحمة المجموعات المسلحة المنسوبة للثورة المهيمنة على الأرض كانت النصرة وأحرار الشام حاضرين. وهو تموز ومعه جندي منشق يخفي حقيقة انتمائه الطائفي فهو خائن عند النظام وعند اهله و مشكوك في ولائه للثورة عند بعض الجماعات المسلحة. كذلك حال تموز.. تم توقيفهم عند أحد حواجز هذه الجماعات. اتلفا هويتهما. حققوا معهم و وضعوهم في معتقلات اخف وطأة من معتقلات النظام. وبعد أيام أخلوا سبيلهم. واستمروا في رحلة اللجوء والهروب. عند الحدود السورية التركية أطلق عليهم حرس الحدود النار مات البعض ومنهم ذلك الجندي المنشق ونجى تموز…
من تركيا تواصل مع مهرب حتى يساعده للوصول إلى اليونان ومنها إلى أوروبا جنة الاحلام. تموز يحمل كاميرته الممتلئة بما وثّق خلال الفترة السابقة في سوريا. ما زال يحلم ان يكون لديه أفلامه الوثائقية التي تقول ماذا حصل في سوريا.
ركبوا القارب الذي احضره المهرب كانوا مئات والقارب يتسع لخمسين راكب. تموز يتقن السباحة. في القارب نساء وأطفال وعائلات. يحمل تموز كنوزه. غامر مع الآخرين في رحلة عبور بحر الموت من تركيا لليونان. هاجمهم خفر السواحل. وحاول اعادتهم لكنهم لم يعودوا. استمروا وهاج البحر وانقلب القارب وغرق أغلب من كان فيه. تعلقت امرأة تحمل طفلها به. وهو حاول التملص منها لكي لا يغرق معها. ولم تتخلى عنه. وأدى ذلك لسقوط كل ما كان يحمله كمرته وأغراضه الى قاع البحر. واستطاع أن ينتشل نفسه منها في اللحظة الاخيرة. ماتت وطفلها وهو تم إنقاذه ولكنه كان قد فقد كل شيء ولديه إحساس بالعار أنه لم ينقذ المرأة وطفلها. بل قد يكون سبب قتلهما. لذلك قرر تموز أن ينهي حياته منتحرا بشنق نفسه حيث كان يحتجز في اليونان. وفي اللحظة الاخيرة عاد إليه خيال جده واحلامه وان في الحياة ما يستحق أن تعاش ولم يفرط بروحه وقرر ان يستمر ملاحقا حلمه متجاوزا كل ما حصل معه.
هنا تنتهي الرواية:
في التعقيب عليها اقول:
هاهي روزا ياسين حسن تعود إلينا في روايتها بين حبال الماء وضمن بنية الرواية الأدبية وتطوراتها والحيوات التي تابعتها فيها لتسلط الضوء على عدة قضايا:
الهوى السينمائي في سياق الرواية حيث قرنت الكاتبة بين اغلب الحوادث الحياتية التي مرت على تموز بطلها مع افلام تعد بالعشرات كانت تستحضر في سياق الرواية وهذا بحد ذاته انجاز متميز غير أنه تعبير عن جهد في التقصي والبحث.
كذلك متابعة واقع الحال في بلادنا سوريا ولبنان في العقود السابقة ولو بشكل غير مباشر ولكن كان الأرض التي نبتت عليها الرواية وأحداثها.
كذلك الحديث عن الخليج العربي بصفته مركزا ماليا استثماريا لامعا من خارجه. لكنه بالعمق هو عبارة عن آلة تمتص حيوات العاملين فيها. وكيف يتحول كل شيء هناك الى سوق رقيق وإشباع رغبات والبحث عن الثروة والغرق في الملذات وعيش اللحظة كجزء من تيار جارف يأخذ الكل في مجراه وهوسه وأوهامه.
كما تحدثت الرواية عن الثورة السورية بأحد تبعياتها. فعل النظام واعتقال وقتل الناس وتدمير
بلداتهم وهروبهم للنجاة بأرواحهم. والمرور على تبعات ذلك من توالد الجماعات المسلحة التي تدعي أنها اسلامية مثل جبهة النصرة وغيرها. وكيف عاش الناس المأساة مرتين تحت سلطة النظام وتحت سلطة هؤلاء…
كما تتحدث الرواية عن اللجوء وما يحصل به من مآسي. ليس أقلها الموت او الاصابة او الغرق في البحر والعودة عند من ينجو الى نقطة الصفر المطلق لبناء حياة جديدة من العدم…
ماذا بعد…
هل أراد النظام العالمي والنظام وداعميه أن يقول لنا ان من يريد الحرية والعدالة والديمقراطية في سوريا وبلاد العرب هذا هو مصيره…حتى نعتبر…هل نعتبر ام نصرّ على ثورتنا…؟!!.