نــديـــــــــم الــــبـــيـــطـــــــار : أمــــــــة فـــي رجـــــــــــــــل !

محمد خليفة

لا تستهويني الكتابة عن الموت بقدر ما تستهويني الكتابة عن الحياة , ولا أرغب في توديع الموتى بقدر ما احب استقبال الوافدين والمبدعين , وأحاول تفادي الكتابة بكثرة عن الراحلين لكي لا أعطي الانطباع عن زاويتي هذه بأنها لوحة اعلانات عن آخر الموتى ! , ولكن لا حيلة لي ولا مناص من وداع بعض من يرحلون , ممن نحبهم , ونعتبرهم أحياء يرزقون دائما بيننا يشعون ضياء ويثرون دنيانا بالمعاني والابتكارات الجميلة .

 قبل أسبوعين ودعنا الشاعر الرائع سميح القاسم وأجدني اليوم اسير الاحساس بضرورة الكتابة عن راحل جديد ملأ حياتنا أفكارا بليغة ودروسا وتجارب ذهنية معمقة .. وهل يمكن لنا أصلا أن نتجاهل حدثا بأهمية غياب شخصية بوزن الراحل الكبير الدكتور نديم البيطار الذي غادرنا الى دار المقامة الأسبوع الماضي ( 26 / 8 / 2014 ) ..؟

والرابط الرمزي بين سميح القاسم ونديم البيطار أن المبدعين الكبيرين من رموز العروبة وعصر الازدهار القومي ومن المؤمنين الصادقين بأمة العرب كحقيقة حية وراسخة ومن الذين كرسوا فكرهم وابداعهم تعبيرا عن التطلع الى تجسيدها مرة أخرى في صيغة عصرية , ويعني لي غيابهما في زمن واحد يتسم بانحطاط العرب ونكوصهم الى فتن الطائفية ورواج الدعوات البدوية والعصبية على حساب العروبة الاصيلة والاسلام الحضاري صورة من صور الاحتجاج على واقع متعفن يمثل نقيض العقل والحلم والطموح , ويذكرني بالمعنى الرمزي لانتحار الشاعر المفكر خليل حاوي عام 1982 بعد أيام من غزو القوات الاسرائيلية لبيروت عروس العواصم العربية .

الراحل نديم البيطار ليس صفحة في كتاب بل كتاب موسوعي كبير , تاريخ بذاته , قرن كامل , عاش نحو تسعين سنة ( 1925 – 2014 ) وظل يكتب ويؤلف ويدرس ستين عاما بلا توقف , فأول كتبه صدر عام 1947 وكان عن قضية فلسطين وظل يكتب حتى السنوات الأخيرة . إنه عالم اجتماع من مستوى رفيع , مفكر موسوعي ذو مشروع ورؤية مرتبطان بواقع أمته وطموحاتها وقضاياها المعاصرة . ولعله كان الوحيد بين أقرانه ومعاصريه الذي كرس نفسه لتأصيل فكرة الوحدة العربية ونقلها من حيز العاطفة والطرح الاديولوجي – السياسي الى حيز العلم والعقل , ووضع أول نظرية لآليات انتقال العرب من التجزئة الى الوحدة العصرية لأنه كان مؤمنا بأن الوحدة تبدأ بنظرية علمية تستنبط قوانينها الموضوعية الثابتة , ولا شك أنه أنجز الكثير على هذا الطريق .

 أبحاثه ومؤلفاته الأكاديمية المتتالية التي بدأت بنهاية الخمسينيات ولم تتوقف حتى الأمس القريب تشكل مكتبة فائقة التنوع والغنى , وكان لها أثر عميق في مجرى الفكر العربي الحديث , والعمل السياسي الملتزم بنهضة العرب ووحدة الامة , وبالأخص كتبه الفريدة في تخصصها : حدود الاقليمية الجديدة , جذور الاقليمية الجديدة , الاديولجيا الانقلابية , من التجزئة الى الوحدة , حدود الهوية القومية , حدود اليسار الثوري , التجربة الثورية بين المثال والواقع , الحركة العربية الواحدة , من النكسة الى الثورة , الحزب الثوري , المثقفون والثورة …إلخ . وقد تجاوزت كتبه المنشورة خمسة وعشرين كتابا منشورا وأبحاثا كثيرة متفرقة في نفس المواضيع إلى حد أن بعض النقاد اعتبره ابن خلدون الثاني . ولا شك أنه شق طريقا مميزا للانتلجنسيا العربية اهتدت به وتعلمت منه الكثير, وسيبقى مدرسة فكرية حافلة بالاصول المنهجية والمفاهيم العلمية الحديثة لا غنى عنها لكل من يهتم بقضايا نهضة العرب ومستقبلهم ومشروعهم النهضوي المعاصر .

تميز الفقيد الكبير بخاصية مهمة جدا من ضمن ما تميز به من صفات ومؤهلات عالية هي استقلاليته الفكرية التامة وتجرده الصوفي , ونزوعه العلمي البحت الى الكمال والحقيقة بعيدا عن التحزبات والنزعات العصبية والمحلية , إذ كان ينظر الى العرب كأمة واحدة تتمايز في خصائص وتتماهى في حقائق جوهرية مشتركة , وقد ساعدته ظروفه الشخصية والمهنية على بلوغ ذلك , فقد عاش في الولايات المتحدة وكندا استاذا في ارقى جامعاتها , يدرس علوم الاجتماع والسياسة ومنكبا على البحث والتأمل بين مكتبات عامرة وزاخرة بكل ما يحتاجه من مراجع , وكان في نفس الوقت دائم التردد على البلدان العربية بين الفترة والاخرى وخاصة مصر ولبنان والعراق وليبيا والاردن محاضرا ومحاورا وناقدا , وأقام صلات وثيقة بعدد غير قليل من القادة والمفكرين والثوار والشباب .

قابلته مرتين , إحداهما في بيروت في ندوة فكرية كان محاضرا فيها , ثم اتيح لنا الجلوس معه على انفراد وكان مهموما ومتألما لأن العرب – كما قال – أضاعوا فرصتهم الكبرى لتحقيق الوحدة في الخمسينيات والستينيات , وتنبأ بأن يطول الوقت قبل أن تتوفر فرصة جديدة ولكنه عبر عن ايمان راسخ بحتمية الوحدة لأنها شرط وجودهم في المستقبل . وقابلته مرة ثانية في طرابلس الغرب وكان يسعى لإقناع القيادة الليبية بمساعدته لإنشاء معهد عربي للأبحاث في امريكا وفق القواعد والاصول الأرقى في العالم .. وبالطبع أخفق لأن القذافي كان مهووسا بنفسه أكثر من القضايا العربية التي يتغنى بها نفاقا واستغلالا لعواطف الجماهير , وقد حدثني عن مرارته جراء ذلك .

ولمن لا يعرف هذا الفقيد العظيم من أبناء الأجيال الجديدة في العالم العربي المضطرب نديم البيطار لبناني المولد والمنشأ , رأى الحياة في قرية صغيرة ( بينو) من قرى عكار احد اكثر اقاليم لبنان فقرا, ودرس فيه ثم تابع تخصصه بين فرنسا وامريكا , ونال شهادتي دكتوراه في علوم الاجتماع والعلوم السياسية , وعاش معظم حياته في الغرب دارسا ومدرسا, والغريب انه بقدر ما نهل من علومه ومعارفه وحضارته حافظ على جذوره وهويته وارتباطه القوي بأمته وببلاده وبقضايا النهضة والثورة والمستقبل فيها , وخصص كل وقته من أجلها .

أعرف أن رحيل هذا الفقيد الفذ فتح المجال لاعادة النظر في فكره وموروثه العلمي على ضوء المآلات التي انتهينا اليها والتقهقر الذي اصاب مشروع العرب الوحدوي , والمراجعة مشروعة ومطلوبة , وبالطبع ليس هذا وقت ومكان المشاركة في عملية تقييم نتاج البيطار وغربلته , وبطبيعة الحال ستسقط منه أشياء وتثبت أشياء , ولكن لا بد من الحذر في تناول فكره وموروثه بالقياس الى الواقع الانحطاطي الذي نعيش اليوم لأنه لا يصح كوحدة قياس , وهو واقع متحول ومصطنع ولا يعكس بأي حال هوية امتنا وثقافتها وامكاناتها الخلاقة التي تؤهلها رغم كل الظروف والصروف السيئة لأن تصنع مستقبلا افضل وارقى من الواقع الراهن الآسن . ويخطىء كثيرا من يظن أن المشروع الوحدوي العربي سقط أو اندثر , بل إن كل ذي بصيرة سديدة لا بد أن يلمح في ثنايا الربيع العربي بذور نهضة جديدة وثورة عربية من اجل الحرية , لن تطمسها ظواهر الردة الفكرية الجديدة من داعش والقاعدة الى مشتقاتهما الهمجية العديدة

وبدون سوداوية محبطة فإن نديم البيطار الانسان مات مثله كمثل البشر جميعا من انبياء وعظماء ومصلحين وقد لحق برعيله الذي سبقه منهم كثيرون أمثال قسطنطين زريق وساطع الحصري ومحمد عابد الجابري وياسين الحافظ وعصمت سيف الدولة والياس مرقص , ولكن البيطار وأمثاله لا يموتون بل يبقون خالدين بيننا حضورهم اقوى من غيابهم , وكيف يغيب من تجسدت امته فيه ..؟

البيطار أمة في رجل .

*************************

هذا المقال نشر في عدد 239 من مجلة الشراع الاسبوعية الصادرة في بيروت بتاريخ 5 / 9 / 2014

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى