عن مؤسسة ميسلون صدرت رواية منذر بدر حلوم قمصان زكريا. وكنا قرأنا روايته السابقة كأن شيئا لا يحدث وكتبنا عنها.
يعتمد منذر بد حلوم السرد في رواية قمصان على لسان الراوي وتبدأ من الحديث عن حياة وحال د. زيدون الطبيب النفسي الذي كان دكتورا يدرّس في الجامعة وتم ابعاده لكونه معارض للنظام وقائده “عوف” ورغم ذلك بقي على موقفه المعارض للنظام. فتم استدعاء اخته سلافة للأمن ايضا ولم نعرف بالضبط ماذا فعلوا لها، تعذيب او تهديد او انتهاك جسدي، المهم لم تمض أيام على خروجها من معتقلهم حتى ماتت…
لا تاريخ محدد لبداية الحدث الروائي في الرواية لكنه يظهر أنه في عصر الأسد لكون شخصيات الرواية تتحدث عن حكم البلاد من عوف وزمرته لعقود . هذا كما أن شخصيات الرواية الاساسية هم من الفئة الاجتماعية التي ينتمي إليها “عوف” الأسد الأب : العلويين . لأنهم يتحدثون من خلفيات اعتقادية ليست متواجدة الا عند العلويين والدروز في سوريا، نقصد التقمص. ويضاف لها اعتقاد آخر بألوهية “عوف” الأسد الذي يسكن القمر. كما هو متواجد على الأرض يحكم سوريا بالحديد والنار. صوره وتماثيله تملأ جدران سوريا وساحاتها وشوارعها. كذلك هو ساكن القمر…
لم يستسلم د زيدون للنظام وضغوطه بعد موت أخته قهرا وبعد طرده من السلك التعليمي افتتح عيادة للعلاج النفسي واستمر يلتقي سرا بالمعارضين للنظام ويتداول معهم في شؤون البلاد وماذا يستطيعون فعله…؟.
والنظام لم يتوقف في اختراق الحياة الشخصية لزيدون فبعث فتاة ادّعت أنها تريد الاستفادة من مكتبة زيدون لتصل الى تلفونه وتحصل على صور ومعلومات تسيء له . الفتاة كانت قد استدرجت من احد عناصر الامن وهددت بصور وفيديوهات جنسية حتى تقوم بالتجسس على زيدون، وزيادة على ذلك أصبح هذا العنصر يستغل الفتاة جنسيا ولفترة طويلة. وبعد موت سلافة اخت زيدون جراء اعتقالها. عاد للفتاة ضميرها وحدثت زيدون بالذي حصل معها. سامحها وشجعها تسترد كرامتها واستدرجت العنصر وقامت بقطع عضوه الذكري… وأصبحت الفتاة بعد ذلك جزء من شبكة علاقات زيدون الذين يرفضون ظلم عوف ويبحثون عن خلاص. احبت احدهم واحبها…
كما ينتقم تلميذ زيدون وهو ابن الضابط المسؤول الأمني في أحد الفروع الذي يعرف ظلم أبيه بحق سلافة وأمثالها بتدمير بيته وحرق اشجاره في مزرعته الكبيرة في القرية. كحل شخصي لمشكلة عامة ويهرب الى الخارج خوفا من سطوة أبيه وانتقامه.
زكريا صديق زيدون الأقرب والذي بقي على تواصل دائم معه. زكريا يؤمن بالتقمص وبأن الروح في الإنسان بعد موت الجسد تنتقل الى جسد جديد قد ولد حديثا. وذلك لسبعة أدوار. وهذا المعتقد منتشر كثيرا وسط الطائفة. يعتقد زكريا أنه عاش حياة سابقة وأنه يسترجعها دائما. يتحدث عنها مع صديقه زيدون. لكن زيدون لم يكن يعتقد بذلك وأنه من أنصار الفهم العلمي لكل قضايا الحياة، وأن التقمص معتقد يحتاج لأدلة على صحته. ومع ذلك كان يستمع لصديقه زكريا يتحدث عن حياته السابقة…
في الرواية مسار مجتمعي حصل سابقا وله انعكاساته على حياة الناس حيث يعيش زيدون وزكريا والاخرين. أنه السد الذي تم بناؤه في مناطق هؤلاء الناس، والذي لم يبنى بشكل غير مدروس فنيا. هذا غير القرى التي تم ابعاد أهلها منها حيث تم غمرها بماء السد والضرر الذي انعكس عليهم. وليس امامهم الا قبول المفروض عليهم من عوف ونظامه. وبعد سنوات وبسبب سوء بناء السد وزيادة المطر وسوء التصريف حصل انهيار السد ، اعتقد انه سد زيزون الذي بني وانهار في عصر الأسد، وهذا لم يذكر في الرواية. المهم كان لانهيار السد نتائج كارثية على من كان يعيش في وادي السد وسقط الكثير من الضحايا وعائلات بكاملها…
في رحلة زكريا للبحث عن حياته السابقة تعب كثيرا في تقصي اخبار حبيبته مريم واغلب الناس حولها قبل انهيار السد. لقد تابع بمواظبة دائبة البحث عن أي أثر لمريم ومن حولها .
لقد تعايش زكريا مع حياتين بشكل شبه كامل. عالم الأموات حيث كان يتواصل مع الأرواح التي عاشت في زمنه السابق وتابع قصصهم وما حصل معهم ، بحث عن مريم حبيبته السابقة والتقط طرف خيط عن احتمالية استمرارها بالعيش للآن وهذا يعني اصبحت في سن الشيخوخة. بالطبع كان لزكريا حبيبات كثيرات في حياته الحالية وهو يبحث عن حبه السابق جمانة التي احبته والتي تعلقت به وساعدته للوصول الى مريم وهي على فراش الموت، وكذلك ميا الاخرى التي تؤمن بالتقمص وبأن للإنسان حيوات سابقة وقادمة وأنها هي أيضا تعيش ذلك…
وصل زكريا اخيرا الى حبيبته في حياته السابقة مريم وتعرفت عليه وتذكرى سوية حياتهم السابقة وتوفيت في اليوم التالي. شارك في دفنها وعزائها. وعاد لحياته الحالية تتنازعه فتاتان تحبانه جمانه و ميا و تتصارعان عليه. جمانة تحبه ولكي لا تخسره لصالح ميا… قتلته… لم نعرف كيف.. هنا تنتهي حياة زكريا الثانية ليعود دوره بالتجدد بين الأموات في تتمة احداث الرواية….
التداخل بين حياة الأحياء والأموات ومتابعة العيش معهم كان سهلا عند زكريا وآخرين . فقد التقى في عالم الأموات مع عائلة كاملة كانت قد غرقت في انهيار السد وكيف توافقت هذه الأرواح التي تآلفت مع زكريا واتفقت معه على العمل للانتقام من بعض الجنرالات الذين كان لهم دور في خراب السد وانهياره وموتهم مع من ماتوا. تجمعوا مع زكريا وزيدون حيث دخلوا الى نادي الضباط في المدينة احياء وارواح اموات وخططوا للقضاء على الجنرال اياه، ذي الميول الجنسية المثلية، وزوج حبيبة زيدون السابقة…
كما تابع الكاتب واقع انتقال الكثير من أبناء الطائفة للعيش في عشوائيات احياء العسكر على أطراف المدن حيث كان اغلب شبابهم قد التحقوا بالخدمة العسكرية ليكونوا في أمن وجيش عوف الأسد. وأن هذه الحياة وهذه العشوائيات جعلتهم ادوات عوف في ظلمه المجتمعي لسوريا وشعبها عبر عقود…
يعود المؤلف للتحدث عن حياة زيدون الذي عادت روح خاله عبر أحدهم وتواصل معه وحدثه عن حياته الماضية والحالية…
زيدون لم يكن يحب النساء. فقد احب إحداهن في شبابه ولم يتزوجها . اكتفى من الحياة بعيادته وعنزته التي تعيش معه. واجهه خاله بأنه يعرف أنه يعاشر عنزته جنسيا….
يموت زيدون وحيدا ليس له سوى هاتفه صاحب يبادله التفاعل ذات وتموت عنزته جواره…
تنتهي الرواية عندما تتجمع ارواح شخصيات الرواية زيدون وجده ووالده وزكريا ومريم وضحايا السد يحملون أغصان الأشجار يهاجمون الضباط ومناطق سكنهم…
انها بوادر ثورة…
في التعقيب على الرواية اقول :
إننا أمام رواية مختلفة ومتميزة سواء في موضوعها أو سردها. فهي قاربت الحديث عن الطائفة العلوية واعتقاداتهم وسلوكياتهم الدينية، رغم الموقف المعادي الواضح للدين ورجالاته في الرواية. تأليه الأسد عوف. ومامدى كون ذلك عن إيمان أم عن خوف من الأسد و مخبريه وأمنه. درجة التورية عالية جدا نحتاج للتنقيب في الرواية لنستخلص ما يريد قوله الكاتب. ومع ذلك يظهر الانقسام المجتمعي بين العلويين بين مؤيد له مستفيد منه يخدم بالجيش والامن وقد يموت لأجله ويقتل السوريين الآخرين ظلما تلبية لمطالب عوف وعصبته الامنية العسكرية. يموت الجنود منهم الذين يعيشون في عشوائيات مع الحد الأدنى لتأمين لقمة العيش. ليستفيد عوف و كبار جنرالاته اولئك الذين يسكنون رؤوس الجبال ويحمون أنفسهم من الطوفان و يستغلون خيرات البلاد لهم…
حصل انهيار السد في سوريا في زمن الأسد الأب والابن ما لا يمكن اخفاؤه أو تغطيته. مئات الاف الضحايا ومثلهم معتقلين ومغيبين وملايين مهجرين قسرا وبلاد مدمرة وحياة جحيم في سوريا على كل المستويات… كل ذلك لم يصل إليه الحدث الروائي…
استغرقت كثيرا في التداخل بين عالمي الأحياء والأموات. حلمت لو كانت حقيقة وخفت من أن تصبح حقيقة. لم نستطع ضبط حياة الأحياء لنضبط حياة الأموات… لا يغيب عن القارئ عدم اليقين بالآخرة والحساب في الرواية. فالارواح تنتقل من جسد ميت إلى جسد ولد حديثا في عمل دؤوب لأرواح لا تكل ولا ترتاح…
كما ظهرت القدرة الإبداعية عند الكاتب ففي رواية تزيد عن ٥٠٠ صفحة عوالم التداخل بين الاموات والاحياء والتقمص حاضرة كل الوقت. لقد ابدع في توصيل مدى قدرة الاعتقاد -أي اعتقاد- أن يصبح محور تفكير وسلوك أي شخصية لدرجة إمكانية اعادة فهم الحياة وتعريفها وممارستها بطريقة تكاد تناقض الواقع الحقيقي بشكل كامل. افهم ذلك واعرف ما يسمى إنكار الواقع واعادة خلق واقع آخر يعيشه صاحبه إنه إنفصام غير مدرك محبوب ومقبول ممن يصيبه…
في الختام حصلت الثورة… لا مشكلة انها حصلت من الأموات الذين هاجموا نادي الضباط وطردوا الجنرالات…
ننتظر الثورة من الأحياء كل الشعب السوري ، ولنكون دقيقين ننتظر استمرار ثورة الشعب السوري التي بدأت منذ ٢٠١١م .الذين يسقطون الاستبداد وأدواته الجيش والأمن من حياتنا ونبني دولة الحرية والعدالة والكرامة والديمقراطية. ونطرد “عوف” الأسد من وجه القمر ليسكن فيه وجه الشعب السوري الحر.