عن دار موزاييك في اسطنبول صدرت رواية نبيل سليمان ليل العالم. وهو روائي مخضرم قرأنا له روايات كثيرة منها رواية السجن وذلك منذ عقود .
في رواية ليل العالم التي نكتب عنها هنا، اننا أمام تدفق معرفي و توثيقي و عاطفي وإنساني يبهرنا فيه نبيل سليمان كما هو دائما .
تبدأ الرواية سردها بلغة المتكلم على لسان بطلها منيب متحدثا عن الحدث الجلل الذي أصاب مدينة الرقة السورية التي كانت قد تحررت من قبضة النظام بعد ثورة ٢٠١١م. وذلك في عام ٢٠١٣م وسرعان ما وقعت بيد داعش عام ٢٠١٤م و التي اعتبرتها عاصمة الخلافة…
كما كان الحدث الجلل المنعكس على حياة منيب ابن الرقة حيث قررت داعش إعدام حبيبته وخطيبته هفاف إحدى ناشطات الثورة ورموزها بالرقة. لقد اعدمتها داعش خنقا. كان ذلك كابوسا وقع على منيب حيث فقد حب حياته بإعدام هفاف الذي استمر لعقود طويلة. ..
كانت داعش قد دخلت الرقة بعد تحريرها. مع الجيش الحر وأحرار الشام وجبهة النصرة، ليبدأ بينهم صراع حول السيطرة على الرقة ينتهي بسيطرة داعش عليها بالمطلق. وبدأت بتنفيذ حكمها الذي اعتبرته حكما اسلاميا كما ترى. وتركز تحذيرها على النساء باللباس والتنقل، كما منعت أي عمل لأي ناشط في الثورة خارج ارادتها وهيمنتها. لقد قامت بإعدام وسجن كل من تراه يشكل تهديدا على سيطرتها. لذلك كان إعدام هفاف حبيبة منيب نتيجة طبيعية لتوجهات داعش. فهي ناشطة نسوية وسياسية وإغاثية وأحد قيادات الثورة في الرقة وجوارها. حضورها قوي وطاغي. لم تقبل بتحويل الثورة السورية من السلمية للعمل المسلح. ولم تقبل تحويلها من ثورة ضد النظام والاستبداد لبناء دولة ديمقراطية تحقق الحرية والعدالة وتعيد كرامة الناس وتحقق الحياة الافضل، الى توجهات ذات اجندة اسلامية متطرفة على طريقة القاعدة “النصرة” و داعش تحت دعوى بناء الدولة الإسلامية. لذلك قررت داعش إعدام هفاف وأمثالها و اعدمتها.. .
يعود منيب للتحدث عن نفسه وحياته الخاصة وما عاشه بالتوازي والتقاطع مع ما عاشته سوريا منذ ستينات القرن الماضي .
منيب ابن الرقة يحدثنا عن والده الرقاوي ابن احدى القبائل المعروفة، وكيف حصل خلاف بين أحد أبناء قبيلته وآخر من قبيلة اخرى ادى لقتل ابن القبيلة الاخرى. وأصبح بين القبيلتين ثأر. قررت القبيلة الاخرى ان تقتل والد منيب ردا على قتل أحد أبنائها. ولم يكن أمام والد منيب وقبيلته الا ان تجعله يغادر الرقة ويختفي حتى لا تصله يد الثأر التي تمتد لعشرات السنين…
انتقل والد منيب إلى مدينة بانياس في الساحل السوري. هناك غير اسمه وتزوج من فتاة بانياسية وتطوع في الجيش وعاش حياته بعيدا عن الرقة. كانت خدمة الأب في القنيطرة. عاصر هزيمة ١٩٦٧م وسيطرة البعث على الحكم في سوريا ومن ثم سيطرة الأسد الأب على الحكم في سوريا بدء من عام ١٩٧٠م.
أنجبت والدة منيب اضافة له اخا واختا. عاش وكبر في بانياس وعندما كبر واصبح مدرسا. وكان فرزه للتدريس في الرقة. أخبره والده بحقيقته وأنه ابن الرقة وأنه سيذهب الآن ويبقى متخفيا متسترا على تاريخه. فمازال الثأر قائما ومازال رأس والده وحتى رأسه إن عرفوه مطلوبا …
ذهب منيب الى الرقة حاملا معه هاجسا بالخوف من الثأر وفي نفس الوقت احساس بالعودة إلى الذات الضائعة والمتخفية. عينوه مدرسا في مدرسة اناث. وهناك تعرف الى طالبته هفاف التي سلبت لبه منذ اللحظة الأولى. كما أن نار الحب والعشق أصابها هي ايضا…
كان المسؤول الحزبي في الرقة من الساحل ايضا. تعامل مع منيب على أنه منهم يعني علوي وبعثي. رغم محاولة منيب التهرب دوما من الانتساب لحزب البعث. كما رفض أن يكون مخبرا على زملائه وزميلاته المدرسين وعلى الطلبة من خلال دراسات مسح طلبها منه المسؤول الحزبي. ليس فقط هذا فقد كان قد اطلع منيب على الأفكار الشيوعية وأحس بأنها تؤمن العدالة الاجتماعية المطلوبة. كما اطلع على واقع الحزب الشيوعي الذي حصل انشقاق به في بداية سبعينات القرن الماضي. على خلفية الخلاف على الموقف من السلطة ومن العروبة ومن قضية فلسطين وحتى من الإسلام. كان نصيب الحزب الجديد أنه اعتبر نصيرا لحركة الإخوان المسلمين ومع الحراك الوطني الديمقراطي الذي حصل عموما في سوريا في اوائل الثمانينات. وادى لاعتقال الكثير من الوطنيين الديمقراطيين ومنهم الشيوعيين المعارضين. عايش منيب واقع الصراع بين النظام والطليعة المقاتلة والاخوان المسلمين وكيف واجه النظام ذلك بالقوة المسلحة، وتحدث عن القتل والاعتقال الذي حصل في حلب حيث كان يدرس. وكذلك في حماة وبقية المدن السورية. وان ثمانينات القرن الماضي خلفت عشرات الالاف الضحايا.
كان منيب مطلعا على كل ذلك لكنه آثر أن لا يلتزم تنظيميا مع أحد. لقد طلب السلامة الشخصية. هذا غير انه يحمل موقفا نقديا من كل ذلك طبعا مع موقف معارض للنظام وأنه استبدادي فئوي ظالم…
في عودة للحياة الخاصة لمنيب في الرقة فقد توطدت علاقته مع هفاف وعاش معها حبا مندفعا دوما. وجد عندها إشباعا نفسيا وجسديا له. وبدأ يظهر معها على أنها خطيبته حيث امتدت خطبتهم لعشرات السنين..
مضت فترة التسعينات في سورية والناس يائسين من أي تغيير في أوضاع البلد كما أن قوى المعارضة في حالة موات وتبعثر وغياب.
في هذه الفترة قرر منيب ان يؤدي خدمته العسكرية وهذا ما حصل فعلا. وبذلك ابتعد عن التواصل مع هفاف مجبورا. وبعد خروجه من الجيش انتدب للتدريس في الجزائر كان ذلك في تسعينيات القرن الماضي. هناك عايش التغيرات التي عصفت بالجزائر والصراع على الحكم وكيف تم وأد التجربة الديمقراطية التي أوصلت الإسلاميين للحكم. وكيف انقلب عليهم العسكر. وتحول بعض الإسلاميين الى العنف العسكري وحصلت في الجزائر ما سمي العشرية السوداء حيث الصراع بين السلطة والإسلاميين المسلحين. راح ضحيته الكثير من الناس ظلما و تعسفا وكل يرمي بالمسؤولية على الآخر.
في ذات الوقت كانت هفاف قد تخرجت من جامعتها وسافرت إلى الشارقة في الإمارات العربية وعاشت هناك فترة من الزمن. هي تفكر بحبيبها منيب وهو يفكر بها. وكل منهما لا يعرف أين الآخر وما مصيره. حتى عادا سويا الى سوريا وعادا الى اللقاء من جديد.
أدى موت الأسد الأب الى مجيء الوريث ابنه للسلطة عام ٢٠٠٠م. مع ما أعلنه عن انفتاح سياسي نسبي، ادى إلى عودة الحراك السياسي والمدني في سوريا. حيث شارك فيه منيب واعتبره كغيره خشبة خلاص لسوريا ومقدمة انتقالها الديمقراطي. لكن هذا التمني لم يتحقق وسرعان ما انقلب النظام على وعوده. واعتقل كثير من الناشطين، وكان منيب منهم. حيث طلبه الامن اكثر من مرة و هدده بالاعتقال وكان قد انتقل المسؤول الذي كان يحميه الى خارج الرقة. ووصل الأمر لأن يهدده ضابط الامن بكشف حقيقة شخصيته واعلانها للقبيلة التي تطلب رأسه ورأس أبيه. مما جعله يفكر جديا مرة أخرى بمغادرة الرقة. مدينته التي احبها واحس انه مجبول من ترابها وماء فراتها. مع ذلك شارك بحراك ربيع دمشق واعتقل لستة سنوات خرج على اثرها و عائد إلى حياته التدريسية في الرقة.
تدخل بعض الوجوه العشائرية لحل قضية منيب ووالده التي مضى عليها عشرات السنين. واستطاعوا أن ينهوا قضية الثأر بقبول وجود منيب في الرقة وعفى الله عمّا مضى…
جرى ذلك بعد أن مات والده ووالدته ودفنا في بانياس. وكانت قد اندلعت ثورات الربيع العربي التي سرعان ما وصلت إلى سوريا في ربيع عام ٢٠١١م.
كان قد عاد منيب الى الرقة وكذلك هفاف. وعاد ليكون مدرسا وهي كذلك. وكانت علاقتهما تزداد توثيقا. حب جارف متجدد مرت عليه عشرات السنين ومستمر بكل قوة وعمق وتأجج . خطوبة ممتدة وعلاقة جسدية مفتوحة وعيش دائم لحب متأجج دوما بين مد وجزر وتفاعل مستمر…
كان موقف منيب من الربيع السوري تضامني لكنه خائف من تبعاته، فهو يعرف النظام وبطشه واستعداده لافناء الشعب وتدمير البلاد ولا يتخلى عن الحكم. لذلك آثر منيب ان يدعم المطالب المشروعة للناس ولكن من موقع المراقب وليس المشارك. اما هفاف فقد كانت ومنذ اللحظة الاولى احدى الناشطات المهمات في التظاهر السلمي وتبعيات التظاهر والإعداد له. كان منيب يخاف عليها ويحذرها. وهي تتهمه بالتخاذل وعدم القيام بدوره. أدرك منيب مبكرا ان النظام سينتقل لاستعمال السلاح ويدفع الناشطين والثوار للتسلح. وهذا ملعب النظام ويعرف كيف يتصرف به. ..
بدأ يسقط الشهداء وبدأ دور جديد يظهر لهفاف. انه الدور الإغاثي. وتأمين مسكن وحاجات للنازحين بعشرات الآلاف من خارج الرقة باتجاهها. حيث تأخرت الرقة في حراكها الثوري. وسرعان ما بدأ الحراك في الرقة نفسها. جيش حر وظهرت النصرة وداعش الّتين توالدوا مع جماعات جهادية اسلامية اخرى مثل أحرار الشام وجيش الاسلام وصقور الإسلام وغيرهم…
لم يكن النظام بعيدا عن توالد كل هذه الحركات في سنوات الثورة الأولى. فقد أفرج النظام عن الكثير من السجناء الجهاديين القادمين من العراق وأفغانستان واغلبهم من القاعدة. كان ذلك بعد أشهر من قيام الثورة السورية. في ذات الوقت الذي كان النظام يعتقل ويقتل الناشطين السلميين في سجونه او شوارع ومدن التظاهر في طول سوريا وعرضها…
أصبح هؤلاء الخارجين من سجون النظام صيدنايا وغيره قادة كتائب ومجموعات مسلحة ذات صبغة إسلامية تطالب ببناء الدولة الاسلامية. بدأت بداية تعمل مع الجيش الحر. وتواجد من يمد لها الدعم المالي والسلاح من اطراف دوليبن واقليميبن وكل له هدفه. حتى أصبحت الكلمة العليا لهم في اغلب مناطق سوريا المحررة. وبدأت تهيمن النصرة وداعش وهي أكثرهم تطرفا. حتى جاء وقت أصبحت داعش القوة الأكبر وسيطرتها الأشمل على الجغرافيا السورية…
لقد كان الأب باولو أحد أهم الوجوه التي ناصرت الثورة السورية كان تواصل منيب معه دائم. ظهر في المظاهرات وتواصل مع الناشطين والقى الكثير من المواعظ كان مصرا على سلمية الثورة ودعوتها الوطنية الديمقراطية. وعندما سيطرت داعش اختطفته ويقال انها اعدمته وألقته في جرف الهوته…
في هذا الوقت كانت قد تحررت الرقة من سيطرة النظام. كانت أول مدينة تتحرر في سوريا. كانت فرحة الثوار كبيرة. ولكن ذلك لم يستمر فسرعان ما اختلفت القوى المسيطرة على الرقة فيما بينها ومن ثم أصبحت الرقة تحت سيطرة داعش وعاصمة دولتها الإسلامية .
كان أول عمل قامت به داعش بعد سيطرتها على الرقة. هي فرض قواعدها الدينية الإسلامية ، كما ترى هي طبعا. الصلاة والالتزام والملابس واحتجاب النساء وشكلت شرطة خاصة لذلك اسمتها الحسبة. وبدأت في حملة تطهير لمن اعتبرتهم خرجوا عن الدين. وبالحقيقة هم ناشطي وناشطات الثورة. كانت هفاف واحدة منهم. لقد اعتقلوها واعدموها خنقا. ورموها في الهوته الجرف الذي بلع الآلاف من مظلومي الثورة السورية…
عاش منيب الستيني على ذكرى حبيبته التي قتلتها داعش. تواصل مع من تبقى في الرقة التي هاجر أغلب اهلها منها. خاصة المسيحيين والأكراد الذين كانوا مستهدفين من داعش. بقي له ذاكرة ممتلئة بحبيبته هفاف وبمن ناضل واستشهد في سبيل قضية الحرية في سوريا.
تنتهي الرواية عندما يبحث منيب عن موسى شقيق هفاف الذي كان قد تحول إلى العمل المسلح بعمليات خاطفة ضد داعش داخل الرقة. موسى الذي كان من ناشطي الثورة في سلميتها ومن قادة الجيش الحر واستمر مخلصا للثورة وأهدافها الأصلية حرية وعدالة وكرامة وديمقراطية وحياة افضل. لذلك أصبح الهدف الأول لداعش عندما احتلت الرقة لكنها لم تصل إليه. لقد اعتقلت داعش منيب اكثر من مرة لتعرف كيف تصل لموسى لكنها لم تصل إليه…
نجحت اخيرا داعش باعتقال منيب وموسى ومن ثم وضعهما في قفص ورميهما في الفرات ليموتوا غرقا… كان أمامهما الموت في جرف الهوته خيارا آخر..
هنا تنتهي الرواية…
في التعقيب عليها اقول:
نحن أمام رواية أخرى متميزة لنبيل سليمان. ان لم نقل أنها ستكون تاج عقد رواياته التي كتبها عبر عقود…
يعود نبيل سليمان في هذه الرواية في نسيج متضافر بين الذاتي المبهر المترع بحب خالد ينمو مع الزمن و يتأصل ويصبح هوية صاحبة ورسالة له في الحياة. هكذا تحدث عن حب منيب وهفاف المستمر لعقود طويلة. وفي نفس الوقت أعاد نبيل سليمان قراءة تاريخ سوريا السياسي الاجتماعي الذي أوصل سوريا لما وصلت اليه بعد عقود خمسة او ستة. بدأب وصبر وتفصيل وتنوير ووضع النقاط على الحروف، بحيث تتحول الرواية بجانبها العام الى دراسة موثقة عن سوريا في عقودها الاخيرة…
نقطة ضعف الرواية الوحيدة برأيي انه لم يتحدث عن بنية النظام الطائفية العلوية بدأ من رأس الهرم وفي بنيته العسكرية والامنية وفي اجهزة الدولة السورية، التي اصبحت عبر عقود واضحة ولا يمكن التستر عليها. مع ما ينعكس ذلك على واقع الولاء للنظام طائفيا وإعطاء مبرر للقوى المعارضة و المعادية للنظام من اتهامه بأنه طائفي وفي هذا كثير من الحق.
وماذا بعد تنتهي الرواية عند لحظة عدمية عندما تقتل هفاف رمز الثورة ويوضع حبيبها و اخوها الثائر مقيدين حتى يغرقوا في قفص الذل والعبودية في قاع نهر الخير الفرات…
نعم مرّت لحظة داعش بكل مآسيها وأفعالها. وكأنها كانت خيالا. لكن أصل المشكلة السورية ما زال قائما : النظام المستبد الطائفي القاتل وواقع سوريا المحتلة من امريكا وروسيا وايران مع الانفصاليين الأكراد والمقسمة بين الاطراف الدولية والاقليمية كغنيمة حرب. والشعب السوري الذي قدم أكثر من مليون شهيد ومثلهم معتقلين ومغيبين وأكثر من ثلاثة عشر مليون لاجئ داخل سوريا وخارجها. سوريا المدمر اغلبها مع انعدام البنية التحتية لأي حياة بشرية فيها…
حياة جحيم داخل سوريا وخارجها لكل السوريين… إلا من رحم ربي…