داخل الكرملين خلال حرب أكتوبر وما بعدها

في إبريل من العام 1987، قام الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد بآخر زيارة له إلى الاتحاد السوفييتي قبل تفككه.ولمّا كنتُ عضواً  في «الكوليغيوم» (مجلس وزارة الخارجية المسؤول عن صنع قراراتها)،فقد كان عليّ المساهمة مع زملائي في إعداد وثائق الزيارة وترتيباتها ومحاضرها من طرفنا، ما مكنني من الاطلاع على ما دار خلال الزيارة التي كانت غايتها، من جانب الأسد، استطلاعَ المناخات السياسية الجديدة في موسكو في ضوء «البيريسترويكا» والغلاسنوست»، والعملَ على إبرام صفقة سلاح جديدة إذا أمكنه ذلك. أما النقطتان الأساسيتان على جدول أعمال الطرف السوفييتي فكانتا شرْحَ التطورات والسياسة الجديدة في الاتحاد السوفييتي و«نهاية الحرب الباردة»،وبحثَ موضوع الديون المترتبة على سوريا، وهي في أغلبها ديون عسكرية قاربت في حينه أو تجاوزت 13 مليار دولار. وكانت تعادل تقريباً خمْس الديون السوفييتية المترتبة على البلدان العربية والعالم ثلاثية الأخرى التي كانت تتلقى مساعدات تقنية وتعليمية وعسكرية من الاتحاد السوفييتي.

      خلال اللقاء مع غورباتشوف، تحدث الأسد-فيما بدا أنه إطلاقُ بالون اختبار لمعرفة ردّ فعل مضيفه ونهجه الجديد في السياسة الخارجية-عن «التوازن الاستراتيجي» الذي تنوي بلادُه بمفردها إقامتَه مع إسرائيل بعد أن أصبحتْ وحدها في جبهة المواجهة معها، وبعد أن خرجت مصر من الصف العربي وألقت بنفسها في الخندق الأميركي، كما قال وأسهب في الشرح، بينما كان مرافقُه، عضو قيادة الحزب الشيوعي السوري دانيال نعمة، يسعفه ويذكّره بين حين وآخر ببعض الأرقام أو التواريخ والوقائع. وتحدث في هذا الإطار عن حاجة بلاده إلى شحنات جديدة من السلاح، ومن بينها صواريخ دفاع جوي من طراز S300 وطائرات ودبابات حديثة تستطيع  إحداث توازن مع إسرائيل. لكنه تجنب في الآن نفسه الحديث عن كيفية تمكنه من تسديد ثمن هذه الشحنات أو عن الديون السورية المترتبة لموسكو، رغم أن هذه الأخيرة كانت أعلنت أكثر من مرة بلسان عدد من مسؤوليها، ومن بينهم غورباتشوف نفسه، وبما معناه، أن «الجمعية الخيرية» التي افتتحتها موسكو طوال عشرات السنين أغلقت أبوابها الآن، وهي تعمل على تحصيل ديونها وإغلاق دفاتر حسابتها القديمة مع أصدقائها، وأن السياسة الجديدة تقوم على قواعد السوق والعلاقات التجارية المتكافئة، وليس على أساس سياسي أو أيديولوجي كما كان عليه الأمر سابقاً. وبعد أن أنهى الأسد حديثه، كانت صدْمتُه هائلة إلى حد امتقاع وجهه واصفراره حين تناول غورباتشوف من أحد مساعديه الحاضرين قوائمَ مفصلة وموثقة وراح يقرأ فيها تفاصيلَ عن مشتريات الدولة السورية من السلع الكمالية الفاخرة خلال السنوات الأخيرة رغم الأزمة الاقتصادية الخانقة التي كانت تعيشها بلاده، والتي عبّرتْ عن نفسها بطوابير السوريين المنتظرين أمام التعاونيات الاستهلاكية بحثاً عن زجاجة زيت طبخ أو علبة شاي أو سكر أو أرزّ.وكان من بين تلك المشتريات-وفق القوائم-أعداد هائلة من سيارات «مرسيدس» الألمانية و«بيجو» الفرنسية و«فولفو» السويدية، فضلاً عن «رينج روفر»

الإنكليزية «هيونداي/كيا» الكورية الجنوبية، وكلها من طرازات حديثة بالكاد كان اقتناها حتى مواطنو البلدان المصنّعة لها.كما تحدث -بالأرقام والتواريخ-عن حجم المشتريات السورية الأخرى من أرقى وأحدث ما أنتجته المصانع الغربية واليابانية من السلع الإلكترونية الفاخرة، التي لا يستطيع اقتناءَها إلا كبار أعضاء الجهاز البيروقراطي المدني والعسكري في سوريا. وشملت القوائم حتى الأثاث الأوربي الفاخر والرخام الإيطالي ومواد البناء الأخرى ذات النوعية الخاصة جداً التي كانت تُستخدم حصراً في بناء وتأثيث قصور وفيلاّت المسؤولين المدنيين والعسكريين السوريين من نخبة النظام. وبعد أن انتهى غورباتشوف من مطالعته الوثائق/ العقود التي بين يديه، والتي كانت أعدتها وزارة الخارجية السوفييتية و عدد من سفاراتها المعنية بالأمر، فضلاً عن لجنة أمن الدولة KGB، توجه إلى ضيفه بالقول:

«سيادة الرئيس! لا أعرف كيف يمكن الحكومة السورية أن تشتري هذه الكميات الهائلة من السلع الكمالية التي لا لزوم لها لبلد هو في حالة حرب وينوي إقامة توازن استراتيجي مع العدو الذي يحتل أرضه، وأن تدفعَ ثمنها مئات ملايين الدولارات نقداً بالعملات الصعبة، بينما شعبُها يعاني ضائقة خانقة حتى في مستلزمات العيش اليومية، وتريد هي-في الآن نفسه-الحصول على السلاح اللازم للتوازن الاستراتيجي بالدَّين!؟لقد استطاع الفيتناميون أن يقيموا توازناً استراتيجياً مع الولايات المتحدة نفسها، ثم أن يهزموها وهم أشباه حفاة ولا يجدون ما يأكلونه سوى الأرزّ المنقوع بالماء، ودون أن يكون لديهم أي نوع من السلاح الحديث الذي حصلت عليه سوريا. وأستطيع الجزم بأنه ما من أحد من قادتهم ركب حتى سلالات قديمة من طرازات هذه السيارات، أو حتى شاهدها في حياته كلها إلا في المجلات والأفلام الأجنبية أو خلال مفاوضاتهم مع أعدائهم في العواصم الأوربية. ففي هانوي كلها لم يكن يوجد- وفق معلوماتي الدقيقة- أكثر من عشر سيارات حكومية مطلع السبعينيات»!

   وأضاف غورباتشوف متسائلاً باستنكار، وبنبرة منكسرة ملؤها الألم، الحقيقي أو المصطنع، بينما كان ضيفه ينظر مطرقاً إلى الأرض وهو يستمع إلى المترجم:

  «ألا يمكن الضباطَ والمسؤولين السوريين أن يركبوا سيارة Lada أو Volga أو Moskvitch الروسية التي يركبها أعضاء المكتب السياسي وكبار قادة الجيش والوزراء عندنا، بدلاً من المرسيدس والبيجو؟هل من العدل والإنصاف في شيء، خصوصاً في العلاقات الأخوية بين صديقين، أن يقوم أحدُهما بشراء السلاح من صديقه بالدَّين، بينما يدفع الدولارات لخصوم صديقه من أجل سلع استهلاكية لا ضرورة لها؟ أوَ ليسَ العمالُ السوفييت، الذين اضطررنا مؤخراً لأن ندفع مرتباتهم في بعض المصانع على شكل زجاجات فودكا بدلاً من الروبل، أحقّ بهذه الدولارات من أصحاب الشركات الإمبريالية التي تدعم عدوكم إسرائيل؟».

    وبعد أن ختمَ تساؤله التفت إلى المترجم، وكان من أصول داغستانية مسلمة ومتخرجاً في معهد الاستشراق في موسكو ويجيد العربية بطلاقة، طالباً منه أن يذكّره بتلك الآية القرآنية الاستنكارية التوبيخية التي تتحدث عن القسمة الجائرة التي اختارها أعداء النبي محمد فيما يتعلق بالإناث والذكور، لكي يوحي لضيفه بأن توزيع علاقات سوريا الاقتصادية والعسكرية على هذا النحو الجائر بين الاتحاد السوفييتي والغرب لا يشبه شيئاً سوى منطق وسلوك «كفار مكة»![يقصد الكاتب الآيتين 21 و 22 من سورة «النجم»:«ألكم الذكر وله الأنثى، تلك إذاً قِسمةٌ ضِيزى» ـ المترجم].

   لا أعتقد أن الأسد تعرّض في حياته إلى «دش ماء بارد» وموقف صادم من هذا النوع، سواء في علاقاته مع الاتحاد السوفييتي أو غيره، خصوصاً حين جرت مقارنةُ سلوكِه – وهو المسلم المؤمن- بسلوك «كفار مكة»!وأياً كان موقفي من غورباتشوف ودوره التخريبي في تدمير بلادنا وحصول الكارثة الاستراتيجية التي تحدثت عنها أعلاه، وعلى الرغم من أن قصته المثيرة مع جورج بوش الأب كانت -كما أرجّح- أحدَ أسباب إرغامي على تقديم استقالتي من قبل صديقه وزير الخارجية إدوارد شيفاردنادزه بعد ثلاث سنوات على ذلك(8)،فإنه ليس بإمكاني أن أقول سوى أنه كان ينطق بلسان الأغلبية الساحقة من المواطنين السوفييت، بمن فيهم أنا وزملائي، في كل ما قاله لضيفه السوري. والغريب أن الأسد، وفور عودته إلى بلاده، عمل على تسريب أنباء كاذبة إلى الصحافة العربية والأجنبية مفادها أن غورباتشوف وافق على تزويد سوريا بما طلبَه من السلاح، بما في ذلك الصواريخ والطائرات المشار إليها، على الرغم من أن غورباتشوف، وعلى العكس من ذلك تماماً، كان نصحه بالاقتناع بأنه «لم يعد بإمكانه الاعتماد على الاتحاد السوفييتي كما من قبل، وبأن يزيل وهْمَ التوازن الاستراتيجي مع إسرائيل من تفكيره نهائياً إلا إذا كان يريد الاعتماد في تحقيق ذلك على مقدرات بلده وشعبه وحدهما، وهذا يقتضي منه إجراءَ إصلاحاتٍ سياسية واقتصادية جذرية تُشعِر المواطنَ السوري بأنه شريك في كل شيء في وطنه، وأن جهده يذهب فعلاً إلى خزائن الدولة وتعبئة الموارد من أجل التحرير، كما فعلنا نحن خلال الحرب الوطنية العظمى في مواجهة الغزو النازي وكما فعل الفيتناميون وغيرهم؛ وليس إلى حفنة من المتنفذين والفاسدين»!ومع ذلك، ورغم موقفه الذي بدا قاسياً وغير ديبلوماسي نهائياً مع الأسد، ومن أجل الحقيقة والتاريخ، وافق غورباتشوف على إعادة جدولة الديون العسكرية السورية، المتراكم بعضُها منذ السبعينيات، وتسديدها على شكل بضائع من منتجات معامل الغزل والنسيج السورية.وفي مرحلة لاحقة جرى إسقاط سبعين بالمئة من الديون المتبقية كلياً، وتحويل نسبة الثلاثين بالمئة الباقية إلى استثمارات روسية في سوريا. وسيقول لي لاحقاً زميلٌ خبير في العلاقات الاقتصادية والمالية الخارجية شارك من جانبنا في المباحثات مع الوفد الذي رافق الأسد «إن أحد الأسباب الأساسية المسؤولة عن الأزمة الاقتصادية الخانقة التي وصلها الاتحاد السوفييتي ومعظم بلدان أوروبا الشرقية خلال السنوات العشرين الأخيرة، أو ما يسمى عهد الركود البريجينيفي، هي المساعدات شبه المجانية التي قدمناها لدول مثل سوريا، وإن قيمة الديون المترتبة لنا على هذه البلدان، إذا ما احتسبنا بالأسعار الثابتة وبمعايير السوق الرأسمالية العالمية، ستبلغ أكثر من ثلاثمئة مليار دولار بقليل، وهي أكثر من كافية لانتشال الاتحاد السوفييتي من أزمته»،أي الأزمة التي قصمت ظهر البعير- كما يقول التقليد العربي- بعد ثلاث سنوات على زيارة الأسد، وأدت إلى تفككه وانحلاله! أما المفارقة في الأمر، التي تشبه الكوميديا السوداء، فهي أن ديون الاتحاد السوفييتي المستحقة لدول أخرى وصناديق دولية، لم تكن تتجاوز المئة مليار دولار بعد ثلاث سنوات على زيارة الأسد، أي أقل من ثلث ديونه المستحَقّة على دول «عصابات المافيات الاشتراكية»، كسوريا والعراق ومصر والجزائر وأمثالها!

ــــــــــــــ

المصدر:ـ مقتطف من مقدمة فيكتور إسرائيليان لكتابه ” داخل الكرملين خلال حرب أكتوبر وما بعدها ـ محاضر و وثائق سوفييتية وألمانية شرقية تنشر للمرة الأولى، لندن 2021 ، ص 57 -61 .

جورج فاضل متى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى