“لم يعد الدواء خطاً أحمر”، يقول الواقفون على طوابير طويلة أمام الصيدليات بحثاً عن علبة دواء في مختلف المحافظات السورية، وفي كافة المناطق أياً كانت القوى المسيطرة عليها، بعد أن فُقدت قوائم كثيرة من الزُمر الدوائية، وارتفعت أسعار بعضها إلى ضعفين أو أكثر (وصلَ سعر بعض الزُمر الدوائية، خاصة النفسية والعصبية، إلى خمسة أضعاف سعرها قبل شهرين)، هذا إن وجدت. فيما بدأت المعامل بإقفال أبوابها أو تقنين إنتاجها، والصيدليات أيضاً أغلقت أمام الجموع المنتظرة والرفوف الفارغة وتحمّل اللوم، فيما اتخذت وزارة الصحة في حكومة النظام حزمة من القرارات «الخلبية» ، كما وصفها الأهالي وأصحاب الصناعات الدوائية، لينتقل السجال هذه المرة إلى مجلس الشعب، الذي وصف أحد أعضائه، وضاح مراد، الحكومة بالفشل، مُصرحاً أن الدواء سينفد من الصيدليات خلال أسبوع واحد على الأكثر، والمواطنون ومعامل الأدوية متروكون لقدرهم في إيجاد حل للكارثة القادمة.
المرضى المزمنون «عليكم بالحمية»
يقول من تحدثنا معهم، وهم من ثلاث محافظات تخضع لسيطرة النظام (دمشق- حلب- اللاذقية) إن الأدوية الخاصة بالأمراض المزمنة كالسكري والقلب والغدة الدرقية والضغط ومميعات الدم نفدت من الصيدليات، وإن على المريض أن يبحث لساعات وأحياناً لأيام في المناطق الطرفية من المدن عن صيدلية ما زالت تحتفظ بعلبة من أدويتهم لشرائها، ناهيك عن إغلاق عدد كبير من الصيادلة لصيدلياتهم، بحجة عدم توافر الأدوية.
تقول السيدة صبحية المحمود، وهي من سكان مدينة حلب، إنها اضطرت للوقوف لساعة على باب واحدة من الصيدليات في حي الأشرفية بحلب، قبل أن تُفاجأ بعدم وجود أي من أدويتها للضغط والسكري عنده، لتبدأ رحلة البحث في ثلاث عشرة صيدلية دون جدوى، إلا أنها استطاعت تأمين علبة من حبوب الالتهاب (مضاد حيوي)، ومتمم غذائي للمفاصل (غلوكوزامين)، وبعض حقن الالتهاب وعلبة من حبوب مسكن الألم. تخبرنا أنها دفعت نحو ثلاثين ألف ليرة كثمن لهذه الأدوية، التي كانت تشتريها سابقاً بنحو اثنا عشر ألف ليرة فقط.
يجبروننا على «الشكر» لأننا وجدنا الدواء مهما ارتفع الثمن، تقول السيدة صبحية، فمع انقطاع السلعة يبحث عنها السكان ويدفعون أي ثمن للحصول عليها، والدواء ليس «رفاهية»، رضينا بـ «نقص المواد الغذائية واللحوم والفواكه التي لم تزر بيتنا منذ أشهر، أما الدواء فيعادل الحياة». تؤكد صبحية، وهي معلمة متقاعدة، إن راتبها لم يعد يكفي لشراء نصف الأدوية التي تستخدمها، بعد أن توقفت شركات التأمين عن تغطية جزء من نفقات العلاج، بحجة اختلاف سعر الأدوية.
في اللاذقية، تبحث أم مصطفى عن دواء التروكسين للغدة الدرقية دون جدوى منذ أسابيع، ومع إغلاق الطرق بات الحصول عليه عن طريق التهريب من لبنان أو تركيا أمراً بالغ الصعوبة. عبر الواتس آب، تشرح لنا حالها بأن الورم في يديها يزداد كل يوم مع ألم لا يطاق، كما أن نبضات قلبها في تسارع دائم، وعند مرورها بالصيدليات باحثة عن الدواء لا تلقى إلا الوعود، فمعظمهم يطلبون منها العودة في اليوم التالي لتأمين الدواء، ليعتذروا من جديد. تقول إنها دفعت أجور نقل ما يزيد عن عشرين ألف ليرة، دون أن تجد دواءها.
لا تُتعِبُ السيدة هدى، من دمشق، نفسها في البحث عن أدوية السكر، تقول إنها لا تمتلك أصلاً ثمن الدواء الذي كان يقدم لها مجاناً من المستوصف، ومع توقفه توقفت هي الأخرى عن تناول الدواء، وتخبرنا أنها سألت الطبيب أو الممرض، فهي لا تدري من هو المسؤول عن توزيع الدواء في المستوصفات عن الحل، فأخبرها أن عليها بـ «الحمية» ريثما يتوافر الدواء.
وكانت أدوية السكر قد ارتفعت بنسبة تصل إلى 100% من سعرها القديم، فيما تباع حقنة الأنسولين بنحو أربعة عشر ألف ليرة (وسطياً تكفي المريض من 10-15 يوماً)، أما أدوية منظم السكر فقد ارتفعت بنحو 60%، بحسب أحد الصيادلة الذين تواصلنا معهم من مدينة حلب.
وكانت صفحات النظام والمواقع الالكترونية قد تداولت خلال الأيام الماضية أخباراً حول نفاد الدواء وتوقف المعامل عن العمل، وهو ما أكدته نقابتا الصيادلة في دمشق واللاذقية على لسان نقيبيهما، وأنكرته وزارة الصحة، إلا أن صوراً للمواطنين على الدور في الصيدليات، ومشاهد الصيدليات المغلقة، انتشرت بشكل واسع عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
معامل الأدوية تعمل بـ 5% من طاقتها الإنتاجية
قبل البحث عن الأسباب في الأزمة الدوائية التي يعيشها السوريون اليوم، لا بد من لمحة عن قطاع الصناعات الدوائية خلال السنوات السابقة لفهم ما يحدث بشكل أكبر.
في العام 1987 سمحت وزارة الصحة للقطاع الخاص بإنتاج الدواء، ليتم ترخيص نحو ثمانية وعشرين معملاً. ارتفع هذا العدد إلى ستة وخمسين معملاً في العام 2006، وإلى سبعين معملاً في العام 2011. ومع الثورة السورية توقفت بعض هذه المعامل عن العمل، وعددها نحو تسعة عشر معملاً، نتيجة القصف أو امتناع أصحابها عن تشغيلها لوجودها في مناطق سيطرة فصائل المعارضة. معظم معامل الأدوية تركزت في محافظتي حلب ودمشق، وبنسبة أقل في حمص، ومعمل في مدينة حماة، ليتم منذ العام 2017 ترخيص عدد من المعامل في محافظتي اللاذقية وطرطوس، إذ يبلغ عدد المعامل الحالي نحو اثنين وتسعين معملاً، ناهيك عن معامل المعقمات وغيرها من المستحضرات الصيدلانية، وذلك بحسب تقرير لزياد غصن، نُشر في موقع مدرسة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية بعنوان: كيف تؤثر العقوبات الاقتصادية سلباً على القطاع الصحي في سوريا: الصناعات الدوائية نموذجاً.
كانت هذه المعامل تغطي نحو 90% من احتياجات السوق المحلية (تقدر أسعارها بنحو أربعمائة مليون دولار)، ليتم تعويض النقص في بعض الأدوية، كالأدوية السرطانية وأدوية التهاب الكبد واللقاحات، عن طريق الاستيراد عبر شركة فارمكس، أو بوكالات حصرية للمستودعات. ذلك إضافة إلى تصدير جزء من إنتاج هذه المعامل لنحو سبعة وثلاثين دولة (يقدر حجم التصدير بنحو 220 مليون دولار في العام 2010)، ناهيك عن وجود عدد كبير من الزمر الدوائية الحاصلة على امتياز من شركات أوروبية وأميركية (هناك 59 شركة دواء حاصلة على امتياز من شركات أجنبية)، بحسب دراسة أعدها مركز فيريل للدراسات.
يقول الممثل عن أحد المعامل، أخفينا اسمه خوفاً من ملاحقته أمنياً، وسنطلق عليه اسم سعيد لحاجتنا لاستخدام كلامه خلال مراحل لاحقة من التقرير، إن معامل الأدوية تخسر منذ عدة أشهر، وهو ما دفعها لتخفيض كميات إنتاجها في البداية، إلا أنه ومع انهيار الليرة السورية بات الاستمرار في ظل الظروف الحالية مستحيلاً، ما أجبرهم على التوقف عن صناعة أصناف كثيرة من الأدوية. أما ما ينتجونه حالياً، فهو من المواد الأولية التي ما زالت موجودة في المخازن.
ويُقدِّرُ سعيد طاقة الإنتاج الحالية بنحو 5% من الإنتاج الحقيقي للمعامل، ويقول إنها ستتوقف كلياً في الأيام القادمة عند نفاد المواد الأولية، ويحدثنا أن اجتماعات دورية جرت بين أصحاب المعامل ووزارة الصحة لإيجاد حل للمشاكل التي تعترضهم، دون جدوى. فكل ما تلقوه هو الوعيد و«الوعود الفارغة» .
ويشرح سعيد المشكلة من البداية، إذ أخبرنا بأن الحصار الاقتصادي المفروض منذ سنوات على سوريا أدى لسحب الشركات الأجنبية تراخيصها من معامل الأدوية، وبات لزاماً عليهم البحث عن أسواق جديدة للحصول على المواد الأولية، كالصين والهند، التي تتناسب فيها أسعار المواد الأولية مع قدرة المواطن على الشراء، كما أن عدداً من خطوط الإنتاج قد تعرضت للتلف، نتيجة القصف أو الأعطال، ومع الحصار وارتفاع الأسعار، تخلى أصحاب المعامل عن إصلاحها ما قلل من كمية الإنتاج في السوق المحلية.
وكانت وزارة الصحة السورية قد رفعت أسعار الأدوية تدريجياً. حتى العام 2015 كانت الزيادة السعرية قد وصلت إلى نحو 120% على مختلف أسعار الأدوية، بحسب تحقيق استقصائي للصحفية رانيا عيسى لم ينشر حتى الآن. بتواصلنا معها، أخبرتنا أنها حصلت على هذه النسبة من وزارة الصحة السورية في العام 2017. وفي العام 2018، تم رفع أسعار الدواء بنسبة تتراوح بين (10-80٪)، كذلك ارتفعت بعض الزمر الدوائية بشكل فردي.
تقول رانيا العيسى للجمهورية إن الدكتور حبيب عبود، معاون وزير الصحة، قال في مقابلة مع مُعدّة التحقيق إن أغلب معامل الأدوية خاسرة، وإن 70% من الأدوية ما زالت دون سعر 500 ليرة. تخبرنا العيسى إنها حصلت من نقابة الصيادلة المركزية على رقم يقول إن عدد الصيدليات في نهاية العام 2017 كان 11442صيدلية، وإن 45 معملاً من المعامل يعمل بطاقة محددة، وعشرين معملاً آخر طالها الضرر بنسب كبيرة.
كذلك تخبرنا العيسى أنه، ومنذ العام 2015، طالب ممثلو معامل الأدوية الوزارة بحل مشكلة الأصناف الدوائية الخاسرة، ووضع تصور مستقبلي لإيجاد آلية تربط بين الصناعة الدوائية ومستلزماتها المستوردة بأسعار النقد الأجنبي يضمن استمرار الإنتاج. وفي العام 2016، بحضور وزير الصحة نزار يازجي، الذي ما زال يشغل المنصب حتى اللحظة، عُقدت جلسة في مجلس الشعب بحضور ممثلين عن معامل الدواء، ووصف رئيس لجنة الخدمات في المجلس صفوان القربي بقاء الوضع على ما هو عليه بـ «الأمر غير المقبول» . وأيضاً في شباط 2017، طالب أعضاء مجلس الشعب باستجواب وزير الصحة للبحث في قضية توافر الأدوية، دون جدوى.
وما زال الأمر على حاله، يقول سعيد، ففي الاجتماع الأخير منذ شهرين طالبت معامل الأدوية برفع سعر الدواء بنسب تتوافق مع أسعار الكلفة، إضافة إلى هامش ربح بسيط، إلا أن وزارة الصحة طرحت زيادة سعرية بنحو 25% وهو ما لم توافق عليه المعامل التي كانت تطالب بزيادة تتراوح بين (300-500%).
ويرجع سعيد سبب فقدان الأدوية وارتفاع الأسعار لعدة أسباب، واصفاً وزارة الصحة بـ «الضياع» ، إذ حددت الوزارة الأسعار والتي وصفها بـ «غير المناسبة» في العام 2018، مع تعويض المعامل عن النقد الأجنبي لشراء المواد الأولية بسعر 435 ليرة للدولار الواحد، بحسب مصرف سوريا المركزي، والتي تصرف بعد أن يدفع المعمل 40% من المبلغ فيما يعرف بـ «التأمين المسترد»، علماً أن سعر صرف الدولار في السوق السوداء في 2018 لم يتجاوز 490 ليرة سورية، وهو ما مكَّنَ معظم المعامل من الاستمرار، إذ أن الفارق لم يكن كبيراً. ومنذ بداية العام 2020 وحتى الأيام القليلة الماضية وصل سعر الصرف لنحو ثلاثة آلاف ليرة، بينما رفع البنك المركزي السعر إلى سبعمائة ليرة، أي بنحو ربع المبلغ الموجود، ما يحول دون قدرة المعامل على شراء المواد الأولية وبيع الأدوية بالأسعار الحالية: يخبرنا سعيد أن البنك المركزي لم يلتزم بمسؤولياته، ولم يعوض المعامل بـ «قرش واحد» بالأسعار التي حددها، وقرارات وزارة الصحة ليست إلا حبراً على ورق.
كذلك، أسهمت جائحة كورونا بتأخير وصول المواد الأولية وارتفاع أجور الشحن، إذ تصل المواد الأولية إلى سوريا عبر وسطاء ومن مرفأ بيروت، وهو ما يزيد الكلفة. أما في حالة الشحن الجوي، فقد ارتفعت أجور الشحن نحو خمسة أضعاف ما كانت عليه قبل كورونا، إذ كانت المعامل تدفع نحو دولار أو دولار ونصف الدولار للكيلو غرام الواحد، بينما تدفع حالياً نحو ستة إلى سبعة دولارات.
يضاف إلى ذلك، بحسب سعيد، أسعار الحُبابات البلاستيكية والعلب الفارغة والوقود اللازم للتشغيل وأجور العمال ونسبة المستودعات وسيارات النقل، والرشاوى والإتاوات التي تدفع على الحواجز، خاصة في حال التصدير الداخلي إلى مناطق سيطرة فصائل المعارضة ومناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية.
والأهم من ذلك، برأي سعيد، إن التحويلات المصرفية باتت أمراً بالغ الصعوبة، وإن تغطية القيمة المالية للمواد المستوردة بالقطع الأجنبي تتم عبر شركات صرافة محددة، يجبر عليها المستوردون من قبل المصرف المركزي، وتتقاضي مبالغ مرتفعة، وغالباً ما تطول مدة التسليم ما يؤدي إلى تأخير الشحنات. يقول سعيد «إنهم يقاسموننا كل شيء ما عدا الخسارة» .
بين النقابة والوزارة… الصيدلي والمواطن يدفعون الثمن
مع الأزمة الحاصلة في قطاع الصناعات الدوائية، قال وزير الصحة اليازجي إنه لا وجود لانقطاع في الأدوية السورية، إنما هناك فقدان لبعض الأدوية التي يمكن الاستعاضة عنها ببدائل من التراكيب العلمية نفسها من معامل أخرى، وإنه لا مبرر لمعامل الدواء لوقف إنتاج الدواء، وإن الحكومة تتحمل دعم تمويل مستوردات هذه المعامل من المواد الأولية وباقي المستلزمات، بسعر تفضيلي محدد بـ 700 ليرة للدولار، وإنه يتم تسعير الأصناف الدوائية بشكل تسلسلي بناء على آلية التمويل الجديدة، وتم تسعير 1400صنف حتى الآن من أصل 11800 زُمرة دوائية.
كما نقل المكتب الإعلامي في وزارة الصحة عن اليازجي أنه تم إلغاء قيمة تأمين الاستيراد البالغة 40% من قيمة المستوردات، واحتساب الرسوم الجمركية لمواد ومستلزمات الصناعة الدوائية على أساس سعر الصرف الرسمي (438 ليرة للدولار)، وتخفيض عمولات تحويل قيمة المستوردات بالقطع الأجنبي بنسبة 5%، ما يعطي الصناعيين مزايا سعرية تنافسية ناتجة عن انخفاض التكاليف مع استمرار وزارة الصحة بالسماح للمعامل بتصدير أدويتها بعد تحقيق الاكتفاء في السوق المحلية.
من جهتها، حملت رزان سلوطة، مديرة الشؤون الدوائية في وزارة الصحة، في لقاء معها على شام أف أم أزمة كورونا مسؤولية شح بعض المواد الأولية! وقالت إن أمور الأدوية ستكون جيدة خلال شهر واحد بعد الإجراءات المتبعة من الوزارة بتسعير الزمر الدوائية تدريجياً بحسب الآلية الجديدة، مؤكدة أن الوزارة والمديريات التابعة لها ستقوم بجولات رقابية لملاحقة الصيدليات التي مر على إغلاقها أكثر من ثلاثة أيام وتنفيذ العقوبات بحقها.
نقابات الصيادلة المركزية وفرعي دمشق واللاذقية تحدثوا عن ندرة في الأدوية ونقص في أكثر من 400 زمرة دوائية، خاصة تلك المختصة بالأمراض المزمنة والمضادات الحيوية: وقال نقيب صيادلة دمشق إن هناك نقصاً كبيراً في الأدوية، خاصة النوعية منها، وإن النقابة تواصلت مع معامل الأدوية لتغطية النواقص، إلا أن الكميات في مستودعات النقابة لا تغطي احتياجات المواطنين، بينما لخّصت نقابة صيادلة سوريا ما يحدث على صفحتها في فيس بوك بالقول «الحظر بجميع دول العالم أغلق جميع المهن ما عدا الصيدليات، إلا عنا فتحت كل المهن وتسكرت الصيدليات». يعلق أحد الصيادلة الذين تواصلنا معهم على هذه المقولة «دائماً هيك، وكأن العرس لجيرانهم» .
بين انقطاع الدواء وعدمه يتناقض كلام الوزير مع مساعدته، وكذلك مع نقابات الصيادلة. يقول سعيد إن ما تقوله الوزارة غير صحيح: هم لم يلتزموا بتمويل سعر المواد الأولية ولن يفعلوا ذلك، في الأصل. «البنك المركزي فارغ من النقد الأجنبي، وإن كان ما يقولونه صحيحاً فهم بحاجة لنحو 400 مليون دولار، فليطرحوها في السوق فيهبط سعر الدولار إلى أقل مما فرضه المركزي». يضيف سعيد: «المعامل تعرف أنهم يكذبون، ولذلك سيقتصر عملها على بعض الأصناف، وسيتجنب الجميع الأدوية الخاسرة». وهو ما ذكره أيضاً صاحب معمل أدوية ألفا المقرّب من النظام فارس الشهابي، في تعليقات نشرتها المواقع الالكترونية عن صفحته بأن البنك المركزي لم يمول المعامل بـ «قشة»، وأن هناك بعض الأدوية ينقص سعرها عن ثمن «علكة».
من تَحدّثنا معهم من الصيادلة يقولون إن النقص كبير في الأدوية، وإن حصة الصيدلية لا تتجاوز قطعتي دواء من كل صنف أسبوعياً، ووفقاً لافتراض أصحاب العديد من الصيدليات التي ذكرناها سابقاً، فإن إنتاج المعامل لا يتجاوز عشرين ألف قطعة من كل صنف، وهو ما يعني حرمان أكثر من ثمانين بالمائة من المواطنين من الأدوية اللازمة.
كما تحدثوا عن احتكار بعض المعامل والمستودعات للأدوية، التي تباع في السوق السوداء بأسعار مضاعفة، أو توضع ضمن سلّة أدوية غير مباعة أو يقترب انتهاء صلاحيتها لتصريفها، وعلى الصيدلي شراؤها معاً أو لا يحصل على الأصناف المطلوبة.
يخبرنا الصيادلة أنهم يتعرضون في كل يوم لمواقف إنسانية بخصوص عجز معظم السكان عن شراء الأدوية، وغالباً ما يتم إلقاء اللوم عليهم، أحياناً يتعرضون للشتم أو الضرب، وغالباً ما يخرج المرضى غير راضين عن الواقع الذي يعيشونه، إلا إنه وبحد وصفهم «ليس في اليد حيلة».
يقول صيادلة: «إن كان سيتم تعويض المعامل بالأسعار بحسب الآلية الجديدة، فمن سيعوضنا نحن. ارتفاع الأسعار يعني أن على الصيدلي أن يضخ مبالغ مالية إضافية كرأس مال جديد لتعويض النقص، غالباً هي ضعفي ما يملكه حالياً من أدوية، فمن أين سيأتي بهذه المبالغ؟». ويتساءلون أيضاً لماذا تمر كل الحلول من فوق رؤوسهم، ولا ينتبه لهم أحد، خاصة وأن أرباح الصيدليات في السنوات الماضية لا تكفي لسد الرمق، بحسب قولهم، بعد الارتفاع الكبير في الأسعار.
وعند سؤالنا لهم عن دور النقابة في إيجاد حل لهم، أخبرنا أحد الصيادلة من مدينة دمشق أن ندخل إلى صفحة النقابة على فيسبوك ونتبيّن الأمر. وعند تتبعنا للصفحة الرسمية لنقابة دمشق التي ترأسها علياء الأسد، ومتابعة التعليقات، وجدنا أننا داخل فرع أمن جديد، إذ يتم التنمر على الصيادلة، وتتضمّن التعليقات تهديدات مبطنة بإلغاء الحسم، ومتابعة الصيادلة، وردوداً حول أن بعضهم يكتب بأسماء مستعارة وأنهم يعرفونهم على مبدأ «كمشتك»، في الوقت الذي يجب فيه البحث عن حلول جذرية للمواطن والصيادلة للتخفيف من الأزمة الحاصلة.
من يعوض المواطن أيضاً؟ هو سؤال محق آخر بعد أن زادت أسعار بعض الأدوية لتتبعها أدوية جديدة، وتقدر نسبة الزيادة بين (60 -500%)، علماً أن راتب الموظف السوري لا يتجاوز 15 دولاراً شهرياً وفق أسعار الصرف الحالية، وفي أحسن الأحوال 40 دولاراً لبعض أصحاب المهن والمصالح، مع ارتفاع أسعار كل شيء، إذ تباع أنبوبة الغاز المنزلي في دمشق بثمانية وعشرين ألف ليرة، بينما يزيد سعر أي نوع من أنواع الفاكهة عن ثلاثة آلاف ليرة، وبات كل شيء بـ «الحسرة»، تخبرنا صبحية التي ما زالت تبحث عن أدويتها: «تعالو نموت أحسن، والله أحسن من هالعذاب».
الأدوية في مناطق سيطرة المعارضة والإدارة الذاتية
يزيد الأمر سوءاً في المناطق الخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة والإدارة الذاتية، لخلوهما من معامل تصنيع الأدوية، باستثناء معمل وحيد في مدينة إدلب. وتعتمد المنطقتان على إنتاج المعامل في مناطق النظام لتغطية حاجات السكان فيهما، ومع تدهور القطاع الصحي في مناطق النظام انعكس الأمر سوءاً فيهما، إذ كانت تباع الأدوية بزيادة عن تسعيرة وزارة الصحة بنحو (10 -20%)، بسبب أجور النقل والرسوم الجمركية في نقاط العبور والإتاوات المفروضة من الحواجز المنتشرة على الطرقات. ومع نقص الأصناف الدوائية، سيصبح من الصعب وصول الأدوية إلى هذه المناطق، إذ لا يغطي إنتاج المعامل السوق الداخلي في مناطق سيطرة النظام، وهو ما تسبب بأزمة دوائية في كافة الصيدليات التي فرغت معظم رفوفها.
بسؤالنا لبعض الصيادلة في هذه المناطق، قالوا إن معظم المستودعات أغلقت أبوابها منذ أسبوع، وكذلك الصيدليات، بعضها لعدم توافر الدواء وأخرى بغرض عدم بيعه، نتيجة للخسارة الكبيرة والفارق بين سعر البيع والشراء.
كذلك، تغيب أي حلول من الممكن اعتمادها في هذه المناطق عبر الاستيراد، وهو ما حوَّلَ السوق إلى سوق مفتوحة تباع فيها الأدوية على «الذمة»، إذ تُقدَّر الكلفة ويُضاف لها هامش ربحي بين (20 -25٪)، بحسب من التقيناهم، الذين قالوا إن توقف المعامل السورية سيؤدي إلى كارثة بالنسبة للجميع دون استثناء، فسعر الأدوية التركية يصل إلى عشرة أضعاف السورية، وهو ما لن يستطع أحد من السكان تحمله، ناهيك عن كلفة النقل وأرباح المستودعات، وليس هناك معامل لتعويض النقص الذي سيحصل لامحالة.
المصدر: الجمهورية نت