قراءة في كتاب “شهادة”: منازل الاوطان

أحمد العربي

نجاة عبد الصمد، كاتبة سورية متميزة، قرأت اغلب انتاجها الادبي، تنتمي للثورة السورية.

منازل الأوطان شهادة نجاة عبد الصمد في سلسلة شهادات سورية التي تحدثت عن الثورة والحدث السوري برعاية منظمات دولية.

تستمر نجاة عبد الصمد في شهادتها هذه كتابة رؤيتها عن حدث الثورة السورية من واقع معاناة الناس ومنعكسها عليهم، سارت على نهج كتبها السابقة؛ غورنيكات سورية وفي حنان الحرب، حيث تتحدث في قسم من شهادتها عمّا  قبل الحدث السوري؛ الثورة وما تلاها، مسمية ذلك “ما قبل الحرب”. وقسم آخر عن بعض اليوميات في ” الحرب” على حد تعبيرها.

 نجاة كما عهدناها في كتاباتها الاخرى، تغوص عميقا في الحالة الانسانية التي تكتب عنها، فهي تغوص في ذاتيات من تتحدث عنهم، وكأنها هم، ولا تهمل الجوانب الموضوعية لما عاشوا سواء قبل الثورة السورية أو أثناءها. وهي ابنة السويداء الطبيبة الدرزية المختصة بالجراحة النسائية، المثقفة، التي كتبت بشهادتها عن جميع مكونات الشعب السوري الدينية والعرقية، المسلمين السنة والعلويين والدروز والمسيحيين والعرب والأكراد والمسيحيين وكل مكونات الشعب السوري، في كل أماكن تواجدهم على رقعة خارطة سوريا امنا كلنا، قدمت شهادتها من واقع إيمانها بالمواطنة المتساوية التي تحمي كل مكونات المجتمع وتجعلهم متساوين أمام القانون وفي الحقوق والواجبات.

 كذلك أرادت نجاة أن تؤكد على واقع الظلم والاستبداد والمحسوبية والفساد والنهب.. الخ.  الحاصل من النظام المستبد على الشعب السوري، بحيث تجعل الثورة التي حصلت حتمية رغم ما فيها من مخاطر وأذى حاق و يحيق بالشعب السوري. وأكدت شهادتها أن النظام المجرم قد تجاوز كل الحدود، بإعلانه الحرب على الشعب السوري، لكونه أراد كسر طوق العبودية وطالب بالكرامة والحرية والعدالة والديمقراطية. لقد استشهد ما يزيد عن مليون إنسان ومثلهم مصابين ومعاقين ومئات آلاف المعتقلين وثلاث عشر مليون نازح ومهجر قسريا بين داخل سوريا وفي كل أرجاء العالم. لقد وضّحت نجاة موقفها المبدئي من حق الشعب بثورته، رغم كل ما شابها بعد ذلك من تدخلات دولية واقليمية جعلتها مقتلة للسوريين لمصالح أطراف دولية بما فيها الكيان الصهيوني. وما شابها من أخطاء وخطايا في المجال السياسي والعسكري للثورة السورية. كل ذلك لم يلغي مشروعية الثورة وضرورة استرداد حقوق الشعب ومحاسبة المجرمين بحق الشعب السوري…

تطرح ذلك نجاة في سياق شهاداتها دون مباشرة، بل من واقع معايناتها التي تحدثت عنها.

كما تحدثت نجاة في شهادتها عن مدينتها السويداء، رافعة الغطاء عمّا كان يتم تداوله سرا والمسكوت عنه علنا، وهو التحدث عن المكونات المجتمعية السورية، حيث كان النظام الطائفي السوري يحاسب من يتحدث عن علوية النظام و فئويته مثلا و عن بقية المكونات ويسجن وينكل به. فهي تتحدث عن السويداء المدينة المتربعة وسط جبل العرب ” الدروز” وان اغلب سكانها ريفا ومدينة من طائفة الموحدين الدروز، وعن أصولهم العربية واعتزازهم بدورهم العروبي والوطني منذ ما قبل استقلال سورية إلى الآن. تحدثت عن عقائدهم وإيمانهم بالتقمص ومرجعيتهم للحاكم بأمر الله الفاطمي، وانقسامهم بين اقلية تأخذ الدين وتمارسه واغلبية جسمانية أو زمنية تنتمي مجتمعيا للطائفة دون تبحر ديني. لكنهم يتصرفون مجتمعيا وبعلاقتهم مع الآخرين ككيان واحد، لا توسع ديني للدروز إلا ضمن مواليدهم الذين يعتقدون أنهم يعودون عبر ارواح الاسلاف الى الابناء. لهم مشايخ عقل مؤثرين ويقودون الحياة الدينية والمجتمعية عند الضرورة. لهم أيام تجمعاتهم الأسبوعية، حيث يرددون الاوراد والادعية. يتزوجون دينيا ويثبتون زواجهم في النفوس عند الدولة، متضامنون، لا يبادرون العداوة إلا على من يعتدي عليهم. من يخرج على توافقاتهم يرمون عليه “الحرم” ويصبح منبوذا.

أما الجانب الحياتي الممارس في سوريا الحديثة فقد تحدثت نجاة عن دور سلطان باشا الأطرش في ثورة ١٩٢٥م، الثورة السورية الكبرى ضد الاستعمار الفرنسي. وان الدروز كانوا منخرطين في كل المناشط المجتمعية والسياسية السورية، التحقوا بحزب البعث والقوميين السوريين والأحزاب الناصرية، وكانوا مثل كل السوريين يدارون ظروفهم ليؤمنوا لقمة عيشهم.

تحدثت نجاة عن تعايش الدروز أهل الجبل مع أهل السهل درعا “حوران” السنة، وعن تعاملاتهم المجتمعية لمصالح مشتركة. كذلك البدو الرعاة الذين توافقوا مع أهل السويداء وتبادلوا معهم الأعمال والمصالح.

اما ايام الثورة فقد التحق بها أغلب المثقفين من ابنائها وشاركوا مع اخوتهم السوريين في كثير من البلدات والمدن، خاصة في المرحلة السلمية.

حاول النظام أن يشتري مواقف المكونات المجتمعية الدينية والعرقية، وادّعى انه يحميها من المسلمين السنة الذين وصمهم بالتطرف والإرهاب. وصنع سببا للصراع بين البدو واهل السويداء، قُتل بيد النظام عشرات الشباب الذين هبوا للدفاع عن أملاكهم بعد أن قَتل بدوي درزي في أرضه، وعمل النظام على اعتقال الناشطين الثوريين، وشكل بنية عسكرية، لجان الدفاع الوطني من الشباب الدرزي بمباركة من مشايخ العقل. هذه المجموعات التي كان لها دور سيء في النهب والسلب في كل بلدة يوجهون إليها بأمر من النظام. لقد دفعوا بعض الدروز للتورط بدم السوريين في المناطق المحيطة بهم وجعلهم تابعين للنظام واجندته كل الوقت، وضمن منطق حماية الذات بأي ثمن.

لكن جبل العرب لم يستكن لذلك فخرج الشيخ وحيد البلعوس وشكل رجال الكرامة المعبر عن موقف وطني يرفض الظلم منهم وعليهم، وأن يمنع تورط الدروز في دم السوريين، اخوتهم. لكن النظام لم يترك له فرصة ليصحح أخطاء مشايخ العقل و لجان الدفاع الوطني، قُتل بعمل تفجيري، وعادت السويداء لتكون مسيطرا عليها من النظام واذنابه واجندته. ولو لم ينتهي رجال الكرامة و بقوا جمرا تحت الرماد.

ينتهي تدوين ما تحدثت عنه في السويداء نجاة في عام ٢٠١٨م تقريبا، وواقع الحال أن النظام استمر يجد صعوبة في التعامل مع السويداء وأهلها وشبابها. خاصة استمرار رفضهم الالتحاق بالجيش النظامي والخدمة الالزامية خارج السويداء وان لا يزجون في معارك النظام في كل بقاع سوريا ضد الشعب السوري الثائر في الفترة السابقة. وما تزال العلاقة بين النظام والسويداء بين شد ورخي، وما زال الجمر تحت الرماد هناك.

تنهي نجاة عبد الصمد شهادتها بنص مهم ومؤثر بعنوان : “ستكون سوريا أو تصمت”، نعم ان الثورة السورية قد نقلت الناس من موقع الخانع الساكت المظلوم، إلى حال المطالب بحقوقه وأن الكثير من التضحيات حصلت، شهداء وبلاد خراب وهجرة، لكن حلقة الاستبداد كسرت ولا عودة للاستبداد والاستعباد ثانية. وان الثورة اعادتنا للوطنية السورية المتساوية على قاعدة الحقوق والقانون والواجبات والديمقراطية. أعادت تموضع كل سوري من أي مكون كان: ديني او طائفي او عرقي. أن يكون سوريا اولا وبعد ذلك ستكون الروابطك المجتمعية داعما لهذه المواطنة التي تبني سوريا الغد، دولة الحقوق والعدالة والحرية والكرامة الإنسانية والحياة الأفضل.

هذا ما يجب أن نعمل عليه جميعا…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى