قراءة في كتاب : سؤال المصير١ من ٨  ||   قرنان من صراع العرب من أجل السيادة والحرية

أحمد العربي

د برهان غليون مفكر سوري ومدرس في الجامعات الفرنسية منذ عقود. اهتمت دراساته بالشأن الاجتماعي السياسي لسوريا والعالم العربي . كان باكورتها منذ نصف قرن كتاب بيان من أجل الديمقراطية ، كاشفا بنية الانظمة الاستبدادية العربية وفسادها وتبعيتها للغرب أو الشرق، وضرورة العمل لأجل الحرية والعدالة وبناء الدول الديمقراطية في بلداننا العربية، ومازالت الدعوة قائمة وضرورتها ملحّة أكثر. كما انه افرد للواقع السوري النظام والمعارضة كتاب عطب الذات حيث أعاد تسليط الضوء على واقع نظام الاستبداد السوري الذي اجرم وتوحش بحق الشعب السوري بعد ثورته التي حصلت في ربيع ٢٠١١م. وما تلاها من تداعيات، كما طال كتابه المعارضة السورية عيوبها ونواقصها. وأشار إلى آفاق المستقبل واحتمالاته. وقد كتبت سلسلة نصوص حول الكتاب ونشرته في مواقع عدة.

اتابع د برهان مفكرنا منذ عقود قراءة ثم حضور بعض محاضراته التي حصلت في دمشق أيام ربيع دمشق بعد تولي الأسد الابن السلطة في سوريا والانفراجة الوهمية للحريات وافتتاح المنتديات التي كان د برهان ضيفا عليها، وسرعان ما أغلق النظام تلك المنتديات لانها تجاوزت سقف “وهم” الحريات التي ادّعاها النظام وقتها، متوجا إغلاقها باعتقال ناشطيها …

بعد الثورة السورية وتطوراتها داخل سوريا من النظام والمعارضة والجيش الحر. النظام بعد ذلك توحش في مواجهة الشعب الثائر قتل واعتقال وتهجير وتدمير للبلدات والمدن الثائرة. قتل مئات الالوف واعتقل مثلهم وهرب الملايين من السوريين ملتجئين في جميع أنحاء العالم…

بعد سنوات على الثورة.

استضفت عبر برنامج على الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي مع زملاء آخرين د برهان في  حوارات سورية لكثير من المرات وتحدث فيها عن المستجدات وراجعنا واقع سوريا منذ نشأتها حتى مستجدات الثورة …

اعتقد ان د برهان المرجع الأهم لتحليل الواقع السوري ومستجداته عربيا ودوليا…

في كتاب د برهان الجديد : سؤال المصير “قرنان من صراع العرب من أجل السيادة والحرية” يعود إلى أصل طروحاته السياسية ودراساته. متتبعا العلاقة بين الغرب الاوربي الامريكي والمشرق العربي الإسلامي منذ قرون مضت. ليؤكد على انّ أصل مشكلات العرب هي الهيمنة الغربية علينا بأشكالها المختلفة وبناء أنظمة استبدادية تابعة للغرب. تعمم الهيمنة والنهب، تدعم الكيان الصهيوني الذي زرعته، الذي يقوم بذات الدور في بلادنا العربية، هذا غير جريمة قتل الفلسطينيين وتشريدهم وقيام كيان غاصب على أرضهم…

في كتابه هذا يعود إلى بداية العلاقة بين الغرب والعرب والمسلمين منذ قرون، متتبعا تغلغلها في بلادنا واستعمارهم لها ثم هيمنتهم على أنظمتها، وفي كل نهب ثروات هذه البلاد ومنع شعوبها من أن تحقق الحرية والعدالة وتبني دولها الديمقراطية وأن تأخذ بأسباب التقدم عبر الحداثة والعقل والعلم وحرية الرأي وجميع شروط الحياة الديمقراطية…

يبدأ الكتاب في مقدمة تعتبر مدخلا توضيحيا للكتاب وفصوله… ثم: فصل اول:

 

وعي التاريخ : هل قاوم العرب والمسلمون الحداثة؟.

يبدأ هذا الفصل من الدعوى التي أطلقها كثير من المستشرقين وبعض البحّاثة العرب والمسلمين، وكثير من المثقفين العرب الذين يصنفون أنفسهم بأنهم علمانيين واغلبهم يسير في ركاب الغرب والانظمة الاستبدادية العربية التابعة، بأن العرب والمسلمين لا يستجيبون للحداثة التي تحكّم العقل والعلم و تؤمن بقيم الحرية والعدالة والديمقراطية، ويرفضونها لاعتبارات بنيوية فيهم كعرب وعقائدية بسبب اعتقاداتهم الإسلامية. انهم يرفضون الحداثة والعلم وبناء الحياة الأفضل وفق أدوات الحداثة وأساليبها الحديثة التي نشأت  قبل قرون في عصر النهضة العلمية والصناعية الغربية.

الجواب عند د برهان هو أن ذلك ادعاء غير صحيح تثبته وقائع التاريخ، وان وراء هذا الادعاء أسباب مصلحية للغرب والأنظمة التابعة له في بلادنا…وفصّل في ذلك:

ولادة المثقف الحديث:

 

عاد د برهان في التاريخ إلى مرحلة بداية التوسع الغربي الاستعماري في القرن الثامن عشر وما بعده ، حيث كان هناك وجهان للتطور الرأسمالي الغربي أولهما الأخذ بالعقل والعلم والحرية والحداثة لبناء الحياة الافضل في الغرب الذي خرج بنهضتها من صراع القرون الوسطى وهيمنة الإمارات الإقطاعية وسلطة الفاتيكان الدينية . أما الوجه الآخر لهذا الطور الرأسمالي الغربي هو نشوء الصناعة والبحث عن مصادر للمواد الأولية وتصريف المنتج، مما جعل الغرب يتجه بشكل مباشر ليتوسع في جميع أنحاء العالم بشكل استعماري وخاصة في بلاد المشرق العربي الإسلامي حيث كانت مازالت تحت الحكم العثماني. الذي كانت تسميته الغربية حكم الرجل المريض. تلك السلطنة الممتدة لبلاد كثيرة لم تستطع أن تواكب التطور العلمي وأن تلحق عصر الحداثة، فكانت غنيمة محتملة للغرب يعمل بشكل دؤوب الى استغلال ضعفها في ذلك الوقت والتجهيز لأجل اقتسامها اوروبيا بعد حين. لقد عمل الغرب على اختراق السلطنة العثمانية بطبقة من المثقفين يؤمنون بضرورة التغيير في السلطنة ولكن عبر تدميرها. هذا غير الشروط والضغوط مثل الاتفاقات والامتيازات وفرض الدستور … التي وضعها الغرب بالاجبار على سلاطين العقود الاخيرة للدولة العثمانية .

كانت الحملة الفرنسية فى ١٧٩٨م على مصر بداية الصدمة الحضارية بين حداثة الغرب وتأخر الشرق العربي المسلم. حيث جاء نابليون محملا بكثير من أدوات البحث والتقصي والعلماء وقام بدراسات جعلت مصر في حالة استنفار داخلي ينتظر مستقبلا مختلفا. صحيح ان نابليون عاد بعد ثلاث سنوات إلى فرنسا وان حملته ومن بقي بعده فشلت لكنها تركت بذور التفكير بضرورة استنبات الحداثة في مصر، درة الدولة العثمانية حيث كانت قد أرسلت محمد علي باشا واليا عليها بعد انسحاب الحملة الفرنسية منها، وبدأ محمد علي عصره في إرسال المبعوثين إلى أوروبا لأجل دراسة كيفية استنبات الحداثة والعلم والتكنولوجيا في مصر. فكان ارسال رفاعة الطهطاوي وغيره لأجل ذلك، الذي ذهب وعاد يحمل الانبهار من الغرب وتقدمه وضرورة  الأخذ بالوسائل والأساليب التي اعتمدها .

هذا غير الدور الذي قام به رموز المجددين الدينيين في ذلك العصر عمر مكرم الذي واجه نابليون متحديا ورفضا استعمار فرنسا لمصر. وكذلك جمال الدين الأفغاني الذي جاء الى مصر محملا بضرورة العمل الأخذ بأسباب التقدم الغربي وأن ذلك لا يتناقض مع الاسلام بل بالحقيقة أن الاسلام يحض عليه. حيث انتقل من مصر بعد ذلك إلى فرنسا وأصدر العروة الوثقى كدعوة تنويرية تؤكد هذا المضمون. وأسس لما سيسمى المؤتمر العربي الأول في باريس، عبر لقاء بين مثقفي العرب للعمل لنهضة عربية حداثية في البلاد العربية التي ستتحرر لاحقا من العثمانيين… لكن ذلك لم يحصل لان للغرب خططا اخرى .

انتقل الأفغاني بعد ذلك الى الاستانة اسطنبول مركز السلطنة العثمانية مشجعا السلاطين على ذلك. لكنه لم يفلح …  وتابع بعده في مصر محمد عبده شيخ الإسلام ومن ثم تلميذه رشيد رضا وكلهم يدعون الى الأخذ بوسائل العلم والحداثة وصناعة التقدم والحياة الأفضل للناس . انعكس هذا على محمد والي مصر العثماني الذي ألغى تبعيته للسلطنة العثمانية وبدأ ببناء دولته الحديثة بدعم من فرنسا ذلك الوقت. توسع بالصناعات الحربية وغيرها وقام بأدوار في المنطقة تثبت حضوره كدولة صاعدة، توسع ابنه باتجاه بلاد الشام ووصل الى حدود الاستانة اسطنبول عاصمة الدولة العثمانية. صنع اسطولا بحريا كبيرا وقويا. وبدأ يظهر قوة تهدد مصالح الغرب الرأسمالي الذي كان يخطط الى استعمار هذه البلاد بعد ان يسقط السلطنة العثمانية. لذلك كان قرار الغرب المتصارع في مصالحه الرأسمالية ممثلا في بريطانيا وفرنسا ولكن المتوحد على وأد أي محاولة تقدم وحداثة ونجاح من العرب والمسلمين عموما. توحد الغرب كله وقضى على قوة محمد علي وجيشه وأعادوه ليكون واليا ضعيفا على مصر: حكما وراثيا لأولاده من بعده، وتجريده من كل إمكانيات صناعة دولة قوية. وتحويل مصر من مشروع دولة صاعدة حديثة متقدمة الى دولة تابعة تلتزم بما يطلبه الغرب منها سوقا لتصريف منتجاتها، ومركزا لتوريد مواردها الأولية بأبخس الأثمان كما تتطلب مصلحة الغرب، زراعة القطن وتصديره للغرب مثلا…

هكذا بدأت ملامح العلاقة بين الغرب الأوربي وبين العرب والمسلمين. منعهم من الأخذ من وسائل التقدم العلمي والحداثة واستثمار خيراتهم وبناء حياتهم الافضل. ودعم الأنظمة المهيمنة عليهم وجعلها تابعة للغرب ومصالحة بالمطلق وخلق منظومة فكرية اعتمدها كثير من المستشرقين تؤكد عجز العرب والمسلمين عن مواكبة الحداثة والتقدم، موجودة بنيويا في تكوينهم البشري كأسوأ أشكال العنصرية. وفي عقيدتهم الإسلامية التي تجعلهم متخلفين وغير عقلانيين. وهذا ما فنّده رواد النهضة…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى