في العاشر من حزيران عام 2000 هلك الطاغية حافظ الأسد، مؤسس حكم العائلة الأسدية، ومبدع تحويل الجمهورية إلى دولة وراثية، فاتحًا شهية بعض أقرانه المستبدين العرب للاقتداء به وتوريث عروشهم لأبنائهم، الذين قضت على أحلامهم ثورات “الربيع العربي” العظيمة، ذلك كله، بعد أن تمكن هو من الإيقاع بسورية في “مملكة الصمت” الطويل والرهيب، وأنزل فيها خرابًا وفسادًا، طال الانسان والعمران، واستكمله الابن، الأسد الصغير، بتدميرها وتهجير أهلها، محاولاً تغيير بنيتها الديمغرافية، وجلب إليها كل شذاذ الآفاق، الطامعين والمحتلين من كل حدب وصوب.
العاشر من حزيران/ يونيو 2000 يوم مفصلي في تاريخ الشعب السوري، له ما قبله وما بعده، في إطار حكم العائلة على مدى نصف قرن من الزمان، هي الأسوأ في تاريخ سورية، القديم والحديث، بتفاصيلها ونتائجها، خصوصًا في العقد الأخير، بمآسيه وأحزانه، وحصاده الكارثي الذي حول السوريين إلى جياع ومشردين، ممزقين محّتلين، فهو اليوم الذي تم فيه تعديل الدستور خلال دقائق معدودات ليناسب الوريث، ويبارك له العالم تلك المهزلة غير المسبوقة، حفاظًا على مصالحه وأمن اسرائيل، التي عرف النظام كيف يضبط إيقاع سلوكه على ما هو مطلوب منه، في دور وظيفي بدأه مبكرًا، وقبل حركته التخريبية المشؤومة.
بالرغم من قتامة المشهد، والألم والمأساة التي يعيشها الشعب السوري جراء ما فعله المجرم الكوني، وريث أبيه الطاغية، فإن الأمل ما يزال كبيرًا بقرب نهاية العشرية السوداء، من مسار النصف قرن الأخير، من الاستبداد والطغيان والفساد، بعد أن تحول النظام إلى جيفة كرهها سدنتها وحاضنتها، وعلا صوتهم ضد حماقاته وتفاهاته، التي تتسم بالوضاعة والخسة، ليس إلا، وذلك أيضًا، بنتيجة الإصرار، المنقطع النظير، الذي يبديه الشعب السوري على نيل حريته، وانتزاع كرامته، التي لم تتراجع أو تضعف يومًا أو لحظة، وتتجدد كل يوم بالرغم من كل محاولات تشويهها بالإرهاب والتطرف، وإصباغها بالطائفية والمذهبية، وكل ما هو دون وطني.
إن عودة الحراك السلمي، وتجدده، بشعاراته البكر، الأولى، التي تفجرت من محافظة السويداء، وعادت لمناطق أخرى عديدة، لهو دليل قاطع على عمق إيمان السوريين بقضيتهم ووحدتهم التي هي أنقى من كل التشوهات التي ألصقت بها زورًا، وحاولت تزييفها عمدًا.
عودة الثورة السلمية بمنطلقاتها الأولى تؤكد أن العسكرة كانت خيارًا إجباريًا مؤقتًا وطارئًا في مسيرتها الطويلة، والمستمرة، وأن العودة إلى السلمية، في هذا الطور، قادرة على اجتذاب قطاعات واسعة وشرائح متعددة من جديد، من الشعب السوري، التي أفزعتها ليس العسكرة بحد ذاتها وحسب، بقدر ما هو ارتباطها بالتطيف والمذهبة التي أفقدتها روحها الوطنية الجامعة الأصيلة، وأوقعتها بشراك الدول الداعمة وأجنداتها، التي بدورها أحبطت كل حراك، سلمي أو عسكري، تحت يافطات الوطنية الجامعة.
لا يعيب التجدد الحاصل في الحراك الأخير أنه تحت وطأة أزمات مستجدة، معيشية واقتصادية ومالية، غمز لها بعض من يريدون سورية لهم وعلى مقاسهم، خصوصًا أن شعارات الحراك ذات مضامين سياسية واضحة أولها رحيل الأسد وطغمته، وفي سياق مستمر، خفت أحيانًا وسطع أحايين عديدة، تبعًا للظروف المحيطة والخاصة بكل منطقة، وفئة.
قبل عشرين سنة حين هلك الأسد الأول كان يظن أنه قد أرسى كل قواعد ديمومة حكم عائلته، لكن خاب ظنه، وأخطأ في حساباته، وفشل في رهاناته، عندما توهم أن الشعب السوري سيبقى للأبد محكومًا بالقبضة الأمنية، وتحت السيطرة، خانعًا ذليلًا، ولم يدر في ذهنه أنه بعد عشر سنوات ونيف من غيابه ستندلع سورية من أقصاها إلى أقصاها تحطم تماثيله في إطار ما عمل عليه كإله أو فرعون يعبد. واليوم شعبنا البطل والصامد يحيي ذكرى هلاكه بالتمسك، أكثر من أي وقت مضى، بزوال نظامه ورميه إلى مزابل التاريخ.
بدأ الحراك جنوبيًا وها هو يتجدد من الجنوب فتحية إكبار لكل السوريين الذين لا تزال أرواحهم، وليس فقط حناجرهم، تهتف لوحدة الشعب السوري، ولسورية الواحدة دون آل الأسد، وكل القتلة والمجرمين والمحتلين.
كلنا ثقة بأن ساعة الحسم والنصر قد دنت، وأن الشعب السوري قادر على تضميد جراحه والنهوض من جديد لإعادة بناء وطنه، ومستقبله على أسس وطنية خالصة.