أحمد عبد الكافي الحمادة روائي سوري ، هذا أول عمل روائي أقرأه له. ورواية أبناء الطين مكتوبة بطريقة الخطف خلفاً أحياناً وأحياناً حيث يسرد خالد الجد الاكبر لعشيرة الشلال وأبناء قرية الشلال المسماة على اسم جدهم الاكبر، قصة ما حصل مع اهل القرية الواقعة على كتف جبل شبيث شمال البادية السورية بالقرب من بلدة خناصر جوار مدينة حلب السورية وذلك قبل ما يزيد عن قرن ونصف من الزمان، سوى ما ارتبط في أذهان الناس عن أحداث كبرى وقعت في نهاية القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، فنحّتها الرواية جانبا واهتمت على نحو خاص بالإنسان الريفي البسيط الذي ظل متناهبا بين عالمين عالم البدو وعالم آخر.
يجلس الحفيد د بسام في حضرة جده مؤسس العشيرة الثاني يكتب ويسجل اعادة سرد تاريخهم الحافل والغريب، هذه العشيرة التي وصل اعدادها للمئات. اولاد واحفاد وأحفاد الاحفاد وكلهم من نسل خالد المؤسس الذي ولد مقعدا ومازال على قيد الحياة حتى لحظة رواية سيرة ماضيهم. تمتد أملاكه في حلب وحولها لمساحات كبيرة من الأراضي، هذا غير البيوت والقصور والأعمال التجارية الكبيرة.
فالأسلوب بناء لغوي مثير يعمد بكل ما يملك من أدوات لشد انتباه القارئ وجعله يتابع الرواية حدثا حدثا، بل، يصبح مشاركا في الأحداث وشاهدا عليها، وهذا إن دلَّ على شيء؛ فإنما يدل على الصنعة الأسلوبية التي يمتلكها الروائي، ويعتمد الكاتب هنا السرد الروائي المتشعب والمتداخل والمعقد أحياناً بمتابعة الأحداث في الازمان والاماكن التي تشيد البناء الهرمي للرواية والمتعدد الأصوات الروائية لبناء حدث تراكمي من جزئيات متناثرة هنا وهناك يلتقطها الرواة بخفة، ليصبّها بقالبها الروائي الذي اعتمده، وتتبع سرد المعلومات التي توارت لأكثر من قرن لتكتمل معالم الحكاية، بحيث جعلتنا كقراء مشدودين لهذه الملحمة التاريخية لعيش جماعة بشرية في قرية نائية بين الحضر والبدو، مع ما صاحب ذلك من غزو وقتل جماعي وتدمير للقرية وهروب وانتقام وحضور إرادة الحياة وصناعة مستقبل لأهل القرية التي أراد البدو يوما ما في أواخر القرن التاسع عشر ابادتها…
ونحن هنا نعيد سرد الحكاية وفق تسلسلها الزمني مقاطعين كل المعلومات بحيث تكتمل معالمها الأساسية ومآلاتها…
قرية الشلال المحاذية لجبل شبيث التي يسكنها أحفاد الجد المؤسس شلال والتي تعتمد على الزراعة وتربية المواشي ، يعرفون ان جدهم الاول شلال قد استقر بهم هنا وصنع وجودهم وحياتهم، كانوا على الحدود بين البادية والحضر، يعتبرون أنفسهم في مأمن عن أنظار السلطة العثمانية التين كانت تأخذ الشباب الى عسكرهم والمال والارزاق جباية أو غصبا، خاصة في الحروب…
تعيش قرية الشلال وفق نظام تضامني اجتماعي وفق نهج متعارف عليه، وكبير القرية ورجلها كان يديرها بحنكة واقتدار. تبدأ الأحداث في حوالي منتصف القرن التاسع عشر
حيث يقود القرية الشيخ حميد كبيرها، ويتميز ابنه ذيبان بأنه فارسها وأفضل رجالها وحاميها من أعدائها. ولانها واقعة في جوار البادية حيث يسكن البدو الرحل المتنقلين بمواشيهم، ولان اجواء البداوة والرعي تتغير بين فصل وآخر كان لابد من تعدي البدو ومواشيهم على زروع القرى المجاورة لهم ومنها الشلال، او يغيرون بقصد السطو والحصول على المغانم من أرزاق ومواشي. وكان لا بد من رد هذا الاعتداء وتحصل مناوشات واحيانا اطلاق نار وقد يقتل بعض أهل القرية وبعض الغزاة. فالحياة في تلك البقاع تسير على هذا النحو وكان ذيبان قائد شباب القرية المدافعين عن القرية وأهلها وارزاقها. انتدب نفسه للبحث عن هؤلاء الغزاة الذين يعتدون على القرية بين حين وآخر…
أما عند قبائل البدو فلم يكونوا كلهم على شاكلة واحدة. فالبعض أدرك أن عيش الغزو ينفع لبعض الوقت لكنه يورث الضغينة والانتقام الذي يجعل الحياة تحت الخطر كل الوقت. لذلك قررت قبيلة العبس ان تبتعد عن الغزو، لكن أحد أبنائها الذيب الاحمر خرج عن طوع القبيلة وجمع حوله قطاع الطرق والخارجين عن شور قبائلهم وبدأ يغزو القرى المجاورة ويسرق ويقتل دون رادع، كل ذلك يحصل ولا دولة في تلك البقاع المنسية بين البادية والحضر السوري…
لكن متغيرا حصل في حياة الذيب الاحمر جعلته يقرر ابادة قرية الشلال. لقد اتهموا ذيبان ذلك الخيّال الذي كان يترصدهم ويتابع حياتهم حتى يعرف كيف يرد غزواتهم. اتهموه بأنه هو من خطف ابنة القبيلة وهذا عار عليهم يرونه ولا بد من رد وفق اعرافهم، والحقيقة أن الفتاة هربت مع من تحب من حماة وتزوجت هناك. لم يكونوا يعرفون ذلك، بل اتهموا ذيبان بخطف الفتاة، وقرروا الاغارة على قرية الشلال وابادة اهلها. واجههم ذيبان وشباب القرية، قاتلوا ببسالة لكن أولئك كانوا أكثر عددا وعدة، قُتل الكثير من المهاجمين لكن في المقابل قُتل شباب القرية كلهم. ولم يبق من القرية إلا الطفل المقعد خالد بن ذيبان الذي حمته أمه وبعض النساء، اللاتي اختبأن في الحرش المجاور للقرية اولا في أثناء الغزو، ثم حملوا كل ما في حوزتهم من مواد غذائية ومواشي وهربوا بعيدا عن القرية، خوفا من عودة الغزاة أو من الوحوش الضارية التي تجتمع على مئات الجثث المرمية في القرية…
جمعت ام خالد زوجة ذيبان المرأة الحكيمة العاقلة القوية الشكيمة. نساء القرية وابنها المقعد الوحيد الباقي ذكرا من أهل القرية، وهربوا خارجها بحثا عن مكان آمن ، ليعرفوا كيف يدبروا أنفسهم بعد حين…
جعلت ام خالد نفسها قائدا للنساء بحكم الأمر الواقع حمت المواشي وجدوا مغارة اعتصموا بها. سوروها أولا بأول حماية من الذئاب والضواري. أشعلوا النار في لياليهم وبدأوا يفكرون باليوم التالي. اطلعوا على جوار المغارة وجدوا أشجارا وحرشا بدأوا يطعمون مواشيهم. ويقتصدوا بطعامهم و يتدبروا أمورهم اولا بأول…
خالد الذكر الوحيد الذي أنجبه ذيبان من زوجته عمره الآن يزيد عن الأربع عشرة سنة. وفكر امه ينصب على أن عشيرتهم يجب ألا تزول، بعد موت رجال القرية ومنهم زوجها ذيبان، كما كانت تعتقد، ويجب أن يكبر خالد ويتزوج من نساء القرية اللواتي قتل ازواجهنّ وينجبون رجالا يعيدون العشيرة الى الوجود ويتجهزوا ليوم الانتقام. وبالفعل وصل خالد لسن البلوغ ، اقنعت ام خالد أربع نساء بالزواج من خالد دفعة واحدة. وهكذا حصل، اصطحبتهم إلى حلب حيث كان لزوجها صديق مخلص له كان يسوّق عن طريقه ما ينتجون من مواشيهم وأرضهم. تزوج خالد وبدأت النساء بالحمل . اولهنّ انجبت ثلاث توائم وتوفيت من الارهاق وعدم العلاج. وكانوا نواة رجال العشيرة الجديدة. وهكذا دواليك استمر التزويج والتطليق حتى تزوج خالد كل نساء القرية القادرات على الانجاب تقريبا… سيصبحون بعد سنوات طويلة بالمئات أولادا وأحفادا واحفاد الاحفاد…
ولم تمض على المذبحة وهروب نساء القرية سبعة أشهر حتى قررت ام خالد ان يعودوا الى القرية ليعيدوا خلق أسباب العيش لأن العيش في المغارة لا يعوض نقص حاجاتهم الدائمة التي تنضب من بين أيديهم. وان الزمن الذي مضى كان كافيا حتى تزول الأوبئة، بالفعل عادت ام خالد ونساء القرية وخالد ابنها الوحيد وبدؤوا من جديد إعمار بيوتهم وتجميع عظام قتلاهم ودفنها…
صحيح ان خالد كان مقعدا لكن الله عوض عليه بالعقل والذكاء. وكان والده قد أحضر للقرية قبل غزوها شيخا للجامع الذي بنوه بالقرية وهو في نفس الوقت معلم للأولاد … تبين نبوغ خالد الصغير وتشربه للعلم و انهماكه بالقراءة، يقرأ كل شيء حتى وصل الشيخ إلى وقت اعلن لأبو خالد انه لم يعد لديه ما يقدمه للطفل العبقري. ويحتاج ان يتابع دراسته في حلب. لكن الغزو الذي حصل اوقف رحلة تعلم خالد ومتابعة قراءته… الى حين… حيث يتابع القراءة بعد وقت وتشرب المعرفة من مكتبات حلب عبر عشرات السنين حتى آخر لحظة في حياته.
على مستوى آخر كانت ام خالد على يقين بأن زوجها ابوخالد قد قتل مع رجال القرية الذين دافعوا عن القرية. لكن الحقيقة ستعرف بعد مضي عشرات السنين ان ذيبان ابو خالد علم بما حصل لأهل القرية. واعتقد انهم قتلوا جميعا. لذلك انتدب نفسه لمهمة الثأر من القتلة وقتلهم جميعا. تربص بهم فردا فردا وتباعا ومع مضي الوقت وكان قتل الذيب الأحمر أهم عمل أنهى من خلاله ظاهرة البدو وقطاع الطرق هذه . وكان يحضر نفسه بعد عمر أمضاه في انتقامه ان يعود الى اهله وناسه لكن المرض داهمه ومات دون ان يعرف مآلات أهل قريته وزوجته وابنه…
بعد أن عادت القرية لسابق عهدها وبمرور السنين وزيادة المواليد ذكورا واناث من نسل خالد وتوسع عملهم الزراعي وفي المواشي. بدأوا ينقلون محاصيلهم ومواشيهم للبيع في خناصر و حلب وزاد الخير عليهم كثيرا. وكان ان مرّ على قريتهم قافلة لجنود عثمانيين فيها عدد من عساكر وضباط محملة بصناديق. دخلوا القرية أكلوا عندهم وغادروا. كان ذلك أواخر الحكم العثماني لسوريا. راقبوا القافلة وهي تغادر تحسبا من عودتهم واكتشفوا انهم خبأوا الصناديق في مغارة وموهوها. وبعد ذلك علمت ام خالد وخالد أن العثمانيين قد رحلوا من سوريا. ذهبت ام خالد وابنها واولاده الشباب الثلاثة الأكبر. وفتحوا الصناديق المخبأة ووجدوها ممتلئة بالذهب. عادوا بها واخفوها سرا في القرية ولم يعلم أحد بها. وهكذا بدأ يفكر خالد وأمه وابناؤه بالتوسع اتجاه حلب. بدأوا بشراء الأراضي والبيوت والقصور. وبدؤوا يتزوجوا من اهل حلب وأصبح لهم بيوتهم واملاكهم الكبيرة. التي اسستها الام وابنها وأولاده الكبار . تمر الأيام بعد ذلك وتموت أمه ونساء العائلة الكبار وبعض زوجاته وحتى بعض أولاده . ويصل خالد الى سن المائة وخمس من السنين. وكان مازال قادرا على الزواج والإنجاب ، آخر زواج له كان بعد سن المائة وأنجب منها طفلا…
يجلس خالد واولاده واحفاده يعطيهم دروس الحياة ويعيد سرد حكاية القرية وأحوالهم وتتقاطع معلوماتهم مع دكتور صديق لحفيده من أصول بدوية جوار بلدتهم يخبرهم عن قصة أبو خالد والده الذي لم يمت وانتقم لأهل القرية جميعا.
عند ذلك يعيش خالد احساس انه أتم رسالته ومات عن عمر تجاوز المائة وخمس سنوات.
في التعقيب على الرواية اقول:
الرواية رائعة من تتبعها لحياة البداوة والحضر في حقبة لم يسلط الضوء عليها كثيرا. وكذلك لكونها مسبوكة بطريقة تجعل القارئ يتابع بلهفة الحدث ويكتشف معادن النساء والرجال، صانعي المستحيل الذين يخلقون حياة من عدم.
لا يبقى إلا الأصلح، وكل سوء يعود على صاحبه. بشّر القاتل بالقتل ولو بعد حين، كل غارس شجرة وراعيها يأكل من ثمارها ويتفيأ بظلها. لا يضيع معروف في أهله. اعمل فإن العمل هو الحياة… والدروس تتالى ، هي كثيرة.
تمنيت لو ان القصة حقيقية لاعيش الاعتزاز بأهلنا المغمورين بالنسيان الذين صنعوا المستحيل في زمن امتد لأكثر من مئة سنة…